قهوة الصباح

المجد‭ ‬والاكتئاب‭ (‬3‭)‬

| سيد ضياء الموسوي

يقول‭ ‬غوستاف‭ ‬فلوبير‭ ‬صاحب‭ ‬إبداعية‭ ‬“مدام‭ ‬بوفاري”‭: ‬“عندما‭ ‬يتحوّل‭ ‬الجرح‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬جديدة،‭ ‬لي‭ ‬الحق‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬الآن‭ ‬بيدي‭ ‬المحروقة‭ ‬عن‭ ‬سيرة‭ ‬النار”‭.‬

اسمحوا‭ ‬لي،‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬ريشتي‭ ‬بلون‭ ‬دمع‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬وحمرة‭ ‬جراح‭ ‬كتاب‭ ‬صنعوا‭ ‬المجد‭ ‬فافترسهم،‭ ‬أو‭ ‬ألقاهم‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الوجع‭ ‬الأبدي‭. ‬لست‭ ‬سوداويًّا‭ ‬ولا‭ ‬أؤمن‭ ‬بلغة‭ ‬المناديل،‭ ‬ولا‭ ‬بمازوخية‭ ‬جلد‭ ‬الذات،‭ ‬ولا‭ ‬سادية‭ ‬نهش‭ ‬الواقع،‭ ‬ولا‭ ‬بارونويا‭ ‬تمثيل‭ ‬دور‭ ‬الضحية،‭ ‬وإنما‭ ‬هدفي‭ ‬من‭ ‬النزف‭ ‬من‭ ‬سيرة‭ ‬العظماء‭ ‬كشف‭ ‬السر،‭ ‬وإيجاد‭ ‬سترة‭ ‬نجاة‭ ‬حل‭.‬

محمد‭ ‬الماغوط‭ ‬أصيب‭ ‬باكتئاب‭ ‬حاد‭ ‬بعد‭ ‬وفاة‭ ‬زوجته‭ ‬الأديبة‭ ‬سنية‭ ‬صالح،‭ ‬فأغلق‭ ‬بابه‭ ‬عليه‭ ‬وتوقّف‭ ‬عن‭ ‬الكتابة،‭ ‬لو‭ ‬التفاف‭ ‬أصدقائه،‭ ‬فأخرجوه‭ ‬من‭ ‬حزنه‭ ‬فعاد‭ ‬بزوج‭ ‬كنسي‭ ‬مع‭ ‬ريشته،‭ ‬وهو‭ ‬القائل‭ ‬“أشعر‭ ‬أن‭ ‬شيئًا‭ ‬تحطّم‭ ‬في‭ ‬أعماقي‭ ‬غير‭ ‬الأضلاع،‭ ‬شيء‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬العظام‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬ترميمه‭ ‬على‭ ‬الإطلاق”‭.‬

ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الموسيقار‭ ‬موزارت‭ ‬ينسج‭ ‬بحزن‭ ‬“القداس‭ ‬الجنائزي”؟‭ ‬كلنا‭ ‬انبهرنا‭ ‬بتماثيل‭ ‬النحات‭ ‬الإيطالي‭ ‬العالمي‭ ‬ميكيلا‭ ‬انجلو‭ ‬في‭ ‬كنائس‭ ‬أوريا،‭ ‬وكل‭ ‬المجد،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬قرأ‭ ‬قلبه‭ ‬وخفايا‭ ‬دموعه؟‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬فولتير‭ ‬متشائمًا‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬الحضارة،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬عاشت‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬فكره‭ ‬مع‭ ‬روسو،‭ ‬وقد‭ ‬سجن‭ ‬في‭ ‬سجن‭ ‬الباستيل؟‭ ‬أما‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو‭ ‬فكان‭ ‬متشائمًا‭ ‬من‭ ‬الحضارة‭ ‬وقسوتها،‭ ‬فقد‭ ‬رمى‭ ‬الناس‭ ‬عليه‭ ‬الحجارة‭ ‬بسبب‭ ‬أفكاره‭ ‬لرفضه‭ ‬في‭ ‬زفات‭ ‬الرقص‭ ‬الجمعي‭. ‬وفي‭ ‬مفارقة‭ ‬غريبة،‭ ‬دعا‭ ‬للمساواة‭ ‬وترك‭ ‬أولاده‭ ‬الخمسة‭ ‬في‭ ‬ميتم‭ ‬وفرّ‭ ‬هاربًا‭! ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬نظر‭ ‬لتربية‭ ‬الطفل‭! ‬هل‭ ‬هي‭ ‬العبقرية‭ ‬أم‭ ‬الجنون‭ ‬أم‭ ‬حزن‭ ‬مخفي‭ ‬يأكل‭ ‬قلوب‭ ‬صانعي‭ ‬المجد؟‭ ‬كيف‭ ‬للفنان‭ ‬الإسباني‭ ‬العالمي‭ ‬سالفادور‭ ‬دالي‭ ‬يرهن‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬حب‭ ‬امرأة‭ ‬فرنسية‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭ ‬فيه‭ ‬“يعتبر‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬دالي‭ ‬لم‭ ‬يمت‭ ‬بالعام‭ ‬1988،‭ ‬وإنما‭ ‬مات‭ ‬معنويًّا‭ ‬بالعام‭ ‬1983‭ ‬عندما‭ ‬فارقت‭ ‬حبيبته‭ ‬“غالا”‭ ‬الحياة‭..‬”‭. ‬العظماء‭ ‬يموتون‭ ‬معنويًّا‭ ‬قبل‭ ‬رحيلهم‭ ‬أما‭ ‬بسبب‭ ‬خنجر‭ ‬الحب،‭ ‬أو‭ ‬لسعة‭ ‬عقرب‭ ‬صديق‭ ‬أو‭ ‬بسبب‭ ‬حماقة‭ ‬جمهور‭ ‬أو‭ ‬طعنة‭ ‬قدر‭ ‬أو‭ ‬خيانة‭ ‬الفرح،‭ ‬أو‭ ‬غربة‭ ‬الجمهور‭.‬

العظماء‭ ‬بعد‭ ‬المجد‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬أغلى‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الوجود،‭ ‬حب‭ ‬صادق‭ ‬بلا‭ ‬شروط،‭ ‬ولاء‭ ‬الروح‭ ‬لا‭ ‬صداقة‭ ‬المنصب‭ ‬والمال،‭ ‬فالمجد‭ ‬يصنع‭ ‬أعداء‭ ‬حقيقيين‭ ‬وأصدقاء‭ ‬مزيفين‭. ‬من‭ ‬منا‭ ‬لم‭ ‬يستمتع‭ ‬بفيلم‭ ‬beautiful mind‭ ‬في‭ ‬تصوير‭ ‬العقل‭ ‬الجبار،‭ ‬العقل‭ ‬الاقتصادي‭ ‬للبروفسور‭ ‬جون‭ ‬ناش،‭ ‬عالم‭ ‬عبقري‭ ‬في‭ ‬الرياضيات‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد؟

إنه‭ ‬أسطورة‭ ‬اقتصادية‭ ‬لكن‭ ‬بجوارها‭ ‬اكتئاب‭ ‬حاد‭ ‬وعقاقير،‭ ‬فهو‭ ‬مصاب‭ ‬بانفصام‭ ‬وكان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الشيزوفرانيا‭ ‬أو‭ ‬”الفصام”،‭ ‬ظل‭ ‬يسمع‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬أصواتًا‭ ‬غير‭ ‬حقيقية،‭ ‬ويرى‭ ‬شخصيات‭ ‬وهمية‭.. ‬وتم‭ ‬حجزه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬عيادات‭ ‬نفسية،‭ ‬وخضع‭ ‬للعلاج‭ ‬بصدمات‭ ‬كهربائية‭ ‬وسقط‭ ‬من‭ ‬الأدوية‭. ‬كما‭ ‬هو‭ ‬تقرير‭ ‬عن‭ ‬حياته‭.‬

