نوري‭ ‬السعيد‭ ‬وخطيئة‭ ‬حلف‭ ‬بغداد

| عبدالنبي الشعلة

إن‭ ‬تقدير‭ ‬مكانة‭ ‬الرجال‭ ‬والاعتراف‭ ‬بفضلهم‭ ‬وعطائهم‭ ‬هو‭ ‬عنوان‭ ‬ثقافة‭ ‬الشعوب،‭ ‬وعندما‭ ‬نقول‭ ‬الرجال‭ ‬لا‭ ‬نقصد‭ ‬هنا‭ ‬الذكور‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يشمل‭ ‬ذلك‭ ‬الإناث‭ ‬أيضًا،‭ ‬وإن‭ ‬الأمم‭ ‬الراقية‭ ‬والأنظمة‭ ‬الواعية‭ ‬تحتفظ‭ ‬بذكرى‭ ‬رجالها‭ ‬وتحافظ‭ ‬عليها،‭ ‬وتفخر‭ ‬بعطائهم‭ ‬وإنجازاتهم،‭ ‬وتعتبرهم‭ ‬رموزًا‭ ‬لتراثها‭ ‬وجزءًا‭ ‬من‭ ‬تاريخها‭.‬

أما‭ ‬الأنظمة‭ ‬التسلطية‭ ‬الضعيفة‭ ‬فإنها‭ ‬تخشى‭ ‬الكبار‭ ‬والعمالقة‭ ‬وتلجأ‭ ‬إلى‭ ‬طمس‭ ‬ودفن‭ ‬ذكراهم،‭ ‬وإطفاء‭ ‬إشعاعهم،‭ ‬وتعريض‭ ‬سمعتهم‭ ‬ومكانتهم‭ ‬للتشويه‭ ‬والتجريح،‭ ‬وفرض‭ ‬طوق‭ ‬من‭ ‬التعتيم‭ ‬والعزلة‭ ‬عليهم‭ ‬لغرض‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬أوجه‭ ‬المقارنة‭ ‬بهم،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬إعلاء‭ ‬شأن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬وإعطائهم‭ ‬حقهم‭ ‬من‭ ‬المكانة‭ ‬والتقدير‭ ‬سيعري‭ ‬قادة‭ ‬تلك‭ ‬الأنظمة‭ ‬ويقزمهم‭ ‬ويحرمهم‭ ‬من‭ ‬تلميع‭ ‬ذاتهم‭ ‬وادعاء‭ ‬القدر‭ ‬العالي‭ ‬والمكانة‭ ‬الرفيعة‭.‬

ومهما‭ ‬بلغ‭ ‬مستوى‭ ‬نضج‭ ‬الشعوب،‭ ‬ومهما‭ ‬كانت‭ ‬متانة‭ ‬وصلابة‭ ‬حصانتها‭ ‬الفكرية‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬النضج‭ ‬سيصاب‭ ‬بالتراخي‭ ‬وهذه‭ ‬الحصانة‭ ‬الفكرية‭ ‬ستتعرض‭ ‬للشلل‭ ‬والانهيار‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬هجمات‭ ‬التشويه‭ ‬والتعتيم‭ ‬المكثفة‭ ‬وحملات‭ ‬التشهير‭ ‬والتضليل‭ ‬المركزة‭ ‬التي‭ ‬تديرها‭ ‬أجهزة‭ ‬الأنظمة‭ ‬الفاسقة‭ ‬ضد‭ ‬هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬فيكون‭ ‬مصيرهم‭ ‬الاندثار‭ ‬والنسيان،‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬في‭ ‬سورة‭ ‬الحجرات‭ ‬“يا‭ ‬أيها‭ ‬الذين‭ ‬آمنوا‭ ‬إن‭ ‬جاءكم‭ ‬فاسق‭ ‬بنبأ‭ ‬فتبينوا‭ ‬أن‭ ‬تصيبوا‭ ‬قومًا‭ ‬بجهالة‭ ‬فتصبحوا‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فعلتم‭ ‬نادمين”‭.‬

في‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬لوطننا‭ ‬العربي‭ ‬تعرض‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬الكبار‭ ‬إلى‭ ‬محاولات‭ ‬التهميش‭ ‬والتعتيم‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬المتسلطين‭ ‬والمتسلقين‭ ‬للسلطة،‭ ‬ولن‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬سردهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬القصيرة‭ ‬وهذه‭ ‬المساحة‭ ‬الضيقة،‭ ‬لكننا‭ ‬سنكتفي‭ ‬بالتطرق‭ ‬باختصار‭ ‬شديد‭ ‬وبشكل‭ ‬عابر‭ ‬إلى‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬فقط،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أكبرهم‭ ‬قدرًا‭ ‬وجاهًا‭ ‬أو‭ ‬أعلاهم‭ ‬قامة‭ ‬ومكانة‭ ‬أو‭ ‬أبعدهم‭ ‬عن‭ ‬الأخطاء‭ ‬والخطايا،‭ ‬وهو‭ ‬شخص‭ ‬عراقي‭ ‬يدعى‭ ‬نوري‭ ‬السعيد،‭ ‬أحد‭ ‬ضحايا‭ ‬التضليل‭ ‬والتهميش‭ ‬والتعتيم‭ ‬الإعلامي،‭ ‬ولذلك‭ ‬لا‭ ‬نبالغ‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬إن‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬ولم‭ ‬يسمعوا‭ ‬عنه‭.‬

ولد‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬بالعام‭ ‬1888م،‭ ‬وتخرج‭ ‬من‭ ‬الأكاديمية‭ ‬العسكرية‭ ‬التركية‭ ‬في‭ ‬إسطنبول‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬العراق‭ ‬ولاية‭ ‬من‭ ‬ولايات‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭. ‬وكغيره‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬العرب‭ ‬الواعي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬فقد‭ ‬توصل‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الاحتلال‭ ‬التركي‭ ‬الذي‭ ‬دام‭ ‬أربعمئة‭ ‬سنة‭ ‬قد‭ ‬نهب‭ ‬خيرات‭ ‬البلدان‭ ‬العربية،‭ ‬وأن‭ ‬العرب‭ ‬ظلوا‭ ‬في‭ ‬تخلف‭ ‬ورجعية‭ ‬بسبب‭ ‬الخلافة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وأنهم‭ ‬سيبقون‭ ‬أمة‭ ‬مستضعفة‭ ‬ما‭ ‬دام‭ ‬الاحتلال‭ ‬التركي‭ ‬جاثما‭ ‬على‭ ‬أوطانهم‭.‬

انخرط‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬الجيش‭ ‬العثماني‭ ‬بعد‭ ‬تخرجه‭ ‬من‭ ‬الأكاديمية‭ ‬العسكرية،‭ ‬واعتنق‭ ‬“الفكرة‭ ‬العربية”‭ ‬أيام‭ ‬ظهورها‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬العثمانية،‭ ‬وانتمى‭ ‬إلى‭ ‬الجمعيات‭ ‬السرية‭ ‬المنادية‭ ‬بحرية‭ ‬العرب‭ ‬واستقلالهم‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية،‭ ‬ثم‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬الثورة‭ ‬العربية‭ ‬الكبرى‭ ‬مع‭ ‬الشريف‭ ‬حسين‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬التي‭ ‬اعتبرت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أبرز‭ ‬تجليات‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭.‬

وبعد‭ ‬انهيار‭ ‬الدولة‭ ‬العثمانية‭ ‬كان‭ ‬العراق‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أطلالها‭ ‬المتصدعة،‭ ‬فشارك‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬المملكة‭ ‬العراقية‭ ‬والجيش‭ ‬العراقي،‭ ‬وشغل‭ ‬منصب‭ ‬رئيس‭ ‬وزرائها‭ ‬14‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1930‭ ‬إلى‭ ‬العام‭ ‬1958،‭ ‬وكان‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الحكم‭ ‬فيها‭ ‬لحوالي‭ ‬40‭ ‬عامًا،‭ ‬عُرِفَ‭ ‬خلالها‭ ‬بالإخلاص‭ ‬والأمانة‭ ‬والنزاهة‭ ‬والزهد،‭ ‬ولم‭ ‬يمد‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬حقوق‭ ‬الدولة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬يملك‭ ‬أطيانًا‭ ‬أو‭ ‬قصور،‭ ‬وقد‭ ‬وضعته‭ ‬الأقدار‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬ومواقع‭ ‬مفصلية‭ ‬ومصيرية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي،‭ ‬فأصبح‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬مسؤولًا‭ ‬عن‭ ‬العراق‭ ‬نظامًا‭ ‬وشعبًا‭.‬

كان‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬عسكري‭ ‬وسياسي‭ ‬بارع،‭ ‬وكان‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬أقطاب‭ ‬وأساطين‭ ‬السياسة‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية،‭ ‬وأصبح‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬الأول‭ ‬والأكثر‭ ‬شهرة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والعالم‭ ‬العربي،‭ ‬وقد‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬عصبة‭ ‬الأمم‭ ‬وهيئة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬دور‭ ‬بارز‭ ‬في‭ ‬تأسيس‭ ‬جامعة‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ودخل‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬مع‭ ‬مصطفى‭ ‬النحاس‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬محاولته‭ ‬لترؤسها‭ ‬وتأسيس‭ ‬مقرها‭ ‬في‭ ‬بغداد‭.‬

