استرجاع رفات هارون الرشيد!!

| عبدالنبي الشعلة

أصاب‭ ‬وصدق‭ ‬العقلاء‭ ‬والمفكرون‭ ‬الذين‭ ‬دعوا‭ ‬إلى‭ ‬تحصين‭ ‬الدين‭ ‬ورجاله‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬طهارتهم‭ ‬وقدسيتهم‭ ‬وذلك‭ ‬بإبعادهم‭ ‬عن‭ ‬أيدي‭ ‬السياسيين‭ ‬وعن‭ ‬الدهاليز‭ ‬الملتوية‭ ‬والمظلمة‭ ‬للسياسة‭.‬

وقد‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬رأينا‭ ‬كيف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬لم‭ ‬تكن،‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬قيم‭ ‬ثابتة‭ ‬ولا‭ ‬مبادئ‭ ‬مصونة‭ ‬ولا‭ ‬صداقات‭ ‬ولا‭ ‬عداوات‭ ‬دائمة،‭ ‬إنما‭ ‬هناك‭ ‬مصالح‭ ‬دائمة،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬البشر‭ ‬يصبح،‭ ‬إذا‭ ‬اقتضى‭ ‬الأمر،‭ ‬كالأدوات‭ ‬أو‭ ‬كبعض‭ ‬“السلع‭ ‬الاستهلاكية”‭ ‬التي‭ ‬لها‭ ‬صلاحية‭ ‬محددة‭ ‬المدة‭.‬

ولا‭ ‬يقتصر‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬الأحياء‭ ‬من‭ ‬البشر،‭ ‬إنما‭ ‬يتعدى‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الأموات‭ ‬منهم‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬كانوا‭ ‬من‭ ‬التقاة‭ ‬والصالحين،‭ ‬ففي‭ ‬حومة‭ ‬المعارك‭ ‬السياسية‭ ‬تختفي‭ ‬الحدود‭ ‬والمعايير‭ ‬والروادع‭ ‬الأخلاقية،‭ ‬وعند‭ ‬الحاجة‭ ‬يجوز‭ ‬نبش‭ ‬قبور‭ ‬الموتى‭ ‬وهتك‭ ‬حرمتهم‭ ‬وزعزعة‭ ‬سكينتهم‭.‬

فعندما‭ ‬قامت‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬وأُطيح‭ ‬بنظام‭ ‬الشاه‭ ‬محمد‭ ‬رضا‭ ‬بهلوي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1979م،‭ ‬وبدأت‭ ‬العلاقات‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬التوتر‭ ‬والتدهور‭ ‬والتأزم،‭ ‬بعثت‭ ‬حكومة‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬آنذاك‭ ‬أحمد‭ ‬حسن‭ ‬البكر‭ ‬برسالة‭ ‬إلى‭ ‬الحكومة‭ ‬الإيرانية‭ ‬تطالبها‭ ‬فيها‭ ‬بإعادة‭ ‬رفات‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد،‭ ‬المدفون‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مشهد‭ ‬الإيرانية،‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬رمزًا‭ ‬لبغداد‭ ‬في‭ ‬عصرها‭ ‬الذهبي،‭ ‬لكن‭ ‬إيران‭ ‬رفضت‭ ‬وامتنعت‭ ‬وطالبت‭ ‬بالمقابل‭ ‬باسترجاع‭ ‬رفات‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالقادر‭ ‬الجيلاني‭ ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬فارسي‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬جيلان‭ ‬بإيران‭. ‬بعدها،‭ ‬ولأسباب‭ ‬أخرى،‭ ‬اشتبكت‭ ‬الدولتان‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬طاحنة‭ ‬دامت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ثماني‭ ‬سنوات،‭ ‬وعند‭ ‬انتهائها‭ ‬انشغلتا‭ ‬في‭ ‬مباحثات‭ ‬طويلة‭ ‬مضنية‭ ‬متعلقة‭ ‬باسترجاع‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأسرى‭ ‬الأحياء‭ ‬المحتجزين‭ ‬عند‭ ‬الطرفين،‭ ‬ونسيا‭ ‬أو‭ ‬تناسيا‭ ‬قضية‭ ‬الرفاتين؛‭ ‬فظل‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬راقدًا‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مشهد‭ ‬الإيرانية‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬809م،‭ ‬كما‭ ‬ظل‭ ‬الإمام‭ ‬عبدالقادر‭ ‬الجيلاني‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬راقدًا‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬العراقية‭ ‬بغداد‭ ‬منذ‭ ‬العام‭ ‬1166م‭.‬

ولكن،‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا‭ ‬دُفن‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مشهد‭ ‬الإيرانية؟

غادر‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬عاصمة‭ ‬خلافته‭ ‬العباسية‭ ‬بغداد‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬809م‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬جيش‭ ‬قاصدًا‭ ‬خراسان؛‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬ثورة‭ ‬رافع‭ ‬بن‭ ‬الليث،‭ ‬وفي‭ ‬الطريق‭ ‬توفي‭ ‬عندما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬طوس،‭ ‬وهي‭ ‬مدينة‭ ‬مشهد‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬شرق‭ ‬إيران،‭ ‬ودفن‭ ‬فيها،‭ ‬وأقام‭ ‬ولده‭ ‬المأمون‭ ‬على‭ ‬قبره‭ ‬قبة‭ ‬سميّت‭ ‬وقتها‭ ‬بـ‭ ‬“القبة‭ ‬الهارونية”‭.‬

