مذكرات دجاجة

| رضي السماك

لعل عنوان هذا الموضوع باعث على تبسم أو ضحك القراء للوهلة الأولى، خصوصا لمن لم يسبق لهم أن قرأوا رواية الأديب الفلسطيني الراحل إسحاق الحسيني التي هي بنفس العنوان، لكن القارئ ستزول عنه الدهشة، ما إن يدرك أن مؤلف الرواية إنما ينتهج فيها نهج عبدالله المقفع، مترجم "كليلة ودمنة"، والتي يتحدث فيها مؤلفها على ألسنة الحيوانات، ليعبّر عما يجيش في صدره من هموم خاصة ومهمة، وهذا ما فعله الحُسيني في روايته التي أصدرها عام 1942 إبان الحرب العالمية الثانية، حيث كانت فلسطين خاضعة لحكم الانتدابالإنجليزي، ولعل المؤلف اضطر لهذا الأسلوب تفادياً لمبضع الرقابة المشددة على النشر من الإنجليز وقت الحرب.

وأياً كان الأمر فإن بطلة القصة "الدجاجة العاقلة"، كما نعتها طه حسين في تقديمه الرواية، تمثل رمز الأخلاق والفضيلة ورجاحة العقل بين بني قومها الدجاج، وكانت في بيئتها الأولى الريفية تكافح مع رفيقاتها من أجل قوتهن اليومي، وعندما انتقلت إلى بيئتها الجديدة في حظيرة بإحدى المدن أضحت تعيش حياة رغيدة، وتزوجها الديك الوحيد في هذه البيئة، وهنا تواجه بطلتنا تحدييين - خاص وعام - بحكمة وعقلانية: التحدي الأول مبعثه غيرة الدجاجات منها إثر تفضيل الديك إياها عليهن، والثاني سببه الغرباء الطارئون الذين حلوا على بيئتهن، فيتحدن لمواجهتهم، سيما أن أعداءهنيتمتعون بالقوة والبأس، وهنا تنتخب الدجاجات زعيماً لهن يتبنى نهج القوة لمكافحة الغرباء، لكن دجاجتنا العاقلة ترفض هذا النهج وتقترح مواجهة هذه المصيبة بالتسامح والإصلاح بدءا من إصلاح العالم: " ألا تريدون أن يحتكم الحق في قضيتكم؟ قالوا، نعم، قلت: إذا لا ينبغي أن تلجأوا إلى القوة.قال الزعيم: وإذا ماذا نفعل؟ قلت: إذا ليس لكم إلا أن تنتشروا في هذه الأرض، وتبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده، وتقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه، وعندئذ تحلون قضية عامة إنما قضيتكم جزء منها". (إسحاق موسى الحُسيني، مذكرات دجاجة، وزارة الثقافة الفلسطينية، فلسطين، ص 124 -125).

ثم تقول: "… إن حياة الفرد جزء من حياة المجموع. فإذا سعِد المجموع سعِد الفرد بسعادته، وإذا شقي المجموع شقي الفرد بشقائه"، ص 127.

لقد ذكرنا أن المؤلف أصدر روايته عام 1942، والمتأمل لهذا التاريخ سيجده تاريخاً مفصلياً لا يخلو من دلالات سياسية مهمة، وبالتالي فالرواية إذ تأتي خلال الحرب العالمية الثانية، فإنها تأتي أيضاً بُعيد ثلاث سنوات فقط من نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى (1936 - 1939)، وقبل ست سنوات من نكبة 1948. بمعنى أن الراوي كتبها تحت تأثير تداعيات القمع البريطاني الوحشي الذي تعرضت له الثورة من جهة، وتحت تأثير تعاظم مخاطر الهجرة والاستيطان اليهودية، ومن هنا يمكننا أن نفهم دواعي رمزية الرواية حيث تشير إلى الصراع الذي كان يخوضه الفلسطينيون في تلك الفترة ضد الانتدابمن جانب، وضد تعاظم الهجرة والاستيطان في فلسطين من جانب آخر، ولعلنا نتلمس فيها استشرافاً للكارثة المحدقة القادمة (نكبة 1948).