نوري‭ ‬السعيد‭ ‬كان‭ ‬دبلوماسيًا‭ ‬مناورًا‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الأول،‭ ‬ومؤمنًا‭ ‬بمبدأ‭ ‬“خذ‭ ‬وطالب”‭ ‬وصاحب‭ ‬رؤية‭ ‬واقعية‭ ‬واضحة‭ ‬كانت‭ ‬تتقاطع‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬مع‭ ‬سياسات‭ ‬الإنجليز‭ ‬ومخططاتهم،‭ ‬فكان‭ ‬يميل‭ ‬إلى‭ ‬مهادنتهم‭ ‬والاصطفاف‭ ‬معهم‭ ‬رغم‭ ‬حسه‭ ‬الوطني‭ ‬الجارف،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يعتقد‭ ‬بأن‭ ‬بريطانيًا‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تؤلف‭ ‬قوة‭ ‬عالمية‭ ‬مؤثرة‭ ‬وأنه‭ ‬لابد‭ ‬للعراق‭ ‬أن‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬دولة‭ ‬كبرى‭ ‬لردع‭ ‬أعدائه‭. ‬كان‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬صيغة‭ ‬تحفظ‭ ‬للعراق‭ ‬الوليد‭ ‬سيادته‭ ‬وسلامة‭ ‬أراضيه،‭ ‬وتحميه‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬والمد‭ ‬الشيوعي‭ ‬الزاحف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتخوف‭ ‬منه،‭ ‬والهجوم‭ ‬السوفييتي‭ ‬الموهوم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتوقعه،‭ ‬وكان‭ ‬يسعى‭ ‬للارتباط‭ ‬بعلاقات‭ ‬حسن‭ ‬جوار‭ ‬وتحالف‭ ‬مع‭ ‬جارتيه‭ ‬تركيا‭ ‬وإيران؛‭ ‬دفعًا‭ ‬لأطماعهما‭ ‬وادعاءاتهما‭ ‬التاريخية‭ ‬ببعض‭ ‬المناطق‭ ‬الحدودية‭ ‬مع‭ ‬العراق،‭ ‬تلك‭ ‬كانت‭ ‬بعض‭ ‬الدوافع‭ ‬والمبررات‭ ‬التي‭ ‬دفعت‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬إلى‭ ‬التقاط‭ ‬واحتضان‭ ‬فكرة‭ ‬أو‭ ‬مشروع‭ ‬“حلف‭ ‬بغداد”‭ ‬وحماسه‭ ‬المفرط‭ ‬للانضمام‭ ‬إليه،‭ ‬حيث‭ ‬ظن‭ ‬أنه‭ ‬وجد‭ ‬ضالته‭ ‬فيه،‭ ‬فقد‭ ‬رأى‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحلف‭ ‬سيضم‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬العراق‭ ‬3‭ ‬دول‭ ‬إسلامية‭ ‬كبرى‭ ‬هي‭ ‬إيران‭ ‬وتركيا‭ ‬وباكستان‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬العظمى‭ ‬وبرعاية‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬الفكرة‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬العام‭ ‬1953‭ ‬فيما‭ ‬عُرف‭ ‬بمشروع‭ ‬“الحزام‭ ‬الشمالي”؛‭ ‬ليكون‭ ‬حلقة‭ ‬متممة‭ ‬للأحلاف‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬تطويق‭ ‬المعسكر‭ ‬الاشتراكي،‭ ‬ولاسيما‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬السابق‭. ‬كان‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬على‭ ‬قناعة‭ ‬راسخة‭ ‬بأن‭ ‬انضمام‭ ‬العراق‭ ‬للحلف‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يعزز‭ ‬موقع‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الدولي‭ ‬ويضمن‭ ‬تدفق‭ ‬المساعدات‭ ‬العسكرية‭ ‬الغربية‭ ‬له‭ ‬وللعرب‭ ‬عامة،‭ ‬كان‭ ‬قلقًا‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬العراق‭ ‬عسكريًا‭ ‬ومدركًا‭ ‬لحاجته‭ ‬إلى‭ ‬التسلح‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬الجيش‭ ‬وفق‭ ‬الأساليب‭ ‬الحديثة،‭ ‬وأن‭ ‬موارد‭ ‬العراق‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬بذلك،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬دفع‭ ‬الأقطار‭ ‬العربية‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬نفسه‭ ‬فان‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬ينال‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬من‭ ‬حظوة‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬لدى‭ ‬الغرب‭.‬

