بشفافية

أفكار في التوازن المالي

| عبدالجبار الطيب

عندما‭ ‬نتكلم‭ ‬عن‭ ‬التوازن‭ ‬المالي‭ ‬فبلاشك‭ ‬نقصد‭ ‬التوازن‭ ‬الحقيقي‭ ‬وهو‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬لا‭ ‬التوازن‭ ‬الحسابي‭ ‬في‭ ‬الإيرادات‭ ‬والمصروفات‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يسميه‭ ‬علماء‭ ‬المالية‭ ‬العامة‭ ‬بالتوازن‭ ‬الصوري‭ .‬

نقطة‭ ‬البداية‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬هي‭ ‬باعتبار‭ ‬قاعدة‭ ‬التوازن‭ ‬مبدأ‭ ‬دستوريا‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬فرنسا‭ ‬ومصر،‭ ‬ففي‭ ‬فرنسا‭ ‬قرر‭ ‬المجلس‭ ‬الدستوري‭ ‬الفرنسي‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1979‭ ‬أن‭ ‬التوازن‭ ‬مبدأ‭ ‬أساسي‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬القانون‭ ‬المالي،‭ ‬فهو‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬الميزانية‭ ‬العامة‭ ‬للدولة،‭ ‬وإنما‭ ‬يمتد‭ ‬ليشمل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬في‭ ‬مجموعه،‭ ‬أما‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬فالدستور‭ ‬الجديد‭ ‬عام‭ ‬2014‭ ‬فقرر‭ ‬فكرة‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬124‭.‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬نؤمن‭ ‬بأن‭ ‬التوازن‭ ‬المالي‭ ‬مسألة‭ ‬دستورية،‭ ‬إما‭ ‬بالنص‭ ‬أو‭ ‬بالفهم،‭ ‬وأن‭ ‬لها‭ ‬دلالة‭ ‬تتجاوز‭ ‬مجرد‭ ‬التوازن‭ ‬الحسابي‭ ‬وجب‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬بأن‭ ‬تعمل‭ ‬الميزانية‭ ‬العامة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬سياسات‭ ‬أخرى‭ ‬ليس‭ ‬هنا‭ ‬محل‭ ‬بيانها،‭ ‬ففي‭ ‬فترات‭ ‬التضخم‭ ‬تقلل‭ ‬الحكومة‭ ‬إنفاقها‭ ‬لخفض‭ ‬معدل‭ ‬التضخم‭ ‬ويمكن‭ ‬للمصرف‭ ‬المركزي‭ ‬أن‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬إصدار‭ ‬سندات‭ ‬الدين‭ ‬ليسحب‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬القوة‭ ‬الشرائية‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وفي‭ ‬فترات‭ ‬الركود‭ ‬تزيد‭ ‬الحكومة‭ ‬من‭ ‬الإنفاق‭ ‬لتنعش‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬وهكذا‭ ‬تعمل‭ ‬الميزانية‭ ‬على‭ ‬خلق‭ ‬توازن‭ ‬اقتصادي،‭ ‬وهو‭ ‬المنشود،‭ ‬فتكون‭ ‬الميزانية‭ ‬العامة‭ ‬أداة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬توازن‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬التوازن‭ ‬مقصودا‭ ‬لذاته‭ ‬حسابيًا‭ ‬في‭ ‬الميزانية‭ ‬العامة،‭ ‬وإنما‭ ‬وسيلة‭ ‬لضبط‭ ‬إيقاع‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬ككل‭.‬

وإن‭ ‬كنا‭ ‬بحاجة‭ ‬لتكون‭ ‬الميزانية‭ ‬في‭ ‬توازن‭ ‬حسابي‭ ‬فلا‭ ‬حرج،‭ ‬فالحاجة‭ ‬تولد‭ ‬الاختراع،‭ ‬وهنا‭ ‬أقترح‭ ‬على‭ ‬الحكومة‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تقديرات‭ ‬الميزانية‭ ‬متوازنة‭ ‬دون‭ ‬عجز،‭ ‬ومن‭ ‬الميزانية‭ ‬القادمة،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التصورات‭ ‬التالية‭:‬