ومنذ نشرها إلى يومنا ما فتئ السجال النقدي يتجدد حولها، ولاسيما بعد كل مأساة جديدة يُمنى بها الشعب الفلسطيني، فبُعيد النكبة اُنتقدت الرواية لأنها أثبتت - حسب زعمهم - عقم الحل السلمي وضرورة مواجهة الاستعمار الاستيطانيبالقوة، وهو ما رفضته "الدجاجة العاقلة"، وكان القاص عبدالحميد ياسين قد كتب سلسلة مقالات تسخر من دجاجة الحسيني كاتب الرواية، تحت عنوان " مذكرات ديك" ترفض الحل السلمي. ثم تجدد السجال النقدي تجاه الرواية بعد النكسة 1967، وذلك إبان سني صعود الكفاح المسلح، وبروز الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها "فتح" وهو الطريق الذي أثبت عقمه، ومن ثم بات هذا الفصيل يتمسك بالحل السلمي منذ توقيعه على اتفاق أوسلو 1993. وظل السجال النقدي الأدبي السياسي يتجدد بعدئذ كلما تعرض النضال الفلسطيني لانتكاسات.

على أن ما يهمنا في شأن الرواية تحديداً، هو أن مما ضاعف أهميتها ورواجها، ومازالت هي كذلك، على الرغم من مرور أكثر 80 عاماً على صدورها، هو مقدمة طه حسين الإضافية، حيث امتازت بأسلوبه الذي تميز به العميد في الإبداع لدى كتابته أية قطعة نثرية فنية، حيث يبسط فيها أفكاره التي يريد أن يوصلها للمتلقي بسهولة، موشاة بزخرفة بديع الكلام، لكن ليس على حساب ثراء المضمون، وكان المؤلف الفلسطيني وقت كتابتها زميلاً لطه حسين في المجمع اللغوي المصري، ويبدو أن العميد ليس ملماً بتطورات القضية الفلسطينية فحسب، بل ومتعاطفاً مع قضية الشعب العربي الفلسطيني، ما يدحض ما اتهمه أعداؤه به بأنه تغريبي ومعادٍ للقضايا القومية. على أنه لم يشأ في مقدمته أن يتوغل في دلالاتها السياسية، بل اكتفى بالتلميح، أو المرور العابر لتلك الدلالات.

ومن تعليقاته البديعة على "مذكرات الدجاجة" يقول في مستهل مقدمته:" هذه دجاجة جد عاقلة، ماذا أقول! بل هي دجاجة مفلسفة تدرس شؤون الاجتماع في كثير من التعمق وتدبير الرأي، فتصل إلى اكتشاف بعض الأدواء الاجتماعية وتصف لها الدواء". ص 15. وتارة لرقة عواطفها يصفها بـ "الشاعرة" وتارة أخرى يصفها بـ " الرحيمة" لعطفها على البؤساء والمحرومين، وتارة ثالثة ينعتها بـ" الفصيحة" لحسن تفكيرها وأدائها.

ثم يصل طه حسين إلى خاتمة مقدمته باقتضاب في الدلالات السياسية لرمزية الرواية فيقول: "وما أعجب ما رأينا - أن دجاجة فلسطين تجد من حُب الخير وبغض الشر والطموح إلى المثل العليا في العدل الاجتماعي وفي العدل الدولي وفي كرامة العروبة وحقها في عزة حديثة تلائم ما يجده كل عربي من أهل فلسطين بل من أهل الشرق العربي كله..." ص 16.

وهكذا يتضح لنا أن ثمة شيئاً من التعاطف بهذا القدر أو ذاك من قِبل طه حسين مع رؤية المؤلف على لسان دجاجته العاقلة، نحو تبني نهج سلمي عقلاني لحل القضية الفلسطينية؛ وذلك تحت تأثير فشل أشكال "العنف الثوري" الذي مورس خلال "ثورة 1936 - 1939"، والذي تبناه على وجه الخصوص الشيخ عز الدين القسّام، معتبراً إياه الخيار الوحيد! ومن ثم ما خلّفه ذلك الفشل من مرارات شديدة في نفوس الشعب العربي الفلسطيني.

كاتب بحريني