لو سكت من لا يعلم...(2)

| أحمد البحر

قبل‭ ‬أن‭ ‬أضع‭ ‬أمامك‭ ‬سيدي‭ ‬القارئ‭ ‬الموقف‭ ‬الإداري،‭ ‬اسمح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أكمل‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬وضعتها‭ ‬عنوانا‭ ‬لمقالتي‭ ‬هذه‭. ‬يقول‭ ‬الإمام‭ ‬الشافعي‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬’’لو‭ ‬سكت‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يعلم‭ ‬لقل‭ ‬الخلاف‘‘‭. ‬كلما‭ ‬تراءت‭ ‬أمامي‭ ‬تلك‭ ‬الحكمة‭ ‬البليغة‭ ‬عادت‭ ‬بي‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬الحكاية‭ ‬التالية،‭ ‬وهي‭ ‬وإنْ‭ ‬كانت‭ ‬ترتدي‭ ‬لباس‭ ‬الطرافة‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬ربما‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬ببعيد‭.‬

يحكى‭ ‬أن‭ ‬أحدهم‭ ‬كان‭ ‬معروفا‭ ‬بانتقاداته‭ ‬ومداخلاته‭ ‬وتساؤلاته،‭ ‬فإذا‭ ‬دخل‭ ‬مجلسا‭ ‬أو‭ ‬منتدى‭ ‬اتجهت‭ ‬إليه‭ ‬الأنظار،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يبغيه‭. ‬غالبية‭ ‬الحضور‭ ‬ربما‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بسطحية‭ ‬أفكار‭ ‬صاحبنا،‭ ‬وأن‭ ‬ادعاءه‭ ‬بالاطلاع‭ ‬الغزير‭ ‬باطل،‭ ‬فهو‭ ‬يكاد‭ ‬يكون‭ ‬فقيرا‭ ‬في‭ ‬المعرفة‭ ‬وتحت‭ ‬خط‭ ‬التواضع‭ ‬في‭ ‬مؤهلاته‭ ‬العلمية‭.‬

في‭ ‬أحد‭ ‬المجالس‭ ‬وبترتيب‭ ‬مسبق‭ ‬تعمد‭ ‬أحد‭ ‬الخبثاء‭ ‬كشف‭ ‬أوراق‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين،‭ ‬فقال‭ ‬وكأنه‭ ‬يخاطب‭ ‬الحضور‭: ‬أثبتت‭ ‬الدراسات‭ ‬أن‭ ‬إيطاليا‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬زراعة‭ ‬المعكرونة‭. ‬اتجهت‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬صاحبنا‭ ‬الذي‭ ‬اعتدل‭ ‬في‭ ‬جلسته‭ ‬وبصوت‭ ‬ينم‭ ‬عن‭ ‬ثقة‭ ‬العارف‭ ‬المطلع‭ ‬أجاب‭: ‬قراءاتي‭ ‬تقول‭ ‬غير‭ ‬ذلك،‭ ‬فأجود‭ ‬أنواع‭ ‬المعكرونة‭ ‬تُزرع‭ ‬في‭ ‬تايلند‭! ‬احتد‭ ‬النقاش‭ ‬وصاحبنا‭ ‬يدافع‭ ‬عن‭ ‬رأيه‭ ‬بقوة‭ ‬حتى‭ ‬تدخل‭ ‬أحدهم‭ ‬ضاحكا‭ ‬ليقول‭: ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬مزحة،‭ ‬فالمعكرونة‭ ‬لا‭ ‬تزرع‭! ‬وخرج‭ ‬صاحبنا‭ ‬من‭ ‬المجلس‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭.‬

هذا‭ ‬النفر‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬تجده‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬المجالس‭ ‬والمنتديات‭ ‬ووسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬منح‭ ‬نفسه‭ ‬إجازة‭ ‬الفتوى‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬والعلاقات‭ ‬الأسرية،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬نفسه‭ ‬متخصصا‭ ‬وخبيرا‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والسياسة‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬علوم‭ ‬الفضاء‭ ‬والطب،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬يعشق‭ ‬الانتقاد‭ ‬ويجد‭ ‬متعة‭ ‬في‭ ‬لفت‭ ‬الأنظار‭ ‬إليه‭.‬

أذكر‭ ‬موقفا‭ ‬ذكيا‭ ‬جدا‭ ‬اتخذه‭ ‬أحد‭ ‬الرؤساء‭ ‬التنفيذيين‭ ‬تجاه‭ ‬أحد‭ ‬مديريه،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬الانتقاد‭ ‬لأي‭ ‬عمل‭ ‬أو‭ ‬مشروع‭ ‬يُقدم‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬زملائه،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬المدير‭ ‬معروفا‭ ‬بقلة‭ ‬إنتاجيته‭ ‬وضحالة‭ ‬رصيده‭ ‬المعرفي‭ ‬ووجود‭ ‬جفاء‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬القراءة‭ ‬والاطلاع‭. ‬التصرف‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬تجاه‭ ‬هذا‭ ‬المسؤول‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬كلما‭ ‬انتقد‭ ‬الأخير‭ ‬عملا‭ ‬طلب‭ ‬منه‭ ‬البديل،‭ ‬وكلما‭ ‬ساهم‭ ‬بمداخلة‭ ‬سأله‭ ‬الرئيس‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬إنجاز‭ ‬ما‭ ‬طرحه‭ ‬وعن‭ ‬مدى‭ ‬استعداده‭ ‬للقيام‭ ‬بتنفيذه‭. ‬هذا‭ ‬التصرف‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬جعل‭ ‬ذاك‭ ‬المسؤول‭ ‬أكثر‭ ‬ميلا‭ ‬للاستماع‭ ‬والتركيز‭ ‬على‭ ‬الفهم‭ ‬والاستيعاب،‭ ‬وأصبح‭ ‬أكثر‭ ‬اتزانا‭ ‬في‭ ‬مداخلاته‭. ‬يقول‭ ‬لورن‭ ‬جاري‭: ‬إنه‭ ‬مهم‭ ‬للغاية‭ ‬إنْ‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تنجح‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬واقعيا،‭ ‬وأن‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬المبالغة‭ ‬في‭ ‬أنك‭ ‬تفهم‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬تجربة‭ ‬ما‘‘‭. ‬ما‭ ‬رأيك‭ ‬سيدي‭ ‬القارئ؟