الجمهوريات العربية الملكية الوراثية!

| عبدالنبي الشعلة

تقول‭ ‬الرواية،‭ ‬والعهدة‭ ‬على‭ ‬الراوي،‭ ‬إنه‭ ‬عندما‭ ‬مرض‭ ‬ديكتاتور‭ ‬إسبانيا‭ ‬الجنرال‭ ‬فرانسيسكو‭ ‬فرانكو،‭ ‬وكان‭ ‬مستلقيًا‭ ‬على‭ ‬فراش‭ ‬الموت‭ ‬قبيل‭ ‬أن‭ ‬يلفظ‭ ‬أنفاسه‭ ‬الأخيرة،‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬سكرتيره‭ ‬الخاص‭: ‬إن‭ ‬جنرالات‭ ‬وقادة‭ ‬الجيش‭ ‬الإسباني‭ ‬يستأذنوك‭ ‬بالدخول‭ ‬للسلام‭ ‬عليك‭ ‬وتوديعك،‭ ‬فأجاب‭ ‬بصعوبة‭ ‬وصوت‭ ‬خافت‭ ‬“لماذا؟‭ ‬أين‭ ‬سيذهبون؟”‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الجنرال‭ ‬فرانكو‭ ‬مستعدا‭ ‬لأن‭ ‬يقبل‭ ‬أو‭ ‬يقتنع‭ ‬بأن‭ ‬النهاية‭ ‬قد‭ ‬حانت‭ ‬وأزفت،‭ ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬سنة‭ ‬وطبيعة‭ ‬الرؤساء‭ ‬الدكتاتوريين،‭ ‬فقد‭ ‬تولى‭ ‬الجنرال‭ ‬فرانكو‭ ‬السلطة‭ ‬المطلقة‭ ‬في‭ ‬إسبانيا‭ ‬لمدة‭ ‬36‭ ‬سنة‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬الإسبانية‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1936‭ ‬حتى‭ ‬1939م‭.‬

ولاشك‭ ‬أن‭ ‬الكل‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬“الإنفلونزا‭ ‬الإسبانية”،‭ ‬وهي‭ ‬إنفلونزا‭ ‬خطيرة‭ ‬قاتلة‭ ‬ومعدية‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬مخيفة،‭ ‬وقد‭ ‬انتشرت‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬والعالم،‭ ‬وحصدت‭ ‬أرواح‭ ‬الملايين‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬“إنفلونزا‭ ‬فرانكو”‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬حالة‭ ‬مرضية‭ ‬معدية‭ ‬أصابت‭ ‬رؤساء‭ ‬الجمهوريات‭ ‬العرب،‭ ‬وكان‭ ‬آخر‭ ‬ضحاياها‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬الرؤساء‭ ‬المعمرين،‭ ‬الأول‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬الجزائري‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بوتفليقة‭ ‬الذي‭ ‬اضطر،‭ ‬مكرهًا‭ ‬ومرغمًا،‭ ‬قبل‭ ‬بضعة‭ ‬أيام،‭ ‬إلى‭ ‬الاستقالة‭ ‬من‭ ‬منصبه‭ ‬بعد‭ ‬حكم‭ ‬دام‭ ‬20‭ ‬عامًا،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬تثبيت‭ ‬شقيقه‭ ‬سعيد‭ ‬بوتفليقة‭ ‬لخلافته‭ ‬في‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية،‭ ‬إذ‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬بوتفليقة‭ ‬لم‭ ‬يرزق‭ ‬بأبناء‭.‬

والثاني‭ ‬فخامة‭ ‬الرئيس‭ ‬السوداني‭ ‬عمر‭ ‬حسن‭ ‬البشير‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬قيادة‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬على‭ ‬الحكومة‭ ‬المنتخبة‭ ‬برئاسة‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬المنتخب‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الصادق‭ ‬المهدي،‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1989،‭ ‬حتى‭ ‬أُطيح‭ ‬به‭ ‬قبل‭ ‬يومين‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬الصاخبة‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بالسودان‭ ‬طوال‭ ‬الأشهر‭ ‬الماضية،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬تطالب‭ ‬باستقالته‭ ‬وتنحيته‭. ‬ويعتبر‭ ‬البشير‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬دولة‭ ‬يتم‭ ‬ملاحقته‭ ‬دوليا‭ ‬لاتهامه،‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المحكمة‭ ‬الجنائية‭ ‬الدولية،‭ ‬بارتكاب‭ ‬جرائم‭ ‬حرب‭ ‬في‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭.‬

