قهوة الصباح

فن إدارة الألم للعظماء المكتئبين

| سيد ضياء الموسوي

سأحاول‭ ‬استكمال‭ ‬بحث‭ ‬المجد‭ ‬والاكتئاب،‭ ‬أضع‭ ‬حلا‭ ‬لعظماء‭ ‬المجد‭ ‬أسميه‭ ‬“فن‭ ‬إدارة‭ ‬الألم”،‭ ‬مع‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬اسميته‭ ‬سابقا‭ ‬“كوكتيل‭ ‬الحياة”‭. ‬كي‭ ‬تسعد‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تؤمن‭ ‬بكوكتيل‭ ‬الحياة‭ ‬وجمالها‭. ‬قراءتي‭ ‬النقدية‭ ‬لفلاسفة‭ ‬وأدباء‭ ‬وعظماء‭ ‬الحضارة‭ ‬أنهم‭ ‬يستسلمون‭ ‬لألم‭ ‬الواقع،‭ ‬وقد‭ ‬يفقدون‭ ‬الأمل‭. ‬

أعلم‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬وجعا،‭ ‬لكن‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬فن‭ ‬الألم‭ ‬كي‭ ‬نعيش،‭ ‬وذكرتُ‭ ‬الشاعر‭ ‬الفرنسي‭ ‬بودلير‭ ‬صاحب‭ ‬ديوان‭ ‬أزهار‭ ‬الشر،‭ ‬عانى‭ ‬الحزن‭ ‬ولعل‭ ‬دلال‭ ‬أمه‭ ‬المفرط‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬كآبته‭ ‬المستقبلية‭ ‬عندما‭ ‬ابتعدت‭ ‬عنه‭ ‬وتزوجت‭ ‬من‭ ‬آخر،‭ ‬فعاش‭ ‬بودلير‭ ‬اليتم‭ ‬مرتين‭. ‬كذلك‭ ‬هو‭ ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬صغيرا‭ ‬آرثر‭ ‬رامبو،‭  ‬والذي‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬اضطراباته‭ ‬النفسية‭ ‬وهوسه‭ ‬بالمشاكسة‭ ‬زار‭ ‬الخليج‭ ‬وإفريقيا‭ ‬على‭ ‬امل‭ ‬تغيير‭ ‬الألم،‭ ‬ولكن‭ ‬رصاصة‭ ‬الحب‭ ‬الطائش‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬معاناته‭ ‬الحياتية،‭ ‬وهكذا‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬حزن‭ ‬غوستاف‭ ‬فلوبير،‭ ‬حيث‭ ‬تم‭ ‬الضغط‭ ‬عليه‭ ‬وجرجر‭ ‬للمحاكم‭ ‬بسبب‭ ‬الرجعية‭ ‬وتخلف‭ ‬الكنيسة‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬بدعوة‭ ‬أن‭ ‬روايته‭ ‬مدام‭ ‬بوفاري‭ ‬كانت‭ ‬تدعو‭ ‬للرذيلة،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنا‭ ‬أراها‭ ‬هي‭ ‬تعكس‭ ‬خطيئة‭ ‬الزوج‭ ‬الذي‭ ‬يهتم‭ ‬بعمله‭ ‬الروتيني،‭ ‬ولا‭ ‬يشاطر‭ ‬زوجته‭ ‬ثقافة‭ ‬الحياة‭ ‬واحتياجاتها‭ ‬العاطفية‭. ‬وإن‭ ‬حزن‭ ‬الرجل‭ ‬العظيم‭ ‬فيكتور‭ ‬هوجو‭ ‬صاحب‭ ‬إبداعية‭ ‬البؤساء،‭ ‬وأحدب‭ ‬نوتردام‭ ‬ليس‭ ‬لحبه‭ ‬للفقراء‭ ‬فقط،‭ ‬ودعوته‭ ‬للجمهورية‭ ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬بل‭ ‬لما‭ ‬أصابه‭ ‬من‭ ‬كوارث‭ ‬فقد‭ ‬ابنته‭ ‬وزوجته‭. ‬

