“ماجولاه” سنغافورة.. “ماجولاه” البحرين

| محمد الجيوسي

كلمة “ماجولاه” تعني باللغة الملايوية المعتمدة في كل من سنغافورة وماليزيا وبروناي “إلى الأمام”.. شعار حملته سنغافورة منذ انطلاقة أولى خطوات دولتها الحديثة على يد عرّاب ازدهارها وباني نهضتها الشاملة منذ ستينات القرن الماضي لي كوان يو، ذات الشعار يمكن أن نراه جليا في مملكة البحرين والتي حرصت منذ فترة ليست بالقصيرة على ترسيخ مرتكزات التنمية الشاملة بالاستفادة من تجربة “النمر الآسيوي” لتحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية.  كيف لا وسنغافورة لم تغب شمسها عن جميع تصنيفات العالم الاقتصادية لسنوات طويلة، لتكون ضمن أقوى 5 اقتصادات عالمية في كل المؤشرات الاقتصادية، سواء أكانت في مجال الانفتاح الاقتصادي أو الحرية الاقتصادية أو الحركة التجارية وازدحام منافذها الجوية والبحرية واستثماراتها السيادية واستقطابها للاستثمارات الأجنبية المباشرة والخدمات المالية وتطور صناعاتها وغيرها.  ثمة قواسم مشتركة كثيرة بين البحرين وسنغافورة، لعل أبرزها قلة الموارد الطبيعية وصغر المساحة الجغرافية ومعدلات نمو اقتصادي بين 3 إلى 4 %، مما يجعل مسألة استنساخ النموذج السنغافوري قابلة للتطبيق على أرض الواقع. فهنالك الكثير من الخطوات التي اتخذت في المملكة تحاكي تجربة سنغافورة على غرار إنشاء مجلس التنمية الاقتصادية كما هو الحال بنظيره في سنغافورة الذي يحمل نفس الاسم والمعني بجذب الاستثمارات الأجنبية. وإنشاء شركة ممتلكات البحرين القابضة كصندوق ثروة سيادي مشابه لتجربة صندوق الثروة السيادي السنغافوري (GIC) الذي يعتبر الآن ثالث أكبر صندوق سيادي في العالم بعد النرويج والصين. واتباع سياسات شبيهة ببدايات تأسيس سنغافورة الحديثة كجعل وزارة المالية أهم وزارات الدولة كما هو الحال بوزارة المالية والاقتصاد الوطني الآن.  إذاً ما الذي يجعل البحرين والكثير من دول العالم بفئتيها النامية والمتقدمة تلجأ إلى “بلاد المطاط والقصدير” للتعلم من دروسها الاقتصادية؟ مراجعة معمقة في مذكرات صاحب “المعجزة الاقتصادية” السنغافورية لي كوان يو ضمن كتابه الشهير “قصة سنغافورة” تفي بالغرض. فهذا الرجل المحب للتوسع الرأسمالي الصناعي والعدو الأول للشيوعية لخّص قصة نجاحه وخطة عمله التنموية في أول خطاب له منذ استلامه السلطة كرئيس للوزراء قال فيه: “سنبدأ فصلاً جديداً. فالأشياء الجديدة في الحياة لا تهبط من السماء، وإنما تأتي بجهودنا على مدى طويل، الحكومة لا تستطيع أن تعطي نتائج إلا إذا ساندها الشعب، واستمر في العمل معها. يمكن أن تأتي أوقات نتخذ فيها قرارات غير شعبية بالنسبة لجانب من الجمهور، ولكنها في مصلحة المجتمع ككل. في مثل هذه المناسبات تذكروا أن المبدأ الذي يرشد أفعالنا هو الصالح العام للمجتمع كله وهذا ما يجب أن يسود”.  استطاع لي أن يحوّل بلاده التي كانت مستعمرة بريطانية فقيرة وجزيرة تنزف من احتلال ياباني ومهرجان من الاضطرابات السياسية والاجتماعية إلى قوة اقتصادية ضاربة في العالم خلال 30 عاماً. بدأ عمله مطلع ستينات القرن الماضي بإنشاء وزارة للتنمية الوطنية، وهيئة للإسكان والتطوير، وسلطة للتخطيط، ومكتب للتحقيق في ممارسات الفساد، ومحكمة للعلاقات الصناعية، وجعل وزارة المالية صاحبة اليد العليا في اتخاذ أهم القرارات في الدولة. 

أول خطواته في السلطة كانت اعتماد سياسة تقشف