مع سمو الشيخ محمد بن مبارك... (1-2) حدث في يوم الإثنين...

| عبدالنبي الشعلة

في‭ ‬الأسبوع‭ ‬الماضي،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬يوم‭ ‬الإثنين‭ ‬14‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشهر،‭ ‬وجه‭ ‬صاحب‭ ‬الجلالة‭ ‬الملك‭ ‬المفدى‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬المعهد‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬وتحويله‭ ‬إلى‭ ‬أكاديمية‭ ‬خاصة‭ ‬للدراسات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬تحمل‭ ‬اسم‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬مبارك‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬نائب‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬رائد‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬البحرينية‭ ‬وأحد‭ ‬مؤسسيها‭ ‬الأوائل‭.‬

وفي‭ ‬الكلمة‭ ‬التي‭ ‬ألقاها‭ ‬جلالة‭ ‬الملك‭ ‬في‭ ‬الاحتفال‭ ‬الذي‭ ‬أُقيم‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭ ‬بمناسبة‭ ‬اليوبيل‭ ‬الذهبي‭ ‬للدبلوماسية‭ ‬البحرينية،‭ ‬أوجز‭ ‬جلالته‭ ‬المكانة‭ ‬الرفيعة‭ ‬والمتميزة‭ ‬لسمو‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬مبارك،‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يترك‭ ‬مجالًا‭ ‬للمزيد،‭ ‬عندما‭ ‬قال‭ ‬جلالته‭ ‬إن‭ ‬تاريخ‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬البحرينية‭ ‬العريق‭ ‬يسجل‭ ‬له‭ ‬الإخلاص‭ ‬في‭ ‬الأداء‭ ‬والتميز‭ ‬في‭ ‬العطاء‭.‬

إن‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬مبارك‭ ‬يستحق،‭ ‬عن‭ ‬جدارة،‭ ‬هذا‭ ‬الإطراء‭ ‬والثناء‭ ‬والتكريم‭ ‬وأكثر‭.‬

هذه‭ ‬المناسبة‭ ‬والاحتفالية‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬يوم‭ ‬الاثنين‭ ‬عادت‭ ‬بذاكرتي‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬إلى‭ ‬46‭ ‬عامًا‭ ‬مضت‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال،‭ ‬عندما‭ ‬حطّت‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬البحرين‭ ‬الدولي‭ ‬طائرة‭ ‬شركة‭ ‬الطيران‭ ‬الهندي‭ (‬Air India‭) ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬على‭ ‬متنها‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬بومباي،‭ ‬التي‭ ‬تسمى‭ ‬الآن‭ ‬مومباي‭.‬

كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الساعة‭ ‬9‭ ‬صباحًا‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1973م‭. ‬كنت‭ ‬عائدًا‭ ‬إلى‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أتممت‭ ‬دراستي‭ ‬الجامعية‭ ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارة‭ ‬العامة‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬بومباي،‭ ‬وكنت‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬متطلعًا‭ ‬ومتحفزًا‭ ‬بل‭ ‬متلهفًا‭ ‬ومتعطشًا‭ ‬للالتحاق‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬وفي‭ ‬أمسّ‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الوظيفة‭.‬

