ومضة قلم

الرحيل الموجع

| محمد المحفوظ

الموت‭ ‬حق‭ ‬وبعضنا‭ ‬يودع‭ ‬الآخر‭ ‬وهذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬ليس‭ ‬بوسع‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يكابر‭ ‬بشأنها،‭ ‬وهي‭ ‬المعلومة‭ ‬المجهولة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬لكن‭ ‬الموت‭ ‬حين‭ ‬يختطف‭ ‬من‭ ‬بيننا‭ ‬من‭ ‬نتقرب‭ ‬إلى‭ ‬الله‭ ‬بها‭ ‬ومن‭ ‬هي‭ ‬باب‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬الرحمة‭ ‬المفتوحة‭ ‬فإنه‭ ‬حينها‭ ‬يصبح‭ ‬موجعا‭. ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬يشعرنا‭ ‬رحيل‭ ‬الأمهات‭ ‬بالكبر،‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬يشعرنا‭ ‬رحيل‭ ‬الأمهات‭ ‬بمرارة‭ ‬الفقد‭ ‬والحسرة‭ ‬أكثر،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬حولنا‭ ‬يصبح‭ ‬قاسيا‭ ‬وموحشا،‭ ‬“كنا‭ ‬نظن‭ ‬أنّ‭ ‬الأم‭ ‬أشبه‭ ‬بالأشجار‭ ‬المعمرة‭ ‬لا‭ ‬تموت‭ ‬لكنها‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الرحمة،‭ ‬وكنا‭ ‬نظنّ‭ ‬أنّ‭ ‬الزمن‭ ‬واقف‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬اكتشفنا‭ ‬أنّ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يرحل‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نقبض‭ ‬على‭ ‬شيء”‭ ‬كما‭ ‬عبّر‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬فقد‭ ‬أليم‭.‬

نحن‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬وطأة‭ ‬الموت‭ ‬ولا‭ ‬ندرك‭ ‬مدى‭ ‬وحشيته‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬الأحبة،‭ ‬نعم‭ ‬ترحل‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬الأب‭ ‬كما‭ ‬يرحل‭ ‬الآخرون،‭ ‬لكنه‭ ‬الرحيل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬الآخرين،‭ ‬إنه‭ ‬موت‭ ‬موجع‭ ‬رغم‭ ‬اعتيادنا‭ ‬عليه،‭ ‬نتذكرها‭ ‬بالسخاء‭ ‬بأروع‭ ‬صوره‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الشحيح،‭ ‬لم‭ ‬تكف‭ ‬عن‭ ‬البذل‭ ‬والعطاء‭ ‬كأمهات‭ ‬ذلك‭ ‬الجيل‭ ‬طوال‭ ‬سني‭ ‬حياتها،‭ ‬كنا‭ ‬نحتاجها‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬عقدها‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬كما‭ ‬كنا‭ ‬نحتاجها‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬مقتبل‭ ‬العمر‭. ‬

الوالدان‭ ‬هما‭ ‬الوحيدان‭ ‬اللذان‭ ‬يعرفان‭ ‬أعيننا‭ ‬وكأنهما‭ ‬أجهزة‭ ‬كشف‭ ‬الكذب‭ ‬ونظراتهما‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬لنا‭ ‬عابرة‭ ‬فإنها‭ ‬ليست‭ ‬عابرة‭ ‬كما‭ ‬عبر‭ ‬أحد‭ ‬الكتاب،‭ ‬هل‭ ‬هناك‭ ‬فقدان‭ ‬أشد‭ ‬ألما‭ ‬ومرارة‭ ‬من‭ ‬الموت،‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬الميت‭ ‬مستقر‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬هذه‭ ‬حقيقة‭ ‬لا‭ ‬جدال‭ ‬حولها،‭ ‬لكن‭ ‬الموت‭ ‬يشعرنا‭ ‬بتفاهة‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬جدواها،‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬كنت‭ ‬أتخيل‭ ‬أنّ‭ ‬الموت‭ ‬ليس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سفر‭ ‬قصير،‭ ‬وأنّ‭ ‬الميت‭ ‬سيعود‭ ‬ويمارس‭ ‬حياته‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬لكن‭ ‬الزمن‭ ‬برهن‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬يرحلون‭ ‬لن‭ ‬يعودوا‭ ‬ثانية،‭ ‬وأنّ‭ ‬الرحيل‭ ‬أبديّ‭ ‬إلى‭ ‬كون‭ ‬أكثر‭ ‬جمالا‭ ‬واتساعا‭ ‬ورحابة‭ ‬من‭ ‬كوننا‭... ‬يا‭ ‬للحزن‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تمسحه‭ ‬دموعنا،‭ ‬إنّ‭ ‬للموت‭ ‬غصة‭ ‬ووحشة‭ ‬وكربات‭ ‬تتعاظم‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭.‬