‮١‬‭- ‬فصل‭ ‬ميزانية‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬والتشغيلية‭ ‬عن‭ ‬ميزانية‭ ‬المشروعات،‭ ‬وتكون‭ ‬ميزانية‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬والتشغيلية‭ ‬متوازنة‭ ‬حسابيا،‭ ‬الإيرادات‭ ‬تساوي‭ ‬المصروفات،‭ ‬مع‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬ترشيد‭ ‬الإنفاق‭ ‬وضبطه‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الميزانية،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬المصروفات‭ ‬التشغيلية‭ ‬بغية‭ ‬تحقيق‭ ‬فائض،‭ ‬وتغذى‭ ‬هذه‭ ‬الميزانية‭ ‬بجزء‭ ‬من‭ ‬إيرادات‭ ‬الضرائب‭ ‬والرسوم‭ ‬وريع‭ ‬بيع‭ ‬النفط‭.‬

اما‭ ‬ميزانية‭ ‬المشروعات‭ ‬فتغذى‭ ‬من‭ ‬إيراد‭ ‬غير‭ ‬عادي،‭ ‬وهو‭ ‬سندات‭ ‬الدين‭ ‬العام‭ ‬وأذونات‭ ‬الخزانة‭ ‬وما‭ ‬يرد‭ ‬من‭ ‬أرباح‭ ‬“ممتلكات”‭ ‬لأن‭ ‬المشروعات‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬ان‭ ‬تدر‭ ‬ربحا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تغطية‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬اقتراضه‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬سياسات‭ ‬استثمارية‭ ‬كفوءة‭.‬

هذا‭ ‬التصور‭ ‬يجعل‭ ‬التركيز‭ ‬الحكومي‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬ميزانية‭ ‬المشروعات‭ ‬لتحقيق‭ ‬أرباح،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تغطية‭ ‬الدين‭ ‬العام‭ ‬وادارته‭ ‬وضبطه،‭ ‬أما‭ ‬ميزانية‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬والتشغيلية‭ ‬فهي‭ ‬سهلة‭ ‬التقدير‭ ‬ولا‭ ‬يتوقع‭ ‬فيها‭ ‬تغييرات‭ ‬كبيرة‭ ‬أثناء‭ ‬التنفيذ،‭ ‬وعليه‭ ‬فيمكن‭ ‬ضبطها‭ ‬بسهولة‭ ‬وترشيدها‭ ‬بحنكة‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬المصروفات‭ ‬التشغيلية‭ ‬لتحقيق‭ ‬فائض‭.‬

‮٢‬‭- ‬فكرة‭ ‬أخرى‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ميزانية‭ ‬الأعوام‭ ‬2019‭ -‬2020‭ ‬ميزانية‭ ‬صفرية،‭ ‬بمعنى‭ ‬تصفر‭ ‬جميع‭ ‬الأرقام‭ ‬وتبنى‭ ‬الميزانية‭ ‬على‭ ‬أرقام‭ ‬متوازنة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الإيرادات‭ ‬والمصروفات،‭ ‬ويكون‭ ‬التقدير‭ ‬غير‭ ‬مبني‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬السنوات‭ ‬السابقة،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬تراكم‭ ‬عجوزات‭ ‬وتجاوز‭ ‬إنفاق،‭ ‬بل‭ ‬ما‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬حقيقية‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬القادمة،‭ ‬وهذا‭ ‬يتطلب‭ ‬إلغاء‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بضروري‭ ‬او‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يصرف‭ ‬حقيقة،‭ ‬ويستدعي‭ ‬العصف‭ ‬الذهني‭ ‬المركز‭ ‬لتحديد‭ ‬حقيقة‭ ‬الاحتياجات‭ ‬للجهات‭ ‬الحكومية‭ ‬ووضع‭ ‬مؤشرات‭ ‬قياس‭ ‬أداء‭ ‬لتحديد‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬من‭ ‬الإنفاق‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬المختلفة‭.‬