وقد‭ ‬تم‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬تأسيس‭ ‬حلف‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬24‭ ‬فبراير‭ ‬1955،‭ ‬وكان‭ ‬جواهرلال‭ ‬نهرو‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬الهند‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬عارض‭ ‬فكرة‭ ‬الحلف؛‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬سيمد‭ ‬الباكستان‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬عناصر‭ ‬القوة‭ ‬والمنعة،‭ ‬وشاركه‭ ‬في‭ ‬الاعتراض‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬لأسباب‭ ‬أخرى‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحلف‭ ‬يهدد‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية،‭ ‬وتم‭ ‬الاتفاق‭ ‬بينهما‭ ‬على‭ ‬سحب‭ ‬البساط‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬أقدام‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬بتأسيس‭ ‬منظومة‭ ‬بديلة‭ ‬باسم‭ ‬“حركة‭ ‬عدم‭ ‬الانحياز”‭ ‬يكون‭ ‬عبدالناصر‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬سيتربع‭ ‬على‭ ‬رأسها،‭ ‬وانضم‭ ‬إليهما‭ ‬صديق‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬الزعيم‭ ‬الاشتراكي‭ ‬اليوغسلافي‭ ‬الماريشال‭ ‬جوزيف‭ ‬بروس‭ ‬تيتو‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬حملات‭ ‬التصدي‭ ‬للحلف‭ ‬ولنوري‭ ‬السعيد‭.‬

وبالفعل‭ ‬أدركت‭ ‬إسرائيل‭ ‬خطورة‭ ‬مبادرات‭ ‬وإستراتيجيات‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬على‭ ‬مصالحها،‭ ‬وأعلن‭ ‬رئيس‭ ‬وزرائها‭ ‬دافيد‭ ‬بن‭ ‬جوريون‭ ‬أن‭ ‬“مبادرة‭ ‬الغرب‭ ‬إلى‭ ‬عقد‭ ‬اتفاق‭ ‬المساعدات‭ ‬العسكرية،‭ ‬وتنظيمات‭ ‬الدفاع،‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬قد‭ ‬أخلت‭ ‬بالتوازن‭ ‬السياسي،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬مصلحتنا،‭ ‬وأضر‭ ‬بمصالحنا،‭ ‬وزادت‭ ‬من‭ ‬الأخطار‭ ‬المحدقة‭ ‬بسلامتنا”‭.‬

شنت‭ ‬إسرائيل‭ ‬حملة‭ ‬مركزة‭ ‬ضد‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬وحلف‭ ‬بغداد،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الحرب‭ ‬الإعلامية‭ ‬الشرسة‭ ‬التي‭ ‬شنها‭ ‬الرئيس‭ ‬جمال‭ ‬عبدالناصر‭ ‬ضدهما‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خطاباته‭ ‬التعبوية‭ ‬المؤثرة‭ ‬وباستخدام‭ ‬محطة‭ ‬“صوت‭ ‬العرب”‭ ‬النافذة‭ ‬ومذيعها‭ ‬العنيف‭ ‬أحمد‭ ‬سعيد‭ ‬بأسلوبه‭ ‬التحريضي‭ ‬اللاذع،‭ ‬واصطفت‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬كلها‭ ‬وراء‭ ‬عبدالناصر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬فسقط‭ ‬الحلف‭ ‬واغتيل‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬وسُحلت‭ ‬جثته‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬15‭ ‬يوليو‭ ‬1958‭. ‬وضاع‭ ‬العراق‭ ‬بعدها،‭ ‬وتوسعت‭ ‬إسرائيل‭ ‬وتوثقت‭ ‬علاقتها‭ ‬بالغرب‭ ‬وألحقت‭ ‬هزيمة‭ ‬مؤلمة‭ ‬بمصر‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬العام‭ ‬1967،‭ ‬ولم‭ ‬تتحقق‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية‭! ‬هل‭ ‬كان‭ ‬نوري‭ ‬السعيد‭ ‬خائنًا‭ ‬وعميلًا‭ ‬للبريطانيين‭ ‬كما‭ ‬اتهمه‭ ‬أعداؤه‭ ‬ومناوئوه؟‭ ‬أم‭ ‬كان‭ ‬سياسيًا‭ ‬محنكًا‭ ‬صاحب‭ ‬رؤية‭ ‬ثاقبة‭ ‬ملتزمًا‭ ‬بقناعاته‭ ‬ومتمسكًا‭ ‬بمبادئه‭ ‬ومخلصًا‭ ‬لقضايا‭ ‬وطنه‭ ‬وأمته؟