قهوة الصباح

المجد والاكتئاب (5)

| سيد ضياء الموسوي

ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬الروائي‭ ‬الإنكليزي،‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنز،‭ ‬صاحب‭ ‬رائعة‭ ‬أوليفر‭ ‬تويست‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬الوسواس‭ ‬القهري،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬يعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬أثاثه‭ ‬دومًا؟‭ ‬هل‭ ‬المجد‭ ‬يفقد‭ ‬الإنسان‭ ‬توازنه؟‭ ‬هل‭ ‬سبب‭ ‬التعاسة‭ ‬مال‭ ‬أم‭ ‬شهرة‭ ‬أم‭ ‬حب‭ ‬أم‭ ‬جينات،‭ ‬وهل‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بطبيعة‭ ‬البنية‭ ‬الفكرية‭ ‬للمبدع‭ ‬في‭ ‬مفهومه‭ ‬للحياة‭ ‬والسعادة‭ ‬والوجود‭ ‬ومدى‭ ‬فهمه‭ ‬للعلاقة‭ ‬مع‭ ‬الله‭ ‬والماورائيات؟‭ ‬وكيف‭ ‬لكبار‭ ‬يستسلمون‭ ‬لاكتئاب،‭ ‬وبينهم‭ ‬أنهار‭ ‬نعم‭ ‬الله‭ ‬تجري؟‭!! ‬فماذا‭ ‬يريد‭ ‬المبدع‭ ‬بعد‭ ‬المجد؟‭ ‬هل‭ ‬الخلود،‭ ‬وهم‭ ‬الخالدة‭ ‬أسماؤهم؟‭ ‬فالعظماء‭ ‬مصابيح‭ ‬متدلية‭ ‬على‭ ‬بوابة‭ ‬الحضارة‭!! ‬أطرب‭ ‬الحياة‭ ‬مايكل‭ ‬جاكسون‭ ‬لكن‭ ‬قلبه‭ ‬يقطر‭ ‬دمًا،‭ ‬وكم‭ ‬أضحكنا‭ ‬الممثل‭ ‬روبين‭ ‬وليامز‭ ‬ويعلم‭ ‬الله‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬من‭ ‬حزن‭!! ‬إذن‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬السر‭ ‬الخفي‭ ‬في‭ ‬ذلك؟‭ ‬هو‭ ‬لغز‭ ‬النفس‭ ‬المطلسم؟‭ ‬وهل‭ ‬غاب‭ ‬عن‭ ‬فرويد‭ ‬معرفته؟‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬أجيب‭ ‬عليه‭ ‬لاحقًا‭ ‬وأتركها‭ ‬لسيرة‭ ‬النار‭. ‬وذات‭ ‬الوجع‭ ‬يتكرّر‭ ‬لفنان‭ ‬لوحة‭ ‬“الصرخة”‭ ‬للنرويجي‭ ‬ادفارد‭ ‬مونك،‭ ‬والتي‭ ‬تحمل‭ ‬شحنة‭ ‬الدراما‭ ‬والخوف‭ ‬الوجودي‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬يشرح‭ ‬فيها‭ ‬الفنان‭ ‬ألمه‭ ‬قائلاً‭ ‬“ووقفت‭ ‬هناك‭ ‬أرتجف‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬سببه‭ ‬أو‭ ‬مصدره‭. ‬وفجأة‭ ‬سمعت‭ ‬صوت‭ ‬صرخة‭ ‬عظيمة‭ ‬تردد‭ ‬صداها‭ ‬طويلاً‭ ‬عبر‭ ‬الطبيعة‭ ‬المجاورة”‭. ‬فما‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬هذا‭ ‬الخوف‭ ‬وفوبيا‭ ‬الوجود؟‭ ‬وذات‭ ‬الوجع‭ ‬المتشظي‭ ‬زجاج‭ ‬روح،‭ ‬وبخار‭ ‬نفس‭ ‬تتلظى‭ ‬احتراقًا‭ ‬ودخانًا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬لوحة‭ ‬عازف‭ ‬الغيتار‭ ‬العجوز‭ ‬للفنان‭ ‬الاسباني‭ ‬بابلو‭ ‬بيكاسو‭ ‬أو‭ ‬لوحة‭ ‬“العشيقان”‭ ‬للفنان‭ ‬البلجيكي‭ ‬رينيه‭ ‬ماغريت‭ ‬ووجهها‭ ‬مغطى‭ ‬حيث‭ ‬ارتسمت‭ ‬لوحاته‭ ‬بالغطاء‭ ‬كعقدة‭ ‬بسبب‭ ‬رؤية‭ ‬صورة‭ ‬أمه‭ ‬المنتحرة‭ ‬في‭ ‬النهر‭ ‬مغطى‭ ‬وجهها،‭ ‬عقدة‭ ‬تحولت‭ ‬إلى‭ ‬ذكرى‭ ‬متورمة،‭ ‬ووجع‭ ‬ماض‭ ‬تحوّل‭ ‬إلى‭ ‬ريشة‭ ‬ترسم‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬الفنان‭ ‬بأصابع‭ ‬مستعارة،‭ ‬وبتخاذل‭ ‬وصفقة‭ ‬مع‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬للفنان؟‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمالقة‭ ‬لم‭ ‬يطلبوا‭ ‬بستان‭ ‬ورد‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬جرح‭ ‬أصابهم،‭ ‬بل‭ ‬رحمة‭ ‬وجود‭ ‬أو‭ ‬لمسة‭ ‬يد‭ ‬حانية‭ ‬أو‭ ‬قلب‭ ‬رحيم‭ ‬يفكّك‭ ‬الحزن،‭ ‬ويعيد‭ ‬تركيبه‭ ‬إلى‭ ‬فرح‭!! ‬وحده‭ ‬العظيم‭ ‬من‭ ‬يشعر‭ ‬بوقع‭ ‬الاحتراق‭ ‬عندما‭ ‬يستحيل‭ ‬المجد‭ ‬رمادًا‭ ‬في‭ ‬الفم‭ ‬أو‭ ‬ترابًا‭ ‬على‭ ‬مخدة‭ ‬سرير،‭ ‬عندما‭ ‬يرتهن‭ ‬القلب‭ ‬على‭ ‬مسلخ‭ ‬جزار،‭ ‬اسمه‭ ‬القدر،‭ ‬ويطالب‭ ‬هذا‭ ‬العظيم‭ ‬بالامتنان،‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يقدر‭ ‬أن‭ ‬يخادع‭ ‬نفسه‭ ‬مهما‭ ‬كثرت‭ ‬الأضواء،‭ ‬وهو‭ ‬يساءل‭ ‬ذاته‭: ‬أنت‭ ‬وحدك‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الشعور‭ ‬بأن‭ ‬يتم‭ ‬إخبارك‭ ‬كم‭ ‬أنت‭ ‬شديد‭ ‬الحظ‭ ‬لكي‭ ‬تكون‭ ‬سجينًا‭ ‬لشخص‭ ‬أو‭ ‬لمنصب‭ ‬أو‭ ‬لمجد‭ ‬يبتلع‭ ‬سعادتك‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬ابراهام‭ ‬نيكولن‭ ‬أو‭ ‬شهرة‭ ‬تذبح‭ ‬خصوصيتك‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬مارلين‭ ‬مونرو‭ ‬أو‭ ‬مال‭ ‬لا‭ ‬يسعدك‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬كريستين‭ ‬أوناسيس‭ ‬أو‭ ‬حب‭ ‬احتظنته‭ ‬زهرة‭ ‬فكان‭ ‬أفعى‭ ‬كحبيبة‭ ‬كرستيانو‭ ‬السابقة،‭ ‬هو‭ ‬الحب‭ ‬يخنق‭ ‬الكبار،‭ ‬ولو‭ ‬كانوا‭ ‬بعلو‭ ‬جبال‭ ‬الآلب،‭ ‬وعيونهم‭ ‬زرقاء‭ ‬لكثرة‭ ‬ما‭ ‬نظروا‭ ‬للسماء،‭ ‬هو‭ ‬الحب‭ ‬دمر‭ ‬ببيتهوفن،‭ ‬وفان‭ ‬جوخ،‭ ‬ونيتشه،‭ ‬ودالي،‭ ‬وتشايكوفسكي،‭ ‬ورامبو،‭ ‬ودافينشي،‭ ‬والقائمة‭ ‬تطول‭. ‬لقد‭ ‬قادهم‭ ‬إلى‭ ‬الاكتئاب،‭ ‬والجنون،‭ ‬فكلما‭ ‬كثر‭ ‬من‭ ‬تحبهم‭ ‬كلما‭ ‬ازددت‭ ‬ضعفًا‭. ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬الفرح‭ ‬لا‭ ‬يؤجّل،‭ ‬فلماذا‭ ‬هربوا‭ ‬منه‭ ‬“وإذا‭ ‬جاءك‭ ‬الفرح،‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬فلا‭ ‬تذكر‭ ‬خيانته‭ ‬السابقة‭. ‬ادخل‭ ‬الفرح‭ ‬وانفجر”‭ ‬محمود‭ ‬درويش‭ ‬الذي‭ ‬استقال‭ ‬عن‭ ‬الحياة‭ ‬واعتزل‭ ‬في‭ ‬شقة‭ ‬معزولة‭ ‬في‭ ‬باريس‭. ‬إنه‭ ‬المجد‭ ‬يبقيك‭ ‬وحيدًا‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكتشف‭ ‬طعم‭ ‬“كوكتيل‭ ‬الحياة”‭ ‬المتنوع‭ ‬من‭ ‬ثقافة‭ ‬عقل،‭ ‬وإنسانية‭ ‬ضمير،‭ ‬ووسطية‭ ‬اقتصاد،‭ ‬ورياضة‭ ‬تشذب‭ ‬حديقة‭ ‬جسدك،‭ ‬وأدب‭ ‬روح،‭ ‬وترحال‭ ‬سفر‭ ‬كابن‭ ‬بطوطه،‭ ‬وبحث‭ ‬تكتشف‭ ‬فيه‭ ‬جمال‭ ‬الوجود،‭ ‬وقلب‭ ‬أخ‭ ‬صادق،‭ ‬وحب‭ ‬بلا‭ ‬شروط،‭ ‬وطعام‭ ‬تتذوق‭ ‬مذاقه‭. ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬ادم،‭ ‬ادخل‭ ‬في‭ ‬الفرح‭ ‬وانفجر‭.‬