قهوة الصباح

المجد‭ ‬والسعادة

| سيد ضياء الموسوي

النزف‭ ‬على‭ ‬ورقة‭ ‬الكتابة‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الحزن،‭ ‬والكتابة‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الصلاة‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الأديب‭ ‬الألماني‭ ‬كافكا‭. ‬لا‭ ‬أتصيد‭ ‬معاناة‭ ‬العظماء‭ ‬لأصنع‭ ‬جرحًا‭ ‬يتراكم‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬حرف،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مقال‭ ‬مأتم‭ ‬أو‭ ‬بيت‭ ‬عزاء،‭ ‬ولكن‭ ‬هدفي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬أرسو‭ ‬بسفينة‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬السعادة،‭ ‬وأننا‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نسعد‭ ‬بما‭ ‬عجز‭ ‬عنه‭ ‬عظماء‭ ‬المجد‭ ‬إذا‭ ‬أحسنّا‭ ‬اختيار‭ ‬اقتناص‭ ‬الجمال‭ ‬ببندقية‭ ‬غير‭ ‬صدئة،‭ ‬وبعين‭ ‬تنقض‭ ‬بأهدابها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬قطعة‭ ‬جمال‭ ‬في‭ ‬لوحة‭ ‬فنان‭ ‬أو‭ ‬فكرة‭ ‬متسللة‭ ‬من‭ ‬فيلسوف‭ ‬أو‭ ‬استلقاء‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬أو‭ ‬انتقاء‭ ‬قطعة‭ ‬لباس‭ ‬فنية‭ ‬أو‭ ‬الطرب‭ ‬لموسيقى‭ ‬كموسيقى‭ ‬موزارت‭ ‬بالنمسا،‭ ‬أو‭ ‬قراءة‭ ‬جمال‭ ‬شعر‭ ‬آرثر‭ ‬رامبو‭ ‬أو‭ ‬احتواء‭ ‬قطعة‭ ‬جميلة‭ ‬من‭ ‬“دولجي‭ ‬اند‭ ‬كفانا”‭ ‬أو‭ ‬“فيلبلين”‭.‬

‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لليأس‭ ‬والأمل‭ ‬يتدفق‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬الإله‭ ‬في‭ ‬السماء‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬زخة‭ ‬مطر،‭ ‬وطيران‭ ‬نورس،‭ ‬ورقصة‭ ‬فراشة‭ ‬زرقاء،‭ ‬أو‭ ‬ابتسامة‭ ‬زهرة،‭ ‬أو‭ ‬حفيف‭ ‬شجر،‭ ‬وخرير‭ ‬ماء‭. ‬

سعدت‭ ‬برؤية‭ ‬لوحة‭ ‬الموناليزا‭ ‬في‭ ‬متحف‭ ‬اللوفر‭ ‬بباريس،‭ ‬وتماثيل‭ ‬مايكل‭ ‬أنجلو‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬إيطاليا،‭ ‬ومسرحيات‭ ‬شكسبير‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬ولوحات‭ ‬دالي‭ ‬باسبانيا،‭ ‬وفلسفة‭ ‬نيتشه‭ ‬بألمانيا،‭ ‬فإن‭ ‬هم‭ ‬حزنوا‭ ‬واكتأبوا‭ ‬فلنسعد‭ ‬بإنجازات‭ ‬مجدهم،‭ ‬ولنتعشق‭ ‬السعادة‭ ‬فربما‭ ‬يسعدون‭ ‬في‭ ‬جنتهم‭ ‬عند‭ ‬رب‭ ‬رحيم‭.. ‬وأتعجب‭ ‬من‭ ‬عظيم‭ ‬مجد‭ ‬كيف‭ ‬يكتئب،‭ ‬والله‭ ‬وضع‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الصلوات‭ ‬الجمالية،‭ ‬فكيف‭ ‬يكتئب‭ ‬بيتهوفن‭ ‬في‭ ‬النمسا،‭ ‬وهي‭ ‬تمتلك‭ ‬أجمل‭ ‬لون‭ ‬للطبيعة‭ ‬في‭ ‬زلامسي،‭ ‬وكيف‭ ‬يحزن‭ ‬دافينشي‭ ‬في‭ ‬إيطاليا‭ ‬المليء‭ ‬بالجزر‭ ‬المرصعة‭ ‬بأجمل‭ ‬السواحل؟‭ ‬وكيف‭ ‬للوركا‭ ‬أن‭ ‬يفترسه‭ ‬الوجع‭ ‬وبجواره‭ ‬كل‭ ‬أرياف‭ ‬برشلونه،‭ ‬أو‭ ‬يكره‭ ‬جان‭ ‬جنيه‭ ‬باريس‭ ‬وهي‭ ‬تتنفس‭ ‬الجمال،‭ ‬وتضحك‭ ‬عطورًا‭ ‬وفلسفة‭ ‬وأناقة‭ ‬وتاريخا‭ ‬عريقا‭ ‬مزدانا‭ ‬من‭ ‬روسو‭ ‬وفولتير،‭ ‬وغستاف‭ ‬لوبون‭ ‬وغستاف‭ ‬فلوبير؟

