الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬والسيد‭ ‬محمود

| عبدالنبي الشعلة

المغفور‭ ‬له‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬كان،‭ ‬ولا‭ ‬يزال،‭ ‬يوصف‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬وحقيقة،‭ ‬بأنه‭ ‬أمير‭ ‬التواضع‭ ‬والكرم‭ ‬والوفاء‭ ‬والأخلاق‭ ‬الرفيعة‭ ‬الفاضلة،‭ ‬ولم‭ ‬يَحِد‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬أو‭ ‬يقل‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬القدر‭ ‬خلفه‭ ‬الصالح‭ ‬صاحب‭ ‬الجلالة‭ ‬الملك‭ ‬المفدى،‭ ‬وشقيقه‭ ‬الوفي‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الموقر،‭ ‬وحفيده‭ ‬البار‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬الأمين‭.‬

ومن‭ ‬بين‭ ‬المناقب‭ ‬العديدة‭ ‬التي‭ ‬تحلى‭ ‬بها‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ (‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭) ‬الوفاء‭ ‬والعرفان‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬خدم‭ ‬وأعطى‭ ‬وضحى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬البحرين‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬والأموات‭. ‬

وقد‭ ‬رأيت‭ ‬بعيني‭ ‬وسمعت‭ ‬كما‭ ‬سمع‭ ‬الكثيرون‭ ‬غيري‭ ‬لمرات‭ ‬عدة،‭ ‬وفي‭ ‬مناسبات‭ ‬متفرقة،‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى،‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬لقاءاته‭ ‬واجتماعاته،‭ ‬وهو‭ ‬يُثني‭ ‬ويُشيد‭ ‬ويَترحَّم‭ ‬ويَتذكر‭ ‬بالتقدير‭ ‬والإكبار‭ ‬مواقف‭ ‬وأفعال‭ ‬وإنجازات‭ ‬رجال‭ ‬البحرين‭ ‬ممن‭ ‬تفانوا‭ ‬وأفنوا‭ ‬حياتهم‭ ‬بكل‭ ‬إخلاص‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المراكز‭ ‬والمواقع،‭ ‬ومن‭ ‬شرائح‭ ‬وأطياف‭ ‬المجتمع‭ ‬كافة،‭ ‬وكانت‭ ‬ثمة‭ ‬أسماء‭ ‬عدة‭ ‬تتكرر‭ ‬بانتظام‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬سردها‭ ‬هنا‭ ‬لضيق‭ ‬المساحة‭ ‬وخشية‭ ‬أن‭ ‬أبخس‭ ‬أحدا‭ ‬حقه‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أغفل‭ ‬أو‭ ‬تخونني‭ ‬الذاكرة‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬أي‭ ‬منهم‭.‬

ولأن‭ ‬حسن‭ ‬الطالع‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬يضعني‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬ومسافة‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الموقر،‭ ‬فقد‭ ‬وجدت،‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬وبصورة‭ ‬واضحة،‭ ‬الشيء‭ ‬ذاته‭ ‬يتكرر،‭ ‬ورأيت‭ ‬في‭ ‬سموه‭ ‬شخصا‭ ‬تجلت‭ ‬فيه‭ ‬صفات‭ ‬الوفاء،‭ ‬وتنضح‭ ‬من‭ ‬وجدانه‭ ‬مكارم‭ ‬وشمائل‭ ‬التقدير‭ ‬والعرفان‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭ ‬أعطى‭ ‬وساهم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬صروح‭ ‬هذا‭ ‬الوطن،‭ ‬وهنا‭ ‬أيضًا‭ ‬لا‭ ‬ينفك‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬أسماء‭ ‬محفورة‭ ‬في‭ ‬ذاكرته‭ ‬وقلبه،‭ ‬وأود‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الوقفة‭ ‬القصيرة‭ ‬أن‭ ‬أشير‭ ‬إلى‭ ‬واحد‭ ‬ممن‭ ‬يتكرر‭ ‬ذكرهم‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان،‭ ‬وهو‭ ‬المرحوم‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬بن‭ ‬السيد‭ ‬أحمد‭ ‬العلوي؛‭ ‬لما‭ ‬لعلاقة‭ ‬هذين‭ ‬الرجلين‭ ‬من‭ ‬دلالات‭ ‬ومعانٍ‭ ‬عميقة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬الابتعاد‭ ‬والنفور‭ ‬من‭ ‬الاصطفاف‭ ‬المذهبي‭ ‬المزعوم‭.‬

