ذرائع

نقطة الطبشور

| غسان الشهابي

قيّض‭ ‬الله‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬سبعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ (‬والنساء‭ ‬كذلك‭) ‬الذين‭ ‬اصطفاهم‭ ‬التعليم،‭ ‬فكانوا‭ ‬امتداداً‭ ‬حقيقياً‭ ‬لجيل‭ ‬من‭ ‬سبقوهم‭ ‬من‭ ‬المعلمين‭ ‬المخلصين‭ ‬الذين‭ ‬يستشعرون‭ ‬عظم‭ ‬المسؤولية‭ ‬التي‭ ‬يحملونها‭ ‬تجاه‭ ‬هذا‭ ‬النشء‭ ‬الذي‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كراسي‭ ‬الدراسة‭ ‬الخشبية‭ ‬العتيقة،‭ ‬مبحلقاً‭ ‬عينيه،‭ ‬فاتحاً‭ ‬أذنيه،‭ ‬ممتصاً‭ ‬المعلومات‭ ‬والتوجيهات‭ ‬والإشارات‭ ‬التي‭ ‬تأتيه‭ ‬من‭ ‬معلمه،‭ ‬المصدر‭ ‬الأكبر‭ ‬والأهم‭ ‬للمعلومات،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬وسائل‭ ‬التشويش‭ ‬بين‭ ‬المعلم‭ ‬وتلميذه‭ ‬نادرة‭.‬

في‭ ‬مدرسة‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ ‬في‭ ‬المحرق،‭ ‬كنا‭ ‬نأخذ‭ ‬حصة‭ ‬“نشيد”‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬الثالث‭ ‬الابتدائي،‭ ‬لا‭ ‬أزال‭ ‬أذكر‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعين‭ ‬سنة‭ ‬الأستاذ‭ ‬الفاضل‭ ‬خالد‭ ‬الخاجة،‭ ‬خارجاً‭ ‬عن‭ ‬المنهج،‭ ‬خاطّاً‭ ‬بطبشوره‭ ‬أنشودة‭/‬‏قصيدة‭ ‬“موطني”‭. ‬والله،‭ ‬كأنني‭ ‬أراها‭ ‬الآن‭ ‬أمامي‭ ‬لروعتها،‭ ‬أنشدها‭ ‬معلمنا‭ ‬أمامنا‭ ‬ملحنة،‭ ‬ورددناها‭ ‬وراءه،‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نفهم‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬كلمة‭ ‬“موطني”،‭ ‬وكانت‭ ‬كافية‭ ‬لتملأنا‭ ‬شعوراً‭ ‬عزيزاً‭ ‬بلغنا‭ ‬معه‭ ‬“السِّمَاك”،‭ ‬ظللنا‭ ‬ننشدها‭ ‬ونزعق‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬تجرّحت‭ ‬حناجرنا‭ ‬ولم‭ ‬نشعر،‭ ‬كان‭ ‬الدرس‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الدروس‭ ‬الرتيبة‭.‬

وما‭ ‬إن‭ ‬بلغنا‭ ‬الإعدادية‭ ‬مع‭ ‬بعضٍ‭ ‬من‭ ‬تفتّح‭ ‬المدارك،‭ ‬حتى‭ ‬تسلمتنا‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬معلمين‭ ‬أجلّاء‭ ‬أذكر‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬–‭ ‬وهم‭ ‬كثر‭ - ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬إبراهيم‭ ‬الجودر،‭ ‬مدرّس‭ ‬المواد‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬درسه‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬يتحوّل‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬درسٍ‭ ‬في‭ ‬القومية‭ ‬والعروبة،‭ ‬ويحطّ‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭.. ‬ويكون‭ ‬الدرس‭ ‬عن‭ ‬الممالك،‭ ‬ويجرّه‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ويقول‭ ‬لنا‭ ‬عن‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬وسبحان‭ ‬الله،‭ ‬ينتهي‭ ‬الدرس‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭. ‬يحدثنا‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬تحدثنا‭ ‬به‭ ‬المناهج،‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬درسه‭ ‬ومن‭ ‬فلسطين‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬الانتظار،‭ ‬يخالجنا‭ ‬الفخر‭ ‬والعزة،‭ ‬ويسيل‭ ‬في‭ ‬حلوقنا‭ ‬ريق‭ ‬مرارة‭ ‬الهزائم،‭ ‬نخشى‭ ‬على‭ ‬معلمنا‭ ‬أحياناً،‭ ‬لفرط‭ ‬حماسه‭ ‬وحرقته‭ ‬وهو‭ ‬يسمي‭ ‬من‭ ‬تآمر‭ ‬وخان‭ ‬وفرّط،‭ ‬وإذا‭ ‬التفت‭ ‬ليشرح‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬له‭ ‬لنا،‭ ‬كان‭ ‬يضرب‭ ‬بطبشوره‭ ‬السبورة‭ ‬السوداء‭ ‬راسماً‭ ‬النقاط‭ ‬على‭ ‬الحروف،‭ ‬فكانت‭ ‬أصابع‭ ‬الطباشير‭ ‬تتفتت‭ ‬على‭ ‬اللوح،‭ ‬وكأنه‭ ‬يغرز‭ ‬خنجراً‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭... ‬كأنه‭ ‬يغرس‭ ‬فينا‭ ‬ما‭ ‬علينا‭ ‬حمله‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬جيله‭.‬

بعد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الغرس،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬علمونا‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬العدو،‭ ‬يُراد‭ ‬لنا‭ ‬اليوم‭ ‬ألا‭ ‬ننحبس‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬أن‭ ‬نخلعه‭ ‬من‭ ‬أضلاعنا،‭ ‬أو‭ ‬نخلع‭ ‬أضلاعنا،‭ ‬لنعيد‭ ‬تسمية‭ ‬الأشياء‭ ‬والأعداء‭... ‬كيف‭ ‬يرجون‭ ‬ذلك‭ ‬وهم‭ ‬لم‭ ‬يشهدوا‭ ‬الطبشور‭ ‬وهو‭ ‬يتشظى‭ ‬راقماً‭ ‬نون‭ ‬فلسطين؟