وكيف‭ ‬لفان‭ ‬جوغ‭ ‬أن‭ ‬ينتحر‭ ‬بسبب‭ ‬حب،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬هولندا‭ ‬الأنهار‭ ‬الراقصة‭ ‬على‭ ‬خريطة‭ ‬امستردام‭ ‬أو‭ ‬يفوت‭ ‬الأديب‭ ‬الأميركي‭ ‬همنجواى‭ ‬كل‭ ‬شلالات‭ ‬كندا‭ ‬وجمال‭ ‬لوس‭ ‬انجلوس،‭ ‬وميامي؟‭ ‬هناك‭ ‬خلل‭ ‬في‭ ‬أصحاب‭ ‬المجد‭ ‬بأن‭ ‬يختصروا‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬زاوية،‭ ‬وينسوا‭ ‬بقية‭ ‬زوايا‭ ‬الجمال‭. ‬المكتئب‭ ‬أغفله‭ ‬الحزن‭ ‬عن‭ ‬جمال‭ ‬الوجود‭ ‬المتنوع،‭ ‬وحصر‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬ضيقة،‭ ‬وقراءته‭ ‬ناقصة‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬الحياة،‭ ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬بلا‭ ‬ألم‭ ‬أو‭ ‬وجع،‭ ‬وكي‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬الوجع‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬علاجه‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬آخر‭.‬

‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬خذلان‭ ‬الحب‭ ‬أو‭ ‬الصديق،‭ ‬فإن‭ ‬الله‭ ‬خلق‭ ‬ثمانية‭ ‬مليارات‭ ‬إنسان‭. ‬إن‭ ‬أكبر‭ ‬مشكلة‭ ‬لدى‭ ‬عظيم‭ ‬المجد‭ ‬هو‭ ‬رؤيته‭ ‬وفلسفته‭ ‬الناقصة‭ ‬للوجود،‭ ‬وحشر‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬واحدة‭ ‬وزقاق‭ ‬لا‭ ‬يخرج‭ ‬منه،‭ ‬فمن‭ ‬تعلق‭ ‬بحبيبة‭ ‬قتل‭ ‬نفسه،‭ ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬وجوده‭ ‬الكبير‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬مال‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭ ‬فقد‭ ‬ظلم‭ ‬نفسه‭ ‬وأساء‭ ‬الظن‭ ‬بربه‭ ‬واختصر‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬مخدع‭ ‬جمالي‭. ‬يقول‭ ‬درويش‭: ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬الحياة‭. ‬

كن‭ ‬كالنورس،‭ ‬فرغم‭ ‬غربته‭ ‬وترحاله‭ ‬يجد‭ ‬فرحه‭ ‬في‭ ‬تعدد‭ ‬المواني‭ ‬والشطآن،‭ ‬كن‭ ‬كعلي‭ ‬أحلى‭ ‬لمسات‭ ‬الجمال‭ ‬عنده‭ ‬اللمسة‭ ‬الإنسانية‭. ‬إشكالية‭ ‬اكتئاب‭ ‬العظماء‭ ‬هو‭ ‬هوس‭ ‬التعلق،‭ ‬وجنون‭ ‬الارتباط‭ ‬إما‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭ ‬أو‭ ‬فلسفة،‭ ‬والإمام‭ ‬علي‭ ‬يقول”استغنِ‭ ‬عمن‭ ‬شئت‭ ‬تكن‭ ‬نظيره،‭ ‬واحتج‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬شئت‭ ‬تكن‭ ‬أسيره،‭ ‬وأحسن‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬شئت‭ ‬تكن‭ ‬أميره”،‭ ‬و‭ ‬“أكثر‭ ‬مصارع‭ ‬العقول‭ ‬تحت‭ ‬بريق‭ ‬المطامع”‭. ‬

إذن‭ ‬صفّر‭ ‬أهمية‭ ‬الأشياء،‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬فاديم‭ ‬زيلاند،‭ ‬وتمتع‭ ‬بالحياة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تسجن‭ ‬بمجد‭ ‬أو‭ ‬بريق‭ ‬منصب‭ ‬أو‭ ‬هوى‭ ‬حب‭ ‬أو‭ ‬لمعان‭ ‬مال‭ ‬أو‭ ‬أضواء‭ ‬شهرة‭ ‬أو‭ ‬هوس‭ ‬كتابة‭. ‬مع‭ ‬الإيمان‭ ‬بالله‭ ‬ستنبت‭ ‬على‭ ‬خنجر‭ ‬الحياة‭ ‬زهرة‭ ‬سنديان،‭ ‬ويستحيل‭ ‬الدم‭ ‬لونًا‭ ‬أخضر‭.‬