قبل‭ ‬أن‭ ‬أغادر‭ ‬بومباي‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬حررت‭ ‬طلب‭ ‬الوظيفة‭ ‬مدعومًا‭ ‬بالمستندات‭ ‬المطلوبة‭ ‬وموجهًا‭ ‬إلى‭ ‬معالي‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬وقتها‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬مبارك‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭. ‬وما‭ ‬إن‭ ‬بلغتْ‭ ‬الساعة‭ ‬11‭ ‬من‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬نفسه‭ ‬إلا‭ ‬وأنا‭ ‬واقف‭ ‬في‭ ‬مكتب‭ ‬المرحوم‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬فارس‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬مدير‭ ‬الشؤون‭ ‬الإدارية‭ ‬والمالية‭ ‬بوزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬آنذاك‭ ‬وقدمت‭ ‬له‭ ‬طلب‭ ‬الوظيفة‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬كانت‭ ‬الحياة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬بسيطة‭ ‬والأمور‭ ‬سهلة‭ ‬ميَسَّرة‭ ‬بلا‭ ‬تكلف‭ ‬ولا‭ ‬تعقيد،‭ ‬كل‭ ‬البوابات‭ ‬والأبواب‭ ‬كانت‭ ‬مفتوحة‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬حُراس‭ ‬أو‭ ‬حُجاب‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أبواب‭ ‬مكاتب‭ ‬المسؤولين،‭ ‬وكنت‭ ‬أسكن‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬فريج‭ ‬المخارقة‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬10‭ ‬دقائق‭ ‬مشيًا‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬دار‭ ‬الحكومة،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يضم‭ ‬مكاتب‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭. ‬لم‭ ‬تُخترع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬الهواتف‭ ‬النقالة،‭ ‬وكمعظم‭ ‬البيوت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬القديم‭ ‬هاتف‭ ‬حتى‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬الاتصال‭ ‬والاستفسار‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬طلبي،‭ ‬فقمت‭ ‬بزيارة‭ ‬المرحوم‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بن‭ ‬فارس‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬تقديمي‭ ‬الطلب‭ ‬واليوم‭ ‬الثالث‭ ‬أيضًا،‭ ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬الرابع،‭ ‬يوم‭ ‬خميس،‭ ‬أخبرني‭ ‬الشيخ‭ ‬عبدالرحمن‭ ‬بأن‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬قد‭ ‬وافق‭ ‬على‭ ‬التحاقي‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬الوزارة،‭ ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أباشر‭ ‬العمل‭ ‬يوم‭ ‬الإثنين‭ ‬من‭ ‬الأسبوع‭ ‬التالي‭. ‬وبالفعل‭ ‬في‭ ‬تمام‭ ‬الساعة‭ ‬7‭ ‬من‭ ‬صباح‭ ‬ذلك‭ ‬الإثنين‭ ‬كنت‭ ‬جالسًا‭ ‬على‭ ‬طاولة‭ ‬عملي‭ ‬بوزارة‭ ‬الخارجية،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬حصولي‭ ‬على‭ ‬فرصة‭ ‬العمل‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬بسرعة‭ ‬وفي‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أسبوع‭ ‬بساعات‭.‬

حرصتُ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الاثنين‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬الوزير‭ ‬لأشكره،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬تخني‭ ‬الذاكرة‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬وقتها‭ ‬الأخ‭ ‬الزميل‭ ‬البشوش‭ ‬السفير‭ ‬حمد‭ ‬العامر‭ ‬مديرًا‭ ‬لمكتب‭ ‬الوزير‭.‬

أحسستُ،‭ ‬وأنا‭ ‬شاب‭ ‬صغير‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬مليئة‭ ‬بالخير‭ ‬والطيب‭ ‬والأريحية،‭ ‬واستنشقت‭ ‬رائحة‭ ‬الزهور‭ ‬وعبق‭ ‬النرجس‭ ‬والياسمين‭ ‬عندما‭ ‬استقبلني‭ ‬الوزير‭ ‬في‭ ‬مكتبه،‭ ‬دون‭ ‬موعد‭ ‬مسبق‭ ‬وفي‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬وقوفي‭ ‬على‭ ‬العتبة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬سلم‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬وزارته،‭ ‬جلست‭ ‬أمامه‭ ‬صامتًا‭ ‬عاجزًا‭ ‬عن‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الشكر،‭ ‬فرحب‭ ‬بي‭ ‬وأسدى‭ ‬إلي‭ ‬باقة‭ ‬من‭ ‬النصائح‭ ‬والتوجيهات‭ ‬خلاصتها‭ ‬أن‭ ‬علينا‭ ‬جميعًا‭ ‬أن‭ ‬نعمل‭ ‬لصالح‭ ‬هذا‭ ‬الوطن،‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬مكتبه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تعلمت‭ ‬كيف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتصرف‭ ‬الكبار‭.‬