وفي‭ ‬ظاهرة‭ ‬غريبة‭ ‬وفريدة‭ ‬تستحق‭ ‬الدراسة‭ ‬والتحليل،‭ ‬فإن‭ ‬رؤساء‭ ‬الجمهوريات‭ ‬العرب‭ ‬كافة،‭ ‬ماعدا‭ ‬الرئيس‭ ‬السوداني‭ ‬الأسبق‭ ‬المشير‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬سوار‭ ‬الذهب،‭ ‬ظلوا‭ ‬في‭ ‬مراكزهم‭ ‬وتشبثوا‭ ‬وتمسكوا‭ ‬بمقاعدهم‭ ‬وبكراسي‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أزيحوا‭ ‬منها‭ ‬بالقوة،‭ ‬أو‭ ‬اغتيلوا،‭ ‬أو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يتفضل‭ ‬الموت‭ ‬باختطافهم،‭ ‬والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬جميعهم‭ ‬عملوا‭ ‬وجاهدوا،‭ ‬بكل‭ ‬طاقاتهم‭ ‬وبكل‭ ‬الوسائل‭ ‬والأساليب‭ ‬والحيل،‭ ‬لأن‭ ‬يضمنوا‭ ‬ويبقوا‭ ‬في‭ ‬مراكزهم‭ ‬لأجل‭ ‬غير‭ ‬مسمى‭ ‬ولأطول‭ ‬مدة‭ ‬ممكنة،‭ ‬وسعوا‭ ‬إلى‭ ‬توريث‭ ‬كراسي‭ ‬الحكم‭ ‬لأبنائهم،‭ ‬ونجح‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬ولهذا‭ ‬الغرض،‭ ‬فإنهم‭ ‬حاولوا‭ ‬أن‭ ‬يستنبطوا‭ ‬نظامًا‭ ‬جديدًا‭ ‬هجينًا‭ ‬للحكم‭ ‬يتكون‭ ‬من‭ ‬خليط‭ ‬غريب‭ ‬شاذ‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بنظام‭ ‬“الجمهوريات‭ ‬العربية‭ ‬الملكية‭ ‬الوراثية”‭.‬

ولنقف‭ ‬عند‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬والمحطات‭:‬

الرئيس‭ ‬السوري‭ ‬الراحل‭ ‬حافظ‭ ‬الأسد‭ ‬يبرز‭ ‬مثالا‭ ‬لامعا‭ ‬ورائدا‭ ‬ناجحا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار،‭ ‬فقد‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1971،‭ ‬وظل‭ ‬متمسكًا‭ ‬بها‭ ‬لمدة‭ ‬29‭ ‬عامًا‭ ‬حتى‭ ‬وفاته،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬ضمان‭ ‬توريث‭ ‬الحكم‭ ‬لابنه‭ ‬بشار‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تم‭ ‬تعديل‭ ‬الدستور‭ ‬السوري‭ ‬لتخفيض‭ ‬السن‭ ‬القانوني‭ ‬لتولي‭ ‬السلطة،‭ ‬وبالفعل‭ ‬فقد‭ ‬نُصب‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬رئيسًا‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2000م،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬متربعًا‭ ‬على‭ ‬عرش‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الحرب‭ ‬الطاحنة‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬سوريا،‭ ‬والتي‭ ‬دامت‭ ‬8‭ ‬سنوات،‭ ‬وبذلك‭ ‬فإن‭ ‬راية‭ ‬“جمهورية‭ ‬آل‭ ‬الأسد‭ ‬الوراثية”‭ ‬ظلت‭ ‬خفاقة‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬السوريين‭ ‬طوال‭ ‬الـ‭ ‬48‭ ‬عامًا‭ ‬الماضية،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭.‬

الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬تسلم‭ ‬سدة‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬23‭ ‬يوليو‭ ‬1952،‭ ‬وظل‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬حتى‭ ‬وفاته‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1970،‭ ‬تبعه‭ ‬الرئيس‭ ‬محمد‭ ‬أنور‭ ‬السادات‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬مصر‭ ‬لمدة‭ ‬11‭ ‬عامًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تم‭ ‬اغتياله‭ ‬في‭ ‬“حادث‭ ‬المنصة”‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1981،‭ ‬ثم‭ ‬تولى‭ ‬السلطة‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬الرئيس‭ ‬محمد‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬رئيسًا‭ ‬لمصر‭ ‬لمدة‭ ‬30‭ ‬عامًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أُطيح‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬إثر‭ ‬اندلاع‭ ‬احتجاجات‭ ‬أو‭ ‬ثورة‭ ‬يناير‭ ‬2011‭. ‬وحسب‭ ‬تصنيف‭ ‬“فورين‭ ‬بوليسي”‭ ‬الأميركية،‭ ‬فإن‭ ‬الرئيس‭ ‬مبارك‭ ‬يحتل‭ ‬المركز‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬في‭ ‬“قائمة‭ ‬فورين‭ ‬بوليسي‭ ‬لأسوأ‭ ‬السيئين”‭ ‬للعام‭ ‬2010،‭ ‬حيث‭ ‬اعتبرته‭ ‬“حاكم‭ ‬مطلق‭ ‬مستبد‭ ‬يعاني‭ ‬داء‭ ‬العظمة‭ ‬وشغله‭ ‬الشاغل‭ ‬الوحيد‭ ‬أن‭ ‬يستمر‭ ‬في‭ ‬منصبه،‭ ‬وهو‭ ‬يشك‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬ظله‭ ‬ويحكم‭ ‬البلاد‭ ‬منذ‭ ‬30‭ ‬عاما‭ ‬بقانون‭ ‬الطوارئ‭ ‬لإخماد‭ ‬أي‭ ‬نشاط‭ ‬للمعارضة،‭ ‬وكان‭ ‬يجهز‭ ‬ابنه‭ ‬جمال‭ ‬لخلافته”‭.‬

أما‭ ‬أيقونة‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬فهو‭ ‬“ملك‭ ‬ملوك‭ ‬إفريقيا”‭ ‬الرئيس‭ ‬الليبي‭ ‬العقيد‭ ‬معمر‭ ‬القذافي‭ ‬الذي‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬قاده‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1969،‭ ‬وظل‭ ‬جاثمًا‭ ‬على‭ ‬خناق‭ ‬الشعب‭ ‬الليبي‭ ‬والأمة‭ ‬العربية‭ ‬لمدة‭ ‬42‭ ‬عامًا،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬هيأ‭ ‬ابنه‭ ‬سيف‭ ‬الإسلام‭ ‬لخلافته‭ ‬لولا‭ ‬انتفاضة‭ ‬الشعب‭ ‬الليبي‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2011‭ ‬وأدت‭ ‬إلى‭ ‬مقتله‭ ‬بصورة‭ ‬مزرية‭ ‬بشعة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬عهده‭ ‬بدأ‭ ‬نائبا‭ ‬لرئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1975،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬كان‭ ‬الحاكم‭ ‬الفعلي‭ ‬للعراق‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬حتى‭ ‬الإطاحة‭ ‬به‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬القوات‭ ‬الأميركية‭ ‬عندما‭ ‬اجتاحت‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2003،‭ ‬وبعدها‭ ‬بـ‭ ‬3‭ ‬سنوات‭ ‬تم‭ ‬إعدامه‭ ‬شنقًا‭. ‬ولسنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬قبل‭ ‬الإطاحة‭ ‬به،‭ ‬كان‭ ‬ابنه‭ ‬عدي‭ ‬يعتبر‭ ‬ولي‭ ‬عهده‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬حدة‭ ‬طبعه‭ ‬وحماقته‭.‬

وقد‭ ‬أمضى‭ ‬الرئيس‭ ‬المجاهد‭ ‬الحبيب‭ ‬بورقيبة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬30‭ ‬سنة‭ ‬في‭ ‬حكم‭ ‬تونس‭ ‬منذ‭ ‬استقلالها‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1954،‭ ‬وتقول‭ ‬رواية‭ ‬أخرى،‭ ‬إن‭ ‬الرئيس‭ ‬السنغالي‭ ‬الأديب‭ ‬الشاعر‭ ‬ليوبولد‭ ‬سنغور،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تنازل‭ ‬عن‭ ‬الرئاسة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1980‭ ‬قام‭ ‬بزيارة‭ ‬خاصة‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬والتقى‭ ‬صديقه‭ ‬الرئيس‭ ‬بورقيبة،‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬ناصحًا‭: ‬“لماذا‭ ‬لا‭ ‬تتنحى‭ ‬عن‭ ‬الحكم‭ ‬مادمت‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬قمة‭ ‬مجدك؟”،‭ ‬فغضب‭ ‬بورقيبة‭ ‬ورد‭ ‬عليه‭ ‬بحدة‭ ‬قائلًا‭ ‬بالفرنسية‭ ‬ما‭ ‬معناه‭ ‬“لو‭ ‬كنت‭ ‬عبدًا‭ ‬أسود‭ ‬مثلك‭ ‬لفعلت”،‭ ‬وأمره‭ ‬بالانصراف،‭ ‬ثم‭ ‬تمتم‭ ‬بهذا‭ ‬البيت‭ ‬المشهور‭ ‬للمتنبي‭ ‬“مـا‭ ‬كُنـتُ‭ ‬أَحسَبُنـي‭ ‬أَحيـا‭ ‬إلـى‭ ‬زَمَـنٍ‭... ‬يُسـيء‭ ‬بـي‭ ‬فيـه‭ ‬عَبـد‭ ‬وَهْـوَ‭ ‬مَحمـودُ”،‭ ‬هنا‭ ‬أيضًا‭ ‬العهدة‭ ‬على‭ ‬الراوي،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬المعروف‭ ‬عن‭ ‬بورقيبة‭ ‬حبه‭ ‬وولعه‭ ‬بالشعر‭ ‬العربي‭.‬

