وَخْـزَةُ حُب

الكتابة... قهرٌ للغياب!

| د. زهرة حرم

هل‭ ‬تساءلتم‭ ‬يوما‭ ‬عن‭ ‬حجم‭ ‬المؤلفات‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬تركها‭ ‬لنا‭ ‬الماضون،‭ ‬وعن‭ ‬هذه‭ ‬الكتب‭ ‬الحديثة‭ ‬والقادمة‭ ‬التي‭ ‬ستغص‭ ‬بها‭ ‬المكتبات؛‭ ‬التقليدية‭ ‬والإلكترونية،‭ ‬هذا‭ - ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب‭ - ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يُطرح‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬ومقالات‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬كافة‭! ‬فمنذ‭ ‬عرف‭ ‬الإنسان‭ ‬الكتابة‭ ‬لم‭ ‬ينفك‭ ‬يوما‭ ‬عنها،‭ ‬وكأنها‭ ‬قدره،‭ ‬وبها‭ ‬يتحدد‭ ‬مصيره،‭ ‬أو‭ ‬لعله‭ ‬وجد‭ ‬فيها‭ ‬مسؤوليته‭ ‬الكونية‭ ‬في‭ ‬نقل‭ ‬ما‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬لمعاصريه‭ ‬ومن‭ ‬سيأتون‭ ‬بعده‭!‬

وأيا‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬تكون‭ ‬أشكال‭ ‬الكتابة‭ ‬وطريقتها؛‭ ‬فإنها‭ ‬تكشف‭ ‬حقيقة‭ ‬مهمة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬غائبة‭ ‬عن‭ ‬أذهان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الكُتّاب‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬بعض‭ ‬منا؛‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬الهوس‭ ‬بالخلود؛‭ ‬فالكتابة‭ ‬طريقة‭ ‬أخرى‭ ‬للوجود‭ ‬الحي‭ ‬الثابت،‭ ‬والتي‭ ‬تتفوق‭ ‬على‭ ‬عمليات‭ ‬التحنيط،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬الغرض‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬ترسيخ‭ ‬الحضور‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬قادم‭ ‬مجهول؛‭ ‬فإن‭ ‬الكتابة‭ ‬تتجاوز‭ ‬كونها‭ ‬تثبيتًا‭ ‬متعدد‭ ‬الكيفيات‭ ‬للفرد‭ ‬والجماعة‭ ‬والمعتقد‭ ‬إلى‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬المشاعر‭ ‬والبوح‭ ‬ببواطن‭ ‬النفس؛‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬تعجز‭ ‬عنه‭ ‬وسائل‭ ‬أخرى‭!‬

إذًا؛‭ ‬لماذا‭ ‬نكتب؟‭ ‬نكتب‭ ‬لنقهر‭ ‬الغياب،‭ ‬ونؤسس‭ ‬لحضورنا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مادي‭ ‬سريع،‭ ‬سيمحونا‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬منا،‭ ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬فجائية‭ ‬مباغتة،‭ ‬وبجملة‭ ‬قصيرة‭:‬‭ ‬نكتب‭ ‬لنقهر‭ ‬الموت‭! ‬فالكتابة‭ ‬تشتغل‭ ‬بشكل‭ ‬عمودي‭ ‬باتجاه‭ ‬الأمام،‭ ‬لذلك‭ ‬فإنها‭ ‬تسير‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬تسبقه،‭ ‬وهي‭ ‬روح‭ ‬عصيةٌ‭ ‬مادتُها‭ ‬على‭ ‬الموت؛‭ ‬فكيف‭ ‬لا‭ ‬يستعين‭ ‬الإنسان‭ ‬بها‭ ‬ليضمن‭ ‬استمرارية‭ ‬صوته‭ ‬وفكره‭ ‬وشعوره‭ ‬إلى‭ ‬أمد‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬ساعاته‭ ‬البيولوجية‭ ‬التي‭ ‬قُدّرت‭ ‬له‭ ‬تقديرا‭ ! ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬فإننا‭ ‬لو‭ ‬بحثنا‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ (‬كتب‭) ‬في‭ ‬بطون‭ ‬المعاجم‭ ‬اللغوية؛‭ ‬سنجد‭ ‬إشارة‭ ‬واضحة‭ ‬لمعنى‭ (‬التثبيت‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يشي‭ ‬بحقيقة‭ ‬مفادها‭ ‬التفاتة‭ ‬العرب‭ - ‬تحديدا‭ - ‬إلى‭ ‬السبب‭ ‬والنتيجة‭ ‬معًا،‭ ‬اللذين‭ ‬يقفان‭ ‬خلف‭ ‬فعل‭ ‬الكتابة‭! ‬ألا‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬كلامنا‭ ‬المتداول‭: ‬اكتب‭ ‬لكيلا‭ ‬تنسى؟‭! ‬إن‭ ‬الكتابة‭ -‬إذًا‭- ‬هي‭ ‬الحارس‭ ‬الأمين‭ ‬للذاكرة‭ ‬والتاريخ‭ ‬اللذين‭ ‬يحرص‭ ‬أي‭ ‬كاتب‭ ‬على‭ ‬ترسيخهما‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أثره‭ ‬الكتابي‭ ‬أو‭ ‬مؤلفاته‭. ‬

نعم،‭ ‬يكتب‭ ‬الكثيرون؛‭ ‬لأنهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬سيخطونه‭ ‬سيكون‭ ‬نافعا‭ ‬للبشرية،‭ ‬ولأن‭ ‬لديهم‭ ‬حسًا‭ ‬إنسانيا‭ ‬عاليا‭ ‬يرنو‭ ‬إلى‭ ‬شرف‭ ‬الخدمة‭! ‬يكتبون‭ ‬لينفِّسوا‭ ‬عمّا‭ ‬يختلج‭ ‬في‭ ‬دواخلهم‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭! ‬يكتبون‭ ‬لأن‭ ‬الكتابة‭ - ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظرهم‭ - ‬حرية‭ ‬وانطلاقة‭ ‬وتجاوز‭ ‬وعبور‭! ‬يكتبون‭ ‬ليكشفوا‭ ‬للآخرين‭ ‬حجم‭ ‬الإبداع‭ ‬الذي‭ ‬يكتنزونه؛‭ ‬ويكتبون‭ ‬ليخلقوا‭ ‬نماذج‭ ‬كتابية‭ ‬تُحتذى‭! ‬وما‭ ‬بين‭ ‬السبب‭ ‬والآخر؛‭ ‬إنهم‭ ‬يكتبون؛‭ ‬ليؤكدوا‭ ‬حقيقة‭ ‬مطلقة‭ ‬هي‭ ‬أنهم‭ ‬موجودون‭ ‬على‭ ‬تراب‭ ‬هذا‭ ‬الكوكب‭!‬

أنت‭ ‬تكتب؟‭ ‬إذًا‭ ‬أنت‭ ‬موجود‭! ‬إذًا‭ ‬أصبحت‭ ‬رقمًا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭! ‬رقمًا‭ ‬مُؤكّدا‭ ‬بواسطة‭ ‬الكتابة‭! ‬وكلما‭ ‬نشرت‭ ‬ما‭ ‬تكتب،‭ ‬وكلما‭ ‬خرجت‭ ‬كتابتك‭ ‬للناس؛‭ ‬أكدت‭ ‬حضورك‭ ‬أكبر‭ ‬وأكثر‭. ‬

جميعنا‭ ‬يطمح‭ ‬ألّا‭ ‬يكون‭ ‬مجرد‭ ‬رقم،‭ ‬ينتهي‭ ‬بمجرد‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الدنيا،‭ ‬فهل‭ ‬هناك‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الكتابة؛‭ ‬وسيلةً‭ ‬أو‭ ‬حيلة‭ ‬نحتال‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬الزمن‭ ‬المندفع‭ ‬بقوة؛‭ ‬لنوقفه‭ ‬أمام‭ ‬لحظة‭ ‬دوّنا‭ ‬فيها‭ ‬أثرا‭ ‬ما؛‭ ‬وليكون‭ ‬لمن‭ ‬يعاصروننا‭ ‬أو‭ ‬مَنْ‭ ‬سيخلفوننا‭ ‬من‭ ‬أجيال؛‭ ‬إثباتا‭ ‬رصينا‭ ‬أننا‭ ‬عبرنا‭ ‬الطريق‭ ‬نفسه،‭ ‬وعبّدناه‭ ‬لهم،‭ ‬بعصارة‭ ‬ما‭ ‬كتبناه‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬أو‭ ‬فن‭ ‬أو‭ ‬علم،‭ ‬فكما‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬أوجدتنا‭ ‬نحن؛‭ ‬إنها‭ - ‬كذلك‭ - ‬تؤسس‭ ‬لوجود‭ ‬القادمين‭ ‬بعدنا،‭ ‬وعليهم‭ ‬هم‭ ‬مواصلة‭ ‬النهج‭.. ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يكتبوا‭ ‬الحياة؛‭ ‬لتكتبهم‭ ‬هي؛‭ ‬أنهم‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭.‬