حصلت‭ ‬على‭ ‬فرصة‭ ‬العمل‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أتطلع‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أسبوع‭ ‬ودون‭ ‬أي‭ ‬“واسطة”،‭ ‬خِلافًا‭ ‬لما‭ ‬يدّعي‭ ‬البعض‭ ‬بأن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬فرصة‭ ‬عمل‭ ‬لائق‭ ‬في‭ ‬وزارات‭ ‬الدولة‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬“واسطة”‭ ‬وإلى‭ ‬سند‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬نفوذ،‭ ‬نعم‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬الوظيفة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أشعر‭ ‬بأي‭ ‬عائق‭ ‬أو‭ ‬نَفَسٍ‭ ‬طائفي‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬أشُم‭ ‬رائحة‭ ‬أو‭ ‬أرى‭ ‬أي‭ ‬أثر‭ ‬لتفرقة‭ ‬أو‭ ‬لتمييز‭. ‬وأنا‭ ‬لستُ‭ ‬الوحيد،‭ ‬فهناك‭ ‬المئات‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬الآلاف‭ ‬ممن‭ ‬مروا‭ ‬بالتجربة‭ ‬ذاتها،‭ ‬وهذه‭ ‬كلمة‭ ‬حق‭ ‬وشهادة‭ ‬صدق‭ ‬مربوطة‭ ‬في‭ ‬عنقي‭ ‬تُحَتِّمُ‭ ‬علي‭ ‬الأمانة‭ ‬والواجب‭ ‬والضمير‭ ‬أن‭ ‬أُدلي‭ ‬بها‭ ‬وأنقلها‭ ‬إلى‭ ‬مسامع‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يسمع‭ ‬الحقيقة‭.‬

في‭ ‬يوم‭ ‬الاثنين‭ ‬قبل‭ ‬46‭ ‬عامًا‭ ‬ترسخت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬متشبثة‭ ‬وعالقة‭ ‬وراسخة‭ ‬في‭ ‬كياني‭ ‬وقلبي‭ ‬ووجداني‭ ‬القناعة‭ ‬والإيمان‭ ‬بأن‭ ‬بلادي‭ ‬بلد‭ ‬خير‭ ‬ومحبة‭ ‬وعطاء،‭ ‬لَيستْ‭ ‬هي‭ ‬“المدينة‭ ‬الفاضلة”‭ ‬أو‭ ‬“يتوبيا”‭ ‬التي‭ ‬تخيلها‭ ‬قدماء‭ ‬الإغريق،‭ ‬ولا‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬فيها‭ ‬ملائكة‭ ‬أو‭ ‬معصومون‭ ‬أو‭ ‬منزهون‭ ‬من‭ ‬الزلات‭ ‬والأخطاء،‭ ‬وهي‭ ‬كغيرها‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬ليست‭ ‬مُحصَّنة‭ ‬أو‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬التجاوزات‭ ‬ومن‭ ‬الأمراض‭ ‬والأعراض‭ ‬المزعجة،‭ ‬لكنها‭ ‬بلا‭ ‬أدنى‭ ‬شك‭ ‬لا‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تجابه‭ ‬بالجحود‭ ‬والنكران،‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تُبذل‭ ‬في‭ ‬سبيلها‭ ‬المُهج‭ ‬والأرواح‭. ‬بلدي‭ ‬زاخر‭ ‬وغني‭ ‬برجال‭ ‬ونساء‭ ‬صادقين‭ ‬مخلصين‭ ‬وعلى‭ ‬أتم‭ ‬الاستعداد‭ ‬للذود‭ ‬عن‭ ‬حياضه‭ ‬وإفناء‭ ‬حياتهم‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬ترابه‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬مبارك‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬ولأكثر‭ ‬من‭ ‬50‭ ‬عامًا،‭ ‬وغدًا‭ ‬للحديث‭ ‬بقية‭.‬