حتى‭ ‬العظماء‭ ‬يحتاجون‭ ‬إلى‭ ‬رعاية‭ ‬فهم‭ ‬بشر‭ ‬والمجد‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭. ‬وماذا‭ ‬عن‭ ‬معاناة‭ ‬دافينشي‭ ‬وقسوة‭ ‬الأب‭ ‬وشكسبير‭ ‬ولعنة‭ ‬طبقة‭ ‬النبلاء‭ ‬ونزار‭ ‬قباني‭ ‬وموت‭ ‬ابنه‭ ‬وانتحار‭ ‬أخته‭ ‬وتفجير‭ ‬قتل‭ ‬زوجته‭ ‬في‭ ‬بيروت،‭ ‬وخليل‭ ‬حاوي‭ ‬والانتحار‭ ‬والروائي‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الشهير‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنز‭ ‬صاحب‭ ‬رائعة‭ ‬اوليفر‭ ‬تويست،‭ ‬والروائية‭ ‬فيرجينيا‭ ‬وولف،‭ ‬والأديب‭ ‬كافكا‭ ‬وتيلستوي‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬غريبًا‭ ‬محطمًا‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬قطار‭ ‬“آستابوفو”‭ ‬متأثرًا‭ ‬بالالتهاب‭ ‬الرئوي‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬البرد‭ ‬القارس‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬هجر‭ ‬زوجته‭ ‬صوفيا‭ ‬كاتبًا‭ ‬لها‭ ‬“لم‭ ‬أعد‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬ممارسة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرفاهية‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬بي،‭ ‬وبات‭ ‬الثراء‭ ‬يخنقني”‭! ‬فهل‭ ‬الثراء‭ ‬يخنق؟‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬خلقنا‭ ‬لنتمتع‭ ‬بجمال‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬أن‭ ‬نصبح‭ ‬ضحايا‭ ‬الحزن‭! ‬الحياة‭ ‬جميلة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نعيشها‭ ‬والإمام‭ ‬علي‭ (‬عليه‭ ‬السلام‭) ‬يقول‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬“ومزج‭ ‬حلاوتها‭ ‬بمرارتها”‭. ‬دور‭ ‬المثقف‭ ‬أن‭ ‬يحمي‭ ‬ذاته‭ ‬والوطن‭ ‬والإنسانية‭ ‬بلا‭ ‬اندفاع،‭ ‬بل‭ ‬بتوازن‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬صدمة‭ ‬حضارية‭.‬

ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬نيوزيلندا‭ ‬يحتاج‭ ‬لعلاج‭ ‬حضاري‭ ‬بمنطق‭ ‬مانديلا‭ ‬وغاندي،‭ ‬وطاغور‭ ‬والإمام‭ ‬علي‭ (‬عليه‭ ‬السلام‭)‬،‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الحزائر‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬فلاسفة‭ ‬مثل‭ ‬فولتير‭ ‬وروسو‭ ‬وديكارت‭ ‬وانجلز‭ ‬وكنت‭ ‬ونيتشه‭. ‬وإن‭ ‬خطورة‭ ‬الوضع‭ ‬بالجزائر‭ ‬بعودة‭ ‬الفكر‭ ‬المتطرف‭ ‬من‭ ‬عباس‭ ‬مدني‭ ‬وغيره‭ ‬حيث‭ ‬يسقط‭ ‬المسرح‭ ‬ويعود‭ ‬ذات‭ ‬الممثلين‭. ‬العرب‭ ‬بلا‭ ‬ثورة‭ ‬فكرية‭ ‬يقودون‭ ‬أنفسهم‭ ‬إلى‭ ‬حيث‭ ‬الفوضى‭ ‬الأبدية‭ ‬والنوم‭ ‬على‭ ‬طرف‭ ‬فوّهة‭ ‬الجحيم‭.‬