قهوة الصباح

المجد والاكتئاب “8”

| سيد ضياء الموسوي

لا‭ ‬أشعر‭ ‬بالوحدة‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬مسافرا‭ ‬بحقيبة‭ ‬مثقوبة‭ ‬بجروح،‭ ‬مادام‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الحضارة‭ ‬رصيف‭ ‬يتيم،‭ ‬وفنجان‭ ‬قهوة‭ ‬يشاطرك‭ ‬غربتك،‭ ‬وكتاب‭ ‬معرفي‭ ‬يوقد‭ ‬المصابيح‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬عقلك‭ ‬المليء‭ ‬بالأتربة‭. ‬كان‭ ‬ميكافيللي‭ ‬يختبئ‭ ‬خلف‭ ‬معاطف‭ ‬كتبه‭ ‬مستمتعا‭ ‬بسهرة‭ ‬معرفية‭ ‬مع‭ ‬كتب‭ ‬الفلاسفة‭. ‬ما‭ ‬أجمل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أصدقاؤك‭ ‬فلاسفة‭ ‬وشعراء‭ ‬وكتابا‭. ‬أنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬أرتب‭ ‬طاولة‭ ‬السهرة‭ ‬وأحضر‭ ‬الشاي‭ ‬والقهوة‭ ‬كنادل‭ ‬معرفي،‭ ‬يطرق‭ ‬بابي‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬وهوجو،‭ ‬وبودلير،‭ ‬وبيتهوفن،‭ ‬ولامارتين،‭ ‬وجون‭ ‬لوك،‭ ‬ودافينشي،‭ ‬وأوسكار‭ ‬وايلد،‭ ‬ومونتسكيو،‭ ‬نسهر‭ ‬حتى‭ ‬الصباح‭ ‬نتبادل‭ ‬كؤوس‭ ‬المعرفة،‭ ‬ونحتسى‭ ‬أطيب‭ ‬الأفكار‭. ‬هذه‭ ‬رئة‭ ‬من‭ ‬رئات‭ ‬كوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬أدعو‭ ‬لها‭ ‬عظماء‭ ‬المجد،‭ ‬ألا‭ ‬يقصروا‭ ‬المعرفة‭ ‬على‭ ‬علم،‭ ‬ويغفلوا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬العلوم‭. ‬كي‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬أسر‭ ‬الاكتئاب‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬كوكتيل‭ ‬المعرفة،‭ ‬فهي‭ ‬العقاقير‭ ‬الحقيقية‭ ‬لمواجهة‭ ‬جروح‭ ‬الحياة‭. ‬فارسطوا‭ ‬يعلمك‭ ‬الأخلاق‭ ‬والمنطق،‭ ‬وأبيقور‭ ‬يعلمك‭ ‬فلسفة‭ ‬اللذة،‭ ‬وجان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬يأخذك‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الروح‭ ‬والعقل،‭ ‬وفولتير‭ ‬يقرأ‭ ‬عليك‭ ‬مزامير‭ ‬التسامح،‭ ‬وكانط‭ ‬يوقد‭ ‬عصرك‭ ‬بالتنوير،‭ ‬ونيتشه‭ ‬يعلمك‭ ‬أهميةً‭ ‬القوة‭ ‬وأنت‭ ‬تصارع‭ ‬وحوش‭ ‬البشرية،‭ ‬وديوي‭ ‬يصر‭ ‬عليك‭ ‬بالعلم‭ ‬لتسيطر‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬وجون‭ ‬لوك‭ ‬يعزز‭ ‬لك‭ ‬أهمية‭ ‬الحرية‭ ‬الفكرية‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬عبدا‭ ‬عند‭ ‬صنم‭ ‬بشري‭ ‬أو‭ ‬أيديولوجي،‭ ‬وابن‭ ‬رشد‭ ‬يعلمك‭ ‬تقديس‭ ‬تحرير‭ ‬العقول‭. ‬أما‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬“ع”،‭ ‬فيعلمك‭ ‬كيف‭ ‬تكون‭ ‬الإنسان‭ ‬الكامل‭ ‬على‭ ‬الارض‭ ‬عقلا‭ ‬وقلبا‭ ‬وخَلقا‭ ‬وخُلقا‭. ‬عظماء‭ ‬المجد‭ ‬اكتأبوا‭ ‬لأنهم‭ ‬إذا‭ ‬دخلوا‭ ‬زقاقا‭ ‬لا‭ ‬يخرجون‭ ‬منه‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يسعون‭ ‬إلى‭ ‬نظرية‭ (‬كوكتيل‭ ‬الحياة‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬فلسفتي‭ ‬للحياة‭. ‬وجدت‭ ‬أن‭ ‬الحب‭ ‬هو‭ ‬أكبر‭ ‬عامل‭ ‬لمتزق‭ ‬روحهم،‭ ‬وإن‭ ‬أسوأ‭ ‬شيء‭ ‬هو‭ ‬سجن‭ ‬الفكرة‭. ‬أن‭ ‬تسجن‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬وهم‭ ‬عدم‭ ‬قدرتك‭ ‬على‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بالحياة‭ ‬تحت‭ ‬حجة‭ ‬أنك‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬زنزانة‭ ‬الذكريات‭ ‬أو‭ ‬انتفاخ‭ ‬المسؤولية‭ ‬الخانقة‭ ‬أو‭ ‬خنجر‭ ‬الحب‭ ‬أو‭ ‬حساسية‭ ‬المنصب‭. ‬يقول‭ ‬الماغوط‭ ‬“‭ ‬إن‭ ‬الموت‭ ‬ليس‭ ‬هو‭ ‬الخسارة‭ ‬الكبرى،‭ ‬الخسارة‭ ‬الأكبر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يموت‭ ‬فينا‭ ‬ونحن‭ ‬أحياء”،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭: ‬“إنني‭ ‬ألمح‭ ‬آثار‭ ‬أقدام‭ ‬على‭ ‬قلبي”‭. ‬من‭ ‬منا‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬على‭ ‬قلبه‭ ‬آثار‭ ‬أقدام‭ ‬من‭ ‬حبيبة‭ ‬أو‭ ‬أهل‭ ‬أو‭ ‬صديق؟‭ ‬أعلم‭ ‬أن‭ ‬الحب‭ ‬قاس،‭ ‬لكن‭ ‬القويّ‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يتجاوزه‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬أديب‭ ‬“لكل‭ ‬الذين‭ ‬أربكوا‭ ‬النبض‭ ‬بداخلنا‭ ‬يوما،‭ ‬حتى‭ ‬ظننا‭ ‬أننا‭ ‬لن‭ ‬نستفيق‭ ‬من‭ ‬قسوة‭ ‬الشعور،‭ ‬سبحان‭ ‬من‭ ‬جعلكم‭ ‬صفحة‭ ‬مطوية‭ ‬على‭ ‬رف‭ ‬قديم”‭. ‬أقول‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬أقسى‭ ‬من‭ ‬مسح‭ ‬ذكريات‭ ‬جميلة،‭ ‬ويوما‭ ‬قلت‭: ‬“وما‭ ‬زلت‭ ‬أحاول‭ ‬جاهدا‭ ‬مسح‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬ذكريات،‭ ‬وأنا‭ ‬أشبه‭ ‬بأم‭ ‬تحاول‭ ‬خنق‭ ‬وحيدها”‭. ‬وأتذكر‭ ‬أني‭ ‬قلت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬متألما‭ ‬لمشهد‭ ‬عاشق‭ ‬قتله‭ ‬الحب‭ ‬“أسائل‭ ‬نفسي،‭ ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬الإنسان‭ ‬بلا‭ ‬ذاكرة،‭ ‬كيف‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬الأيام‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬تابوت‭ ‬خشبي‭ ‬يحرق‭ ‬لتختصر‭ ‬الذكرى،‭ ‬والجسد‭ ‬رمادا‭ ‬في‭ ‬قارورة‭ ‬تلقى‭ ‬في‭ ‬بحر،‭ ‬وهل‭ ‬للعاشق‭ ‬الذي‭ ‬بنى‭ ‬برج‭ ‬الحب‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬يستبدله‭ ‬ببناء‭ ‬مقبرة؟‭ ‬وأقول‭ ‬اليوم‭: ‬“وكيف‭ ‬للهمس‭ ‬والتمتمات،‭ ‬ورمش‭ ‬العيون،‭ ‬وقبلات‭ ‬اللهفة‭ ‬أن‭ ‬تستحيل‭ ‬جثثا‭ ‬متهرئة‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬الذاكرة؟‭ ‬أهكذا‭ ‬هي‭ ‬نهاية‭ ‬الحب،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬معتقا،‭ ‬وقديما‭ ‬ككتدرائية‭ ‬نوتردام‭ ‬تكون‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬الاحتراق‭!‬”‭.‬

“ألمُك‭ ‬للريح‭ ‬لا‭ ‬حاجة‭ ‬بي‭ ‬لجناحين‭ ‬كي‭ ‬أطير‭. ‬وحيدا‭ ‬أنا‭ ‬في‭ ‬الجب‭ ‬لا‭ ‬إخوة‭ ‬صدق،‭ ‬لا‭ ‬يعقوب‭ ‬ليبكيك،‭ ‬ولا‭ ‬زليخة‭ ‬لتراودك،‭ ‬أنت‭ ‬بئر‭ ‬نفسك،‭ ‬ذبيح‭ ‬نفسك،‭ ‬أنت‭ ‬ولا‭ ‬دمٌ‭ ‬على‭ ‬قميصك‭. ‬أنت‭ ‬القاتل‭ ‬والمقتول،‭ ‬تسفك‭ ‬دم‭ ‬قلبك‭ ‬باكيا،‭ ‬وتمشي‭ ‬في‭ ‬جنازتك”‭. ‬اغفروا‭ ‬لي‭ ‬كلماتي‭ ‬المتشظية‭ ‬أوجاعا‭ ‬وخناجر‭ ‬عن‭ ‬عظماء‭ ‬التاريخ‭. ‬أحيانا‭ ‬يشعر‭ ‬العظيم‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬اتفق‭ ‬أن‭ ‬يبكيه‭. ‬صورة‭ ‬بيتهوفن‭ ‬ملقى‭ ‬على‭ ‬رصيف،‭ ‬والصبية‭ ‬الصغار‭ ‬يركلونه‭ ‬بأرجلهم،‭ ‬ويتفنون‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬اللكمات‭ ‬قسوة‭. ‬منظر‭ ‬الفيلم‭ ‬هزني‭ ‬وأنا‭ ‬أرى‭ ‬أسطورة‭ ‬الموسيقى‭ ‬تركلها‭ ‬أرجل‭ ‬أطفال‭ ‬بلا‭ ‬عقل‭. ‬كيف‭ ‬لفان‭ ‬جوخ‭ ‬الذي‭ ‬رسم‭ ‬2000‭ ‬لوحة‭ (‬لم‭ ‬يبع‭ ‬إلا‭ ‬لوحه‭ ‬بسعر‭ ‬بخس‭) ‬أن‭ ‬يموت‭ ‬جائعا،‭ ‬ويكون‭ ‬طعامه‭ ‬رصاصة‭ ‬انتحار‭ ‬ثم‭ ‬تباع‭ ‬لوحاته‭ ‬بالملايين؟‭ ‬كيف‭ ‬للشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬لإمارتين‭ ‬وهو‭ ‬ابن‭ ‬النبلاء‭ ‬أن‭ ‬يقوده‭ ‬القدر‭ ‬لبيع‭ ‬منزله‭ ‬ومكتبته‭ ‬بسبب‭ ‬الفواتير‭ ‬ويموت‭ ‬فقيرا؟‭ ‬على‭ ‬العظيم‭ ‬ألا‭ ‬ييأس‭ ‬للاكتئاب،‭ ‬ويشق‭ ‬طريقه‭ ‬للحياة‭.‬