أربع نساء في حياته 

| رضي السماك

سنستبعد من دائرة اهتمامنا في هذه الوقفة  المرأة في أدب طه حسين، التي خصصت بروين حبيب نماذج منها في الفصل الثاني من كتابها" أبصرتُ بعينيها"، إذ سبق أن تناولنا بعض تلك النماذج النسوية لدى تحليلنا روايته" دعاء الكروان"، ويهمنا في هذا السياق أن نتوقف عند دور أربع نساء في حياة طه حسين: الأولى زوجته سوزان بريسو، والثانية والدته، والثالثة مي زيادة، والرابعة الناشطة والقائدة النسوية المهمة درية شفيق. -المرأة الأولى( سوزان بريسو) : وهي أهم شخصية نسوية أولتها المؤلفة بما تستحقه من عناية واهتمام بالغين، واتخذت من أحد عناوين الفصل الثالث من كتابه" الأيام" عنواناً لكتابها كما أسلفنا،وبررت هذا الاهتمام لما وجدته من معلومات وفيرة عنها، سواءً في كتاب سيرته" الأيام"  أو في كتاب زوجته بريسو " معك" مقارنة بما وجدته من عناء- حسب وصفها - في البحث عن معلومات عن سهير القلماوي وأمينة السعيد، مع أن المعلومات وفيرة عن القلماوي ومصادر  الكتابة عنها متعددة، لكن قد يصح القول فيما يتعلق بالناشطة النسائية درية شفيق، وهذا ما لمسته شخصياً في رحلة البحث والتنقيب الشاقة عنها. ولعل زوجته سوزان بريسو شغلت الحيز الأكبر من بين الصفحات التي تناولت فيها المؤلفة النماذج النسوية الأربع، وقد وُفقت أيما توفيق في تشريح دورها المحوري في تحويل مجرى حياة طه حسين  جذرياً على مختلف الأصعدة الشخصية والعامة، بل كانت محقة تماماً-كما سبق أن ذكرنا- في قولها أن قصة حياته مع بريسو تستحق أن تُخلد مع قصص الحُب العالمية والعربية كروميو و جوليت وقيس وليلى.فمنذ تعرف عليها أصبحت النافذة التي يرى من خلالها العالم، على حد تعبير المؤلفة، وأنها قبل أن تكون حبيبته كانت صديقته، بل بقيت صديقته في كنف عش الحياة الزوجية، في حين كان بالنسبة لها صديقها الوحيد( ص 9) .والحال ما كان ليكون صديقها الوحيد لولا اغترابها الطويل معه عن بلدها فرنسا طوال حياتهما الزوجية للعيش في بلاده مصر على مدى ستة وخمسين عاماً،وهذه تضحية بلا شك هائلة ونكران ذات من جانبها قل نظيره في قصص الحُب العالمية في سبيل من عشقته برجاحة عقلها قبل قلبها،وإذ يحلو لبروين-كما عبّرت- نعت هذا العشق ب " الحُب العلمي" لأن فصوله جرت أثناء التحصيل العلمي المشترك في باريس بمساعدتها التي لا تُقدّر بثمن فلعل نعته الأدق أن يُطلق عليه  " الحُب العقلاني". - المرأة الثانية( والدته رقية): والتي رأت المؤلفة أنها من النماذج النسائية المغيبة في كتاباته، وفسرت هذا التغييب بما كان يواجهه طه حسين في علاقتها معه من مزيج متضارب يجمع بين الغلظة والإهمال والرأفة،مبررة ذلك بما كانت تتحمله أُم طه -كأُم ريفية- من مسؤوليات عائلية ومنزلية جمة متشعبة في رعاية وتربية وإطعام ثلاثة عشر ولدا، ومع أنه التمس لها الأعذار في إهماله إياه لما واجهته من محن شتى في حياتها، إلا أن حساسيته المفرطة تجاه أُمه ظلت ملتبسة، ومن ذلك تذكره لحادثة الساطور الذي زعم بأنه أراد به الانتحار ولم يظهر على أُمه أي وجل من ذلك، وفي تقديرنا أنه لم يكن جاداً في فعلته وهو في تلك السن الطرية، إنما كان يرنو منه أن يؤذي جسمه بإسالة بضع قطرات من دمه لعلها تحدب عليه وتحنو بما يشعره بأنه مضاه لأشقائه في محبتها لهم دون إهمال له من جانبها.  ومع أن أُمه كانت أُمية إلا أنها كانت ذكية القلب وتتحلى بطيبة ريفية فطرية منفتحة غير مفرطة التزمت ، وهذا ما يتجلى لنا على الأقل في موقفين لها: الأول يتمثل في حرصها على أن توفر لزوجة ابنها الأُوروبية ( سوزان بريسو) كل مسببات الراحة والألفة أثناء إقامتها مع ابنتها أمينة في منزلهم الريفي بالصعيد، حتى بلغ الإمر بها أن حاولت معرفة أية أنواع النبيذ يروق لها شرابه وهي المسلمة الريفية التي تعيش في كنف عائلة مسلمة محافظة، والثاني يتمثل فيما قالته إزاء الصبية (زوجة المفتش ذي الأربعين سنة) والتي كان قلب ابنها طه يهفو إليها ويقتنص ساعة كاملة لمسامرتها قبل موعد تفقيهه دينياً على يد المفتش وقد عدّتها المؤلفة نموذجاً من النماذج النسوية اللواتي كان لهن صدى في حياته العاطفية، في حين وصفتها أُمه بأنها " طفلة زُوجت من هذا الشيخ لا تعرف أحداً ولا أحد يعرفها، فهي ضيقة الصدر في حاجة للهو والعبث".  - المرأة الثالثة( مي زيادة): وقد عرفها طه حسين لأول مرة عندما وقفت في احتفال أُقيم في الجامعة القديمة خطيبةً مفوهة بلسان أنثوي رقيق رخيم،وكان هذا عشية ابتعاثه إلى فرنسا، وعبّر  عما لهذا الصوت من وقع أخّاذ في وجدانه بلغة عذبة رقراقة : " كان عذباً نحيلاً، وكان عذباً رائقاً وكان لا يبلغ السمع حتى ينفد منه بخفة إلى القلب، فيفعل به الأفاعيل". ص 39، وإذ جرت بين الطرفين بعدئذ مراسلات، وزار صالونها العتيد مرات بدا أن المؤلفة والكاتب واسيني الأعرج لم يتنبها جيداً إلى الظرف والتوقيت التي جرت خلالهما تلك العلاقة العابرة بينهما والتي حدّثنا عنها في سيرته "الأيام" تحت عنوان " عندما خفق القلب لأول مرة"، وإذ أن المؤلفة أوضحت أن علاقة الحُب بينهما كانت من طرف واحد دون مشاطرة لمي فيها، سيما في ظل انشغال قلبها بجبران خليل جبران عبر تبادل رسائل الحُب العاصف بينهما، فإنها فسرت فتور العلاقة بين طه حسين ومي لعدم دعم الأول لها في محنتها أثناء إدخالها مستشفى "العصفورية" بلبنان، ثم انقطعت هذه العلاقة بعد رجوعها إلى مصر. أما واسيني الأعرج فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في وصف تلك العلاقة العابرة السريعة، إذ ظن-حسب المؤلفة- بأن طه حسين لما يحظى به كشخصية ثقافية اعتبارية تتمتع بمرتبة سامقة ستسقط كالفاكهة الناضجة، وهذا لم يحدث أبداً،  على حد تعبير المؤلفة بروين حبيب وهي محقة في ذلك. لكن حبيب إذ  وصفت العلاقة بين طه حسين ومي بالفتور بعد عودتها لمصر،فإن ذلك لم يكن إلا بعد أن اقترن بسوزان بريسو، حيث تحولت العلاقة بينه وبين مي بعدئذ إلى علاقة صداقة بحتة، وذلك بعد مرور نحو عقدين من "خفقان القلب لأول مرة" نحوها قبيل سفره لباريس للدراسة.أما الأعرج فقد استخف -بقصد أو بدون قصد- بفطنة طه حسين الشخصية الأدبية المفكرة الفذة، إذ كيف يكون هذا الرجل على هذه الدرجة من البساطة والسذاجة بحيث يتوقع أن مي ستسقط كالفاكهة الناضجة في أحضان طه حسين مهما علا مقامه،؟ علماً بأن مقامه لم يكن بذلك العلو حينئذ ، إذا ما كان يتحدث عن الرجل عندما خفق قلبه  لأول مرة نحو مي عشية سفره إلى فرنسا، فإن كان يقصد في فترة العلاقة التي سبقت إدخالها "العصفورية" بلبنان فذلك ليس سوى ضرب من الأوهام التي لا تستقيم مع شخصية حليمة محنكة  مجربة كشخصية العميد.  المرأة الرابعة( درية شفيق): وقد يصح القول في موقف طه حسين الغريب منها المناقض لمواقفه المعروفة في تأييد حرية المرأة ونيل حقوقها كاملة، ومن ثم خذلانه لواحد من أجرأ مواقفها الشجاعة المقدامة الذي وقفته في الدفاع عن حقوق النساء فيما جاء به المثل العربي القديم "لكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة" ذلك بأن الموقف القاسي الذي وقفه من درية شفيق  غير مفهوم وغير مبرر البتة، فبعد أن كان صاحب الفضل عليها في تسهيل بعثتها لفرنسا وتثبيتها لم يتوان عن خذلانها في مواقفها الصلبة العنيدة من أجل نيل النساء حقوقهن السياسية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وذلك عندما اعتصمت درية مع جمع من رفيقاتها في نقابة الصحفيين منتصف خمسينيات القرن الآفل من أجل تمثيل المرأة سياسياً في اللجنة التأسيسية لمشروع الدستور، وكان لهن اعتصام آخر في الأسكندرية وفي مجلس قيادة الثورة وفي البرلمان. لكن طه حسين تطاول عليهن بأن وصفهن في صحيفة "الجمهورية" والتي كانت بمثابة لسان حال مجلس قيادة الثورة  ب" العابثات" ونشر حلقتين تحت هذا العنوان، ووصف تحركهن بالسخيف، كما سخر  من إضرابهن عن الطعام! والحق أن درية شفيق ولما وقع عليها من غبن سياسي تاريخي تستحق أن نفرد لها مقالاً بحثيا مستقلاً يتناول شخصيتها، وكيف انتهى بها المطاف المأساوي إلى أن تنتحر عام 1975 من شرفة شقتها لما واجهته لسنوات طويلة من عسف واجحاف بحقها، وبما يُذكرنا إلى حد كبير بالظروف المشابهة التي واجهتها  الناشطة الطلابية في السبعينيات أروى صالح والتي انتهت حياتها هي الأُخرى بالانتحار من الشرفة أيضا.