التحق‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬العلوي‭ ‬بالجهاز‭ ‬الحكومي‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬بسيطة،‭ ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬مديرًا‭ ‬لدائرة‭ ‬الحسابات‭ ‬بحكومة‭ ‬البحرين‭ ‬وأحد‭ ‬السواعد‭ ‬المساندة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يعتمد‭ ‬عليها‭ ‬ويثق‭ ‬بها‭ ‬حاكم‭ ‬البحرين‭ ‬آنذاك‭ ‬المغفور‭ ‬له‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬صاحب‭ ‬العظمة‭ ‬الشيخ‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬ولمَّا‭ ‬نالت‭ ‬البحرين‭ ‬استقلالها‭ ‬أصبح‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬العلوي‭ ‬وزيرًا‭ ‬للمالية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتقل‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬ربه‭.‬

وعندما‭ ‬يتحدث‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬عن‭ ‬السيد‭ ‬محمود،‭ ‬فإنّ‭ ‬حديثه‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬القلب‭ ‬وتنعكس‭ ‬أحاسيسه‭ ‬في‭ ‬نظراته‭ ‬وتعابير‭ ‬وجهه‭ ‬التي‭ ‬تفصح‭ ‬عن‭ ‬كم‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬المودة‭ ‬والتقدير‭ ‬التي‭ ‬يكنها‭ ‬سموه‭ ‬لهذا‭ ‬الرجل،‭ ‬فهو‭ ‬يؤكد‭ ‬دائمًا‭ ‬أنّ‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬كان‭ ‬شخصية‭ ‬متميزه‭ ‬فريدة‭ ‬من‭ ‬نوعها،‭ ‬كان‭ ‬معروفًا‭ ‬بالدقة‭ ‬والانضباط‭ ‬والالتزام‭ ‬ومتحليًا‭ ‬بأسمى‭ ‬قيم‭ ‬الإخلاص‭ ‬والتفاني‭ ‬والولاء‭ ‬وروح‭ ‬المسؤولية،‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬مصلحة‭ ‬البلاد‭ ‬وأهلها‭ ‬ومحل‭ ‬ثقة‭ ‬الجميع‭.‬

يقول‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬نزيهًا‭ ‬أمينًا‭ ‬مخلصًا‭ ‬ومحبًا‭ ‬للبحرين‭ ‬وأهلها،‭ ‬وسنظل‭ ‬متشبثين‭ ‬بذكراه‭ ‬العطرة‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬عطاءه‭ ‬وتفانيه‭ ‬وإخلاصه‭.‬