كان‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬قد‭ ‬أوصى‭ ‬بالخلافة‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬إلى‭ ‬ثلاثة‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬تباعًا،‭ ‬أولهم‭ ‬الأمين،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الأكبر‭ ‬سنًا،‭ ‬بعده‭ ‬المأمون‭ ‬وهو‭ ‬الأكبر‭ ‬سنًا‭ ‬ثم‭ ‬القاسم‭ ‬وهو‭ ‬أصغرهم،‭ ‬وبعد‭ ‬وفاته‭ ‬دب‭ ‬الخلاف‭ ‬والاقتتال‭ ‬بين‭ ‬الإخوة‭ ‬قُتِل‭ ‬فيها‭ ‬الأمين‭ ‬وتربع‭ ‬المأمون‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬السلطة،‭ ‬وهي‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حالات‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر‭ ‬تثبت‭ ‬عدم‭ ‬حصافة‭ ‬وصواب‭ ‬بل‭ ‬خطورة‭ ‬هذا‭ ‬الأسلوب‭ ‬في‭ ‬التوريث‭ ‬الذي‭ ‬يسبب‭ ‬غالبًا‭ ‬الاختلاف‭ ‬والانشقاق‭ ‬والاقتتال‭ ‬بين‭ ‬الإخوة‭ ‬والأبناء‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬الحكم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬تجربة‭ ‬ناجحة‭ ‬وساطعة‭ ‬ومعاصرة‭ ‬أرساها‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬الملك‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬بن‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬آل‭ ‬سعود،‭ ‬ملك‭ ‬المملكة‭ ‬العربية‭ ‬السعودية،‭ ‬فبعد‭ ‬أن‭ ‬اختاره‭ ‬الله‭ ‬إلى‭ ‬جواره‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1953م،‭ ‬توارث‭ ‬ستة‭ ‬من‭ ‬أبنائه‭ ‬البررة‭ ‬الحكم‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬بالتتابع‭ ‬بكل‭ ‬سلاسة‭ ‬وسهولة‭ ‬ويسر‭.‬

ونعود،‭ ‬في‭ ‬لمحة‭ ‬خاطفة،‭ ‬إلى‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬الذي‭ ‬اتخذ‭ ‬من‭ ‬خراسان‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬قاعدة‭ ‬له‭ ‬ومقرًا‭ ‬لحكمه،‭ ‬ومنها‭ ‬انطلق‭ ‬واستعان‭ ‬بأهلها‭ ‬وبباقي‭ ‬سكان‭ ‬فارس‭ ‬في‭ ‬حربه‭ ‬وسعيه‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬كرسي‭ ‬الخلافة‭ ‬ضد‭ ‬أخيه‭ ‬الأمين‭ ‬وغيره‭ ‬من‭ ‬مناوئيه،‭ ‬وبغرض‭ ‬استقطاب‭ ‬آل‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬الشيعة‭ ‬إلى‭ ‬صفوفه،‭ ‬قام‭ ‬المأمون‭ ‬بدعوة‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬الرضا،‭ ‬الإمام‭ ‬الثامن‭ ‬عند‭ ‬الشيعة‭ ‬الإمامية،‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬إلى‭ ‬خراسان‭ ‬وعينه‭ ‬وليًا‭ ‬لعهده‭ ‬وأسبغ‭ ‬عليه‭ ‬لقب‭ ‬السلطان‭ ‬وسَكَّ‭ ‬العملة‭ ‬باسمه‭. ‬ولما‭ ‬استتب‭ ‬للمأمون‭ ‬الأمر‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬التغلب‭ ‬على‭ ‬أخيه‭ ‬وباقي‭ ‬مناوئيه‭ ‬بادر‭ ‬بالتخلص‭ ‬من‭ ‬الإمام‭ ‬الرضا‭ ‬ورتب‭ ‬لاغتياله‭ ‬بدس‭ ‬السم‭ ‬له،‭ ‬ثم‭ ‬أمر‭ ‬بتغسيله‭ ‬وتكفينه‭ ‬وإعداد‭ ‬جنازة‭ ‬مهيبة‭ ‬له،‭ ‬وصلى‭ ‬عليه‭ ‬ودفنه‭ ‬بكل‭ ‬وقار‭ ‬وتكريم‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬قبر‭ ‬والده‭ ‬هارون‭ ‬الرشيد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬مشهد‭ ‬الإيرانية‭. ‬يؤكد‭ ‬ذلك‭ ‬ابن‭ ‬الأثير‭ ‬في‭ ‬“الكامل‭ ‬في‭ ‬التاريخ”‭ ‬فيقول‭: ‬“صلى‭ ‬المأمون‭ ‬عليه،‭ ‬ودفنه‭ ‬عند‭ ‬قبر‭ ‬أبيه‭ ‬الرشيد”‭.‬

نعم‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬السياسة‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭.‬