وما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالعجوزات‭ ‬السابقة‭ ‬يحول‭ ‬الى‭ ‬الدين‭ ‬العام‭ ‬ويضبط‭ ‬ويدار‭ ‬ضمن‭ ‬ملف‭ ‬الدين‭ ‬العام،‭ ‬وهنا‭ ‬نكون‭ ‬أمام‭ ‬تصور‭ ‬واضح‭ ‬فالميزانية‭ ‬متوازنة‭ ‬حسابيا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يتم‭ ‬التركيز‭ ‬والجهد‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الدين‭ ‬العام،‭ ‬بمعنى‭ ‬يكون‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬جبهة‭ ‬واحدة‭ ‬هي‭ ‬الدين‭ ‬العام‭ ‬بحسبان‭ ‬ان‭ ‬الميزانية‭ ‬رسمت‭ ‬متوازنة‭ ‬بما‭ ‬يتضمنه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ضرورة‭ ‬منع‭ ‬طلب‭ ‬الاعتمادات‭ ‬الإضافية‭ ‬او‭ ‬التكميلية‭ ‬الا‭ ‬في‭ ‬الضرورات‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬وجود‭ ‬مورد‭ ‬يغطيها‭ ‬من‭ ‬الايرادات‭ ‬العادية‭ ‬كالضرائب‭ ‬والرسوم‭ ‬وريع‭ ‬النفط‭.‬

ان‭ ‬فكرة‭ ‬التوازن‭ ‬المالي‭ ‬كما‭ ‬تذهب‭ ‬له‭ ‬غالبية‭ ‬الدول‭ ‬تستهدف‭ ‬التوازن‭ ‬الاقتصادي‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬الميزانية‭ ‬العامة‭ ‬اداة‭ ‬ووسيلة‭ ‬لخلق‭ ‬اقتصاد‭ ‬متوازن‭ ‬وبالتبعية‭ ‬يتحقق‭ ‬التوازن‭ ‬المالي‭ ‬،‭ ‬فلا‭ ‬يقصد‭ ‬التوازن‭ ‬المالي‭ ( ‬الحسابي‭ ) ‬لذاته‭ ‬لما‭ ‬يترتب‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬رغبة‭ ‬في‭ ‬وقف‭ ‬بعض‭ ‬الإعانات‭ ‬والدعومات‭ ‬المستحقة‭ ‬،‭ ‬وخفض‭ ‬ميزانية‭ ‬بعض‭ ‬المشروعات‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬وجودها‭ ‬وان‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تدر‭ ‬ربحا‭ ‬لان‭ ‬ما‭ ‬تنتجه‭ ‬هذه‭ ‬المشروعات‭ ‬مهم‭ ‬لحاجة‭ ‬الناس‭ ‬ولا‭ ‬يقوم‭ ‬بها‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬،‭ ‬وايضاً‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬الحرص‭ ‬التام‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬توازن‭ ‬مالي‭ ‬حسابي‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬التوازن‭ ( ‬لمالية‭ ‬الحكومة‭ ) ‬وهو‭ ‬امر‭ ‬حسن‭ ‬ولكن‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬السخط‭ ‬الشعبي‭ ‬وهو‭ ‬امر‭ ‬سلبي‭ ‬غير‭ ‬متطلب‭.‬

ختاما‭ ‬نقول‭ ‬ان‭ ‬المواطن‭ ‬الفطن‭ ‬الحكيم‭ ‬وجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مما‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬عقيدته‭ ‬وفهمه‭ ‬ان‭ ‬الدولة‭ ‬تمر‭ ‬بمرحلة‭ ‬مالية‭ ‬حرجة‭ ‬وبالتالي‭ ‬هي‭ ‬مرحلة‭ ‬عنوانها‭ (‬الضرورات‭ ‬تبيح‭ ‬المحظورات‭) ‬،‭ ‬والصبر‭ ‬مفتاح‭ ‬الفرج،‭ ‬وانا‭ ‬لله‭ ‬وانا‭ ‬إليه‭ ‬راجعون،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬وجب‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬خططها‭ ‬واضحة‭ ‬لمن‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬ليفهم‭ ‬طبيعة‭ ‬المشكلة‭ ‬والتحديات‭ ‬وما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬الدولة،‭ ‬وما‭ ‬يرجى‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يؤديه‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬لكي‭ ‬تمر‭ ‬سفينة‭ ‬الدولة‭ ‬الى‭ ‬بر‭ ‬الأمان‭.‬