هذا‭ ‬الموقف‭ ‬النبيل‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬تجاه‭ ‬السيد‭ ‬محمود‭ ‬يعكس‭ ‬أروع‭ ‬صور‭ ‬الأريحية‭ ‬والتقدير‭ ‬والوفاء،‭ ‬تلك‭ ‬القيم‭ ‬التي‭ ‬اختفت‭ ‬من‭ ‬مفردات‭ ‬وقواميس‭ ‬السياسيين‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحاضر‭ ‬بالذات،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تحكم‭ ‬العلاقات‭ ‬فيما‭ ‬بينهم،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬في‭ ‬أدبيات‭ ‬السياسة‭ ‬الآن‭ ‬شيء‭ ‬اسمه‭ ‬الالتزام‭ ‬أو‭ ‬الوفاء،‭ ‬واستبدلت‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬بقواعد‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬الأنانية‭ ‬والمصلحة‭ ‬الذاتية‭ ‬والتنكر‭ ‬للأصدقاء‭ ‬والحلفاء‭ ‬ورفقاء‭ ‬الدرب‭ ‬والتضحية‭ ‬بهم‭ ‬عند‭ ‬الضرورة‭ ‬أو‭ ‬إذا‭ ‬لزم‭ ‬الأمر،‭ ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬وبين‭ ‬السياسيين‭ ‬أصبحت‭ ‬كبعض‭ ‬السلع‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬لها‭ ‬“مدة‭ ‬صلاحية”‭ ‬تنتهي‭ ‬بانتهاء‭ ‬المصلحة،‭ ‬وفي‭ ‬السياسة‭ ‬بات‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬أو‭ ‬مسؤول‭ ‬كحصان‭ ‬السباق‭ ‬له‭ ‬شوط‭ ‬يؤديه‭ ‬ثم‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬الحلبة‭ ‬بعد‭ ‬أدائه،‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬القاعدة‭ ‬التي‭ ‬تقول؛‭ ‬لكل‭ ‬حصان‭ ‬شوط‭ (‬A horse for a course‭).‬

وثمة‭ ‬مبادئ‭ ‬وقواعد‭ ‬قاسية‭ ‬صارت‭ ‬الآن‭ ‬راسخة‭ ‬وثابتة‭ ‬في‭ ‬الممارسات‭ ‬السياسية‭ ‬وفي‭ ‬علم‭ ‬السياسة‭ ‬والإدارة،‭ ‬وتزداد‭ ‬رسوخًا‭ ‬وثباتًا‭ ‬مع‭ ‬مرور‭ ‬الوقت،‭ ‬وهي‭ ‬تدور‭ ‬حول‭ ‬ضرورة‭ ‬تغليب‭ ‬المصلحة‭ ‬على‭ ‬أية‭ ‬اعتبارات‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬أية‭ ‬قيم‭ ‬أخلاقية‭ ‬أو‭ ‬علاقات‭ ‬إنسانية‭. ‬

فقد‭ ‬تعلمنا‭ ‬وعلمتنا‭ ‬الأيام‭ ‬وقال‭ ‬لنا‭ ‬السياسي‭ ‬الإنجليزي‭ ‬المحنك‭ ‬الراحل‭ ‬ونستون‭ ‬تشرشل،‭ ‬بكل‭ ‬وضوح،‭ ‬إن‭ ‬في‭ ‬السياسة،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬والتطبيق،‭ ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬صداقات‭ ‬دائمة‭ ‬ولا‭ ‬عداوات‭ ‬دائمة‭ ‬إنما‭ ‬هناك‭ ‬مصالح‭ ‬دائمة،‭ ‬ونحن‭ ‬نرى‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬لا‭ ‬الحصر،‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬أشطر‭ ‬وأنبه‭ ‬طلاب‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬أبرع‭ ‬أساتذتها‭.‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬ملوك‭ ‬وحكام‭ ‬وأمراء‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬الكرام‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬والأسر‭ ‬الأخرى‭ ‬المالكة‭ ‬والحاكمة‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬عمومًا،‭ ‬لا‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬صفوف‭ ‬هذه‭ ‬المدرسة‭ ‬ولا‭ ‬يؤمنون‭ ‬بمبادئها،‭ ‬ولذلك‭ ‬فإنهم‭ ‬يعانون‭ ‬ويجدون‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬تقبل‭ ‬والتفاعل‭ ‬والتأقلم‭ ‬مع‭ ‬تقلبات‭ ‬السياسيين‭ ‬والسياسات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تمت‭ ‬إلى‭ ‬قيم‭ ‬الوفاء‭ ‬والالتزام‭ ‬والإخلاص‭ ‬بِصلة‭.‬