ولعلنا‭ ‬نسأل‭ ‬من‭ ‬منطق‭ ‬فهم‭ ‬سبب‭ ‬اكتئاب‭ ‬عظماء‭ ‬المجد‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬أسبابا‭ ‬كثيرة‭ ‬سأعرض‭ ‬بعضها،‭ ‬لكني‭ ‬أجدها‭ ‬غير‭ ‬مبررة‭ ‬للاكتئاب،‭ ‬وقتل‭ ‬الأمل‭ ‬والاستسلام‭. ‬فخلال‭ ‬دراستي‭ ‬لسيرتهم‭ ‬خلصت‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬تعاطي‭ ‬بيتهوفن‭ ‬الخمر‭ ‬وربما‭ ‬المخدرات‭ ‬هو‭ ‬تعملق‭ ‬صورة‭ ‬الأب‭ ‬القاسي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يضربه‭ ‬على‭ ‬أذنه‭ ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬طفلا،‭ ‬وكذلك‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬الأديب‭ ‬الروسي‭ ‬ديستوفيسكي‭ ‬صاحب‭ ‬إبداعية‭ ‬الجريمة‭ ‬والعقاب،‭ ‬فكان‭ ‬أبوه‭ ‬دكتاتوريا‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬أبنائه‭ ‬الصمت‭ ‬الكامل‭ ‬والجلوس‭ ‬امام‭ ‬رأسه‭ ‬عند‭ ‬نومه‭ ‬لطرد‭ ‬الذباب‭ ‬عن‭ ‬وجهه،‭ ‬وكان‭ ‬شرس‭ ‬التعامل‭ ‬مما‭ ‬انعكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬نفسية‭ ‬ديستوفيسكي‭ ‬في‭ ‬كبره‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬مايكل‭ ‬جاكسون‭ ‬وقسوة‭ ‬الأب‭. ‬

أما‭ ‬سبب‭ ‬تعاسة‭ ‬الموسيقار‭ ‬تشايكوفيسكي‭ ‬وانتحاره،‭ ‬فهي‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬انكشاف‭ ‬هوية‭ ‬الذات‭ ‬وهزيمة‭ ‬الحب‭. ‬أما‭ ‬ارنست‭ ‬همنجواى‭ ‬الكاتب‭ ‬الأمريكي‭ ‬الشهير،‭ ‬فاعتقد‭ ‬أن‭ ‬تجاربه‭ ‬في‭ ‬الحروب،‭ ‬وتغطيته‭ ‬الصحافية‭ ‬للحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الإسبانية‭ ‬عملت‭ ‬ع‭ ‬تدمير‭ ‬نفسه‭ ‬خصوصا‭ ‬أن‭ ‬العائلة‭ ‬تحمل‭ ‬جينات‭ ‬مهيئة‭ ‬للانتحار،‭ ‬وهذا‭ ‬قادني‭ ‬إلى‭ ‬دراسة‭ ‬فهم‭ ‬التأثير‭ ‬الوراثي‭ ‬للأمراض‭ ‬النفسية،‭ ‬فعالم‭ ‬الرياضيات‭ ‬العظيم‭ ‬جون‭ ‬ناش‭ ‬ظل‭ ‬طوال‭ ‬عمره‭ ‬يعاني‭ ‬انفصاما‭ ‬حادا‭ ‬“شوزفرينيا”‭ ‬حتى‭ ‬أثناء‭ ‬تقلده‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل،‭ ‬وقد‭ ‬رزق‭ ‬بولد،‭ ‬والغريب‭ ‬أن‭ ‬ابنه‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬يعاني‭ ‬انفصاما‭ ‬حادا‭ ‬وكأن‭ ‬الأمر‭ ‬جيني‭. ‬والسؤال‭ ‬وماذا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬العظماء‭ ‬كفرجينيا‭ ‬وولف‭ ‬وتشرشل‭ ‬والأديب‭ ‬الألماني‭ ‬الكبير‭ ‬كافكا‭ ‬وتشاؤمه‭ ‬أو‭ ‬جان‭ ‬جنيه‭ ‬هذا‭ ‬عدا‭ ‬عن‭ ‬الملكة‭ ‬كرستينا‭ ‬وتنازلها‭ ‬عن‭ ‬الحكم؛‭ ‬بسبب‭ ‬الحب‭ ‬أو‭ ‬تشرد‭ ‬الإمبراطورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬أوجيني،‭ ‬وبكاؤها‭ ‬على‭ ‬الأطلال‭ ‬وجمال‭ ‬ذهب‭ ‬مع‭ ‬الريح‭ ‬أو‭ ‬عزوف‭ ‬الملكة‭ ‬إليزابيث‭ ‬عن‭ ‬الزواج‭ ‬أو‭ ‬اكتئاب‭ ‬الأميرة‭ ‬ديانا؛‭ ‬بسبب‭ ‬صدمة‭ ‬الحب‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬واحد‭. ‬لكل‭ ‬سببه،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أركز‭ ‬عليه‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬أسباب‭ ‬الآلام‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬يكتئب‭ ‬الإنسان‭ ‬أو‭ ‬ينسى‭ ‬جمال‭ ‬الوجود،‭ ‬وقوة‭ ‬الخالق،‭ ‬وعليه‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬رئات‭ ‬تنفس‭ ‬جمالية‭ ‬جديدة‭. ‬لكل‭ ‬حزن‭ ‬سبب‭ ‬وبعد‭ ‬سيكولوجي،‭ ‬لكن‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتسلح‭ ‬بالأمل،‭ ‬ونعمل‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬سميته‭ ‬فن‭ ‬إدارة‭ ‬الألم‭.‬