زين‭ ‬العابدين‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬وزير‭ ‬داخلية‭ ‬بورقيبة‭ ‬قام‭ ‬بانقلاب‭ ‬على‭ ‬سيده‭ ‬وأطاح‭ ‬به‭ ‬واستولى‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1987،‭ ‬وكغيره‭ ‬من‭ ‬الرؤساء‭ ‬العرب‭ ‬الذين‭ ‬يعاد‭ ‬انتخابهم‭ ‬بالإجماع‭ ‬أو‭ ‬بغالبية‭ ‬99‭.‬9‭ % ‬أو‭ ‬في‭ ‬أسوأ‭ ‬الأحوال‭ ‬بغالبية‭ ‬ساحقة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬انتخابات‭ ‬يخوضونها،‭ ‬فقد‭ ‬أعيد‭ ‬انتخاب‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬وظل‭ ‬ماسكًا‭ ‬بناصية‭ ‬الحكم‭ ‬بقبضة‭ ‬من‭ ‬حديد‭ ‬لمدة‭ ‬تزيد‭ ‬عن‭ ‬23‭ ‬عامًا‭ ‬حتى‭ ‬العام‭ ‬2011‭ ‬عندما‭ ‬ثار‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬ضده‭ ‬وأطاح‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬انتفاضة‭ ‬أيقظها‭ ‬الشاب‭ ‬محمد‭ ‬البوعزيزي‭ ‬الذي‭ ‬أحرق‭ ‬نفسه؛‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬غضبه‭ ‬على‭ ‬بطالته‭ ‬ومصادرة‭ ‬عربته‭ ‬التي‭ ‬يبيع‭ ‬عليها‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬قيام‭ ‬شرطية‭ ‬بصفعه‭ ‬أمام‭ ‬الملأ،‭ ‬وكانت‭ ‬انتفاضة‭ ‬الشعب‭ ‬التونسي‭ ‬الشرارة‭ ‬التي‭ ‬أضرمت‭ ‬نيران‭ ‬ما‭ ‬سمي‭ ‬بالربيع‭ ‬العربي‭.‬

اضطر‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬على‭ ‬عجل،‭ ‬إلى‭ ‬التنحي‭ ‬عن‭ ‬السلطة‭ ‬والهروب‭ ‬هو‭ ‬وأسرته‭ ‬خلسة‭ ‬من‭ ‬البلاد‭ ‬تاركًا‭ ‬وراءه‭ ‬كمية‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬المجوهرات‭ ‬والمقتنيات‭ ‬الثمينة‭ ‬وخزائن‭ ‬مملوءة‭ ‬بملايين‭ ‬الدولارات‭ ‬لم‭ ‬يتسع‭ ‬الوقت‭ ‬أو‭ ‬المجال‭ ‬لحملها‭ ‬كلها‭ ‬معه‭.‬

ومعروفة‭ ‬للجميع‭ ‬قصة‭ ‬الرئيس‭ ‬اليمني‭ ‬علي‭ ‬عبدالله‭ ‬صالح‭ ‬الذي‭ ‬حكم‭ ‬اليمن‭ ‬لمدة‭ ‬34‭ ‬سنة،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تم‭ ‬خلعه‭ ‬بصعوبة‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2012،‭ ‬وخلال‭ ‬فترة‭ ‬حكمه‭ ‬لليمن‭ ‬الفقير‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬اختلس،‭ ‬كغيره‭ ‬من‭ ‬الرؤساء‭ ‬العرب،‭ ‬المليارات‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬التي‭ ‬أنفق‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬منها‭ ‬لاحقًا‭ ‬في‭ ‬مؤامرات‭ ‬ومغامرات‭ ‬عسكرية‭ ‬فاشلة‭ ‬كلفته‭ ‬حياته،‭ ‬وكانت‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬استعادته‭ ‬للسلطة،‭ ‬والتي‭ ‬أدت‭ ‬بدورها‭ ‬إلى‭ ‬انزلاق‭ ‬اليمن‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬طاحنة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬رحاها‭ ‬تدور‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.‬

وإذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬الرئيس‭ ‬الدكتاتور‭ ‬الجنرال‭ ‬فرانكو،‭ ‬فسنجد‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يقارب‭ ‬من‭ ‬200‭ ‬ألف‭ ‬إلى‭ ‬500‭ ‬ألف‭ ‬إسباني‭ ‬قتلوا‭ ‬في‭ ‬عهده‭ ‬وبسبب‭ ‬مواقفه‭ ‬أو‭ ‬تصرفاته،‭ ‬كما‭ ‬سنجد‭ ‬أنه‭ ‬أوفى‭ ‬بوعده‭ ‬وأعاد‭ ‬الملكية‭ ‬الدستورية‭ ‬إلى‭ ‬بلاده‭ ‬عندما‭ ‬عين،‭ ‬قبل‭ ‬وفاته،‭ ‬الأمير‭ ‬خوان‭ ‬كارلوس‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1969‭ ‬خليفة‭ ‬له‭ ‬ليتولى‭ ‬الحكم‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬فأسس‭ ‬بذلك‭ ‬نظاما‭ ‬ملكيا‭ ‬ديمقراطيا‭ ‬مستقرا،‭ ‬ولم‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يورث‭ ‬السلطة‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أقربائه‭ ‬أو‭ ‬اتباعه،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬أجرى‭ ‬إصلاحات‭ ‬اقتصادية‭ ‬ووضع‭ ‬بلاده‭ ‬إسبانيا‭ ‬على‭ ‬عتبات‭ ‬التطور‭ ‬والنمو‭ ‬الاقتصادي‭. ‬أما‭ ‬رؤساء‭ ‬الجمهوريات‭ ‬العربية‭ ‬المذكورون،‭ ‬فإن‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬ماتوا‭ ‬وقتلوا‭ ‬في‭ ‬عهدهم‭ ‬وبسببهم‭ ‬يفوق‭ ‬أضعاف‭ ‬المرات‭ ‬ما‭ ‬حققه‭ ‬واقترفه‭ ‬الدكتاتور‭ ‬فرانكو،‭ ‬وقد‭ ‬تربع‭ ‬بعضهم‭ ‬على‭ ‬كراسي‭ ‬الحكم‭ ‬لمدد‭ ‬تتساوى‭ ‬أو‭ ‬تتخطى‭ ‬وتزيد‭ ‬عن‭ ‬المدة‭ ‬التي‭ ‬قضاها‭ ‬فرانكو‭ ‬في‭ ‬الحكم،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬فرانكو‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يضاهي‭ ‬أي‭ ‬منهم‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬تفشي‭ ‬وانتشار‭ ‬الفساد،‭ ‬وفي‭ ‬حجم‭ ‬النهب‭ ‬والاختلاس‭ ‬والتبذير‭ ‬والهدر‭ ‬المالي‭ ‬والتراجع‭ ‬والانهيار‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الذي‭ ‬ألحقوه‭ ‬ببلدانهم‭.‬

إن‭ ‬الهدف‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬هو‭ ‬المساهمة‭ ‬المتواضعة‭ ‬في‭ ‬رصد‭ ‬الظواهر‭ ‬والتصرفات‭ ‬التي‭ ‬قادتنا‭ ‬وتقودنا‭ ‬إلى‭ ‬هاوية‭ ‬التخلف‭ ‬والانكسار،‭ ‬ومنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬أو‭ ‬أنظمة‭ ‬رؤساء‭ ‬الجمهوريات‭ ‬العرب‭ ‬المخلدون،‭ ‬دون‭ ‬محاولة‭ ‬منا‭ ‬لتنزيه‭ ‬الأنظمة‭ ‬الملكية‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬التجاوزات‭ ‬والأخطاء‭ ‬التي‭ ‬نتمنى‭ ‬أن‭ ‬يوفقهم‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬إصلاحها‭ ‬وتجاوزها‭.‬