قهوة الصباح

المجد والاكتئاب “9”

| سيد ضياء الموسوي

يكثرون‭ ‬عليك‭ ‬قبلة،‭ ‬وأنت‭ ‬توزع‭ ‬كل‭ ‬الشفاه‭. ‬يتمتمون‭ ‬ويرقصون‭ ‬مع‭ ‬الفرح‭ ‬وأنت‭ ‬نائم‭ ‬على‭ ‬رصيف‭ ‬عذاب‭. ‬يسهرون‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬محشورا‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬الغياب‭. ‬يضحكون‭ ‬وأنت‭ ‬تربت‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬دمعك‭ ‬وتواسي‭ ‬جفنك‭ ‬وتخيط‭ ‬لك‭ ‬من‭ ‬المناديل‭ ‬قطع‭ ‬ثياب‭. ‬تبتسم‭ ‬ابتساماتك‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬عتاب‭. ‬يتبادلون‭ ‬الهدايا‭ ‬ودعوتك‭ ‬منسية،‭ ‬وأنت‭ ‬رفيق‭ ‬الضباب‭. ‬يقول‭ ‬ديستوفيسكي‭ ‬أديب‭ ‬روسيا‭ ‬الأعظم‭ ‬“الزهور‭ ‬التي‭ ‬ستشتريها‭ ‬عند‭ ‬زيارتك‭ ‬لقبري‭ ‬لا‭ ‬داعي‭ ‬لها،‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬أن‭ ‬تبكي‭ ‬فوق‭ ‬رأسي‭. ‬‏اشتري‭ ‬ساندويتش،‭ ‬وأعطيه‭ ‬لحارس‭ ‬المقبرة”‭. ‬هكذا‭ ‬هم‭ ‬عظماء‭ ‬المجد‭: ‬تكدس‭ ‬غربة،‭ ‬غدر‭ ‬قدر،‭ ‬استحالة‭ ‬حضن‭ ‬دافئ‭ ‬إلى‭ ‬أفعى،‭ ‬وسوسة‭ ‬حنين‭ ‬تنخر‭ ‬في‭ ‬شجر‭ ‬غابة‭ ‬قلب‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬الاحتراق‭. ‬قليل‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يجدون‭ ‬الرثاء‭ ‬الصادق‭ ‬كرثاء‭ ‬نزار‭ ‬قباني‭ ‬لحبيبته‭ ‬بلقيس‭ ‬أو‭ ‬لابنه‭ ‬توفيق‭ ‬الذي‭ ‬رثاه‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬مرتلا‭ ‬“مكسَّرةٌ‭ ‬كجفون‭ ‬أبيك‭ ‬هي‭ ‬الكلمات،‭ ‬ومقصوصةٌ‭ ‬كجناح‭ ‬أبيك‭ ‬هي‭ ‬المفردات،‭ ‬فكيف‭ ‬يغني‭ ‬المغني‭ ‬

وقد‭ ‬ملأ‭ ‬الدمع‭ ‬كل‭ ‬الدواة؟‭! ‬وماذا‭ ‬سأكتب‭ ‬يا‭ ‬بني،‭ ‬وموتك‭ ‬ألغى‭ ‬جميع‭ ‬اللغات؟‭... ‬لأي‭ ‬سماء‭ ‬نمد‭ ‬يدينا؟‭ ‬ولا‭ ‬أحدا‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬لندن‭ ‬يبكي‭ ‬علينا‭..‬‭ ‬يهاجمنا‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬صوب‭.. ‬ويقطعنا‭ ‬مثل‭ ‬صفصافتين‭ ‬فاذكر‭ ‬حين‭ ‬أراك‭ ‬عليا،‭ ‬وتذكر‭ ‬حين‭ ‬تراني‭ ‬الحسين‭. ‬أشيلك،‭ ‬يا‭ ‬ولدي،‭ ‬فوق‭ ‬ظهري‭ ‬كمئذنة‭ ‬كسرت‭ ‬قطعتين”‭.‬

ورغم‭ ‬الحزن‭ ‬حلق‭ ‬نزار‭ ‬في‭ ‬السعادة،‭ ‬لم‭ ‬ينس‭ ‬العشق،‭ ‬وتجول‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬وسويسرا،‭ ‬والأندلس‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الجمال،‭ ‬تاركا‭ ‬حزنه‭ ‬لطبيب‭ ‬ماهر‭ ‬اسمه‭ ‬الزمن‭.‬‭ ‬يرمم‭ ‬نفسه‭ ‬بالطبيعة،‭ ‬ويحمى‭ ‬وعيه‭ ‬بالحضارة،‭ ‬وجمال‭ ‬الفن‭ ‬الإنساني‭. ‬على‭ ‬عظيم‭ ‬المجد‭ ‬ألا‭ ‬يهندس‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬بشري‭ ‬أو‭ ‬يخنق‭ ‬وجوده‭ ‬في‭ ‬زقاق‭ ‬فكري‭ ‬أو‭ ‬حزبي‭. ‬عنوانه‭ ‬ألا‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬عنوان،‭ ‬لا‭ ‬هو‭ ‬بتقليدي،‭ ‬ولا‭ ‬هو‭ ‬حداثي،‭ ‬ولا‭ ‬كلاسيكي،‭ ‬ولا‭ ‬رومانسي‭ ‬أو‭ ‬ماضوي‭ ‬أو‭ ‬انطباعي‭ ‬أو‭ ‬سريالي،‭ ‬لا‭ ‬هو‭ ‬شرقي‭ ‬ولا‭ ‬غربي،‭ ‬هو‭ ‬“فخفخينة”‭ ‬حضارات‭ ‬وكوكتيل‭ ‬بشري‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬الجمال‭. ‬

لا‭ ‬تخنقوا‭ ‬أنفسكم‭ ‬بعين‭ ‬امرأة،‭ ‬ولا‭ ‬بمدينة‭ ‬جميلة‭ ‬أو‭ ‬بريق‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬بتضخم‭ ‬رصيد‭ ‬مالي‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭ ‬قاتلة‭ ‬أو‭ ‬مجد‭ ‬متآكل،‭ ‬بل‭ ‬خذوا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬قطعة‭ ‬لتبنوا‭ ‬مجد‭ ‬سعادتكم‭ ‬عبر‭ ‬كوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بودلير‭ ‬في‭ ‬قصيدة‭ ‬السُكْر‭ ‬“اسكروا‭.. ‬كي‭ ‬لا‭ ‬تكونوا‭ ‬ضحايا‭ ‬معذبين‭ ‬للزمن‭ ‬لابد‭ ‬لكم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تسكروا‭ ‬بلا‭ ‬هوادة‭. ‬ولكن‭ ‬بماذا؟‭ ‬بالسكر‭ ‬أو‭ ‬بالشعر‭ ‬أو‭ ‬بالفضيلة،‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬تهوون‭ ‬ولكن‭ ‬اسكروا”‭. ‬

التعلق‭ ‬بالأشياء‭ ‬هوسا‭ ‬وجنونا‭ ‬هو‭ ‬مرض‭ ‬سيكولوجي‭ ‬نكابر‭ ‬على‭ ‬معرفته‭ ‬وعلاجه‭. ‬هو‭ ‬تحايل‭ ‬لترميم‭ ‬شيء‭ ‬انكسر‭ ‬بداخلنا‭ ‬في‭ ‬طفولة‭ ‬معذبة‭ ‬أو‭ ‬حرمان‭ ‬أم‭ ‬أو‭ ‬قسوة‭ ‬أب‭ ‬أو‭ ‬خنجر‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬تعاسة‭ ‬تكدس‭ ‬مال‭ ‬أو‭ ‬غربة‭ ‬وطن‭ ‬أو‭ ‬خيانة‭ ‬حبيبة‭ ‬أو‭ ‬توحش‭ ‬قدر‭ ‬أو‭ ‬سقوط‭ ‬مجد‭ ‬أو‭ ‬توحش‭ ‬مرض‭. ‬

كلنا‭ ‬معذبون‭ ‬وكل‭ ‬يجر‭ ‬وحشه‭ ‬الذي‭ ‬يأكل‭ ‬سعادته،‭ ‬ولكن‭ ‬قوتك‭ ‬أن‭ ‬تعالج‭ ‬نفسك‭ ‬بكوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬ولا‭ ‬تخطئ‭ ‬المسار‭ ‬في‭ ‬التعويض‭. ‬

باولو‭ ‬نيرودا‭ ‬الشاعر‭ ‬الشيلي‭ ‬اللاتيني‭ ‬الفائز‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬ماتت‭ ‬أمه‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬الأولى،‭ ‬فراح‭ ‬يبحث‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬عشيقاته‭ ‬وكذلك‭ ‬هو‭ ‬بودلير‭.‬

حيانا‭ ‬نتلقط‭ ‬الحنان‭ ‬من‭ ‬العشيقة‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬حب‭ ‬فقدانه‭ ‬صغارا‭ ‬من‭ ‬الأم‭. ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬حب‭ ‬الحبيبة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬حنان‭ ‬الأم‭ ‬المختبئ‭ ‬فيها،‭ ‬إنها‭ ‬حيلة‭ ‬دفاعية‭ ‬عن‭ ‬تصحر‭ ‬عاطفي‭ ‬داخلي‭ ‬بالتوسل‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬القلوب؛‭ ‬أملا‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬صدقات‭ ‬عاطفية‭ ‬قد‭ ‬تجرح‭ ‬كبرياءنا‭ ‬الكبير‭ ‬وجرحنا‭ ‬النرجسي‭ ‬النازف،‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬تعيد‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬زجاج‭ ‬النفس‭ ‬المكسور‭.‬

كل‭ ‬أفعالنا،‭ ‬ونحن‭ ‬كبار،‭ ‬هي‭ ‬محاولات‭ ‬لتعويض‭ ‬ما‭ ‬تحطم‭ ‬فينا‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭. ‬واسميها‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬“الملاك‭ ‬الحامي”،‭ ‬ومحاولة‭ ‬لاسترجاع‭ ‬“الطفل‭ ‬الصغير”‭ ‬بداخلنا،‭ ‬الذي‭ ‬دفناه‭ ‬بسبب‭ ‬ضياع‭ ‬بوصلة‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬للسعادة‭ ‬الأبدية‭. ‬

يقول‭ ‬نيتشه‭ ‬“في‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬حقيقي‭ ‬يوجد‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬المرح”،‭ ‬وتقول‭ ‬الأديبة‭ ‬الرائعة‭ ‬أحلام‭ ‬مستغانمي‭ ‬“استفيدوا‭ ‬من‭ ‬اليوم‭ ‬الحاضر،‭ ‬لتكن‭ ‬حياتكم‭ ‬مذهلة‭ ‬خارقة‭ ‬للعادة،‭ ‬اسطوا‭ ‬على‭ ‬الحياة،‭ ‬امتصوا‭ ‬نخاعها‭ ‬كل‭ ‬يوم،‭ ‬مادام‭ ‬ذلك‭ ‬ممكنًا،‭ ‬فذات‭ ‬يوم‭ ‬لن‭ ‬تكونوا‭ ‬شيئًا‭.. ‬سترحلون‭ ‬وكأنكم‭ ‬لم‭ ‬تأتوا‭... ‬ولذا‭ ‬عليكم‭ ‬أن‭ ‬تعيشوا‭ ‬الحياة‭ ‬كلحظة‭ ‬مهددة،‭ ‬أن‭ ‬تعوا‭ ‬أن‭ ‬اللذة‭ ‬نهب،‭ ‬والفرح‭ ‬نهب،‭ ‬والحب‭.. ‬وكل‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬إلا‭ ‬مسروقة‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭.. ‬فالمرء‭ ‬لا‭ ‬يبلغ‭ ‬المتعة‭ ‬إلا‭ ‬سارقًا‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬الموت‭ ‬ويجرده‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سطا‭ ‬عليه”‭.‬

يا‭ ‬عظماء‭ ‬المجد،‭ ‬لا‭ ‬تستلموا‭ ‬للحزن،‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬وعلى‭ ‬الأرض‭ ‬كنوز‭ ‬جماله‭ ‬منثورة‭: ‬طبيعة‭ ‬وثقافة‭ ‬وفن‭ ‬إنساني‭ ‬وأناقة‭ ‬ورياضة‭ ‬وحضارة‭ ‬وقارات‭. ‬احزموا‭ ‬حقائب‭ ‬الأمل‭ ‬وسيحوا‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬الجمال،‭ ‬وكوكتيل‭ ‬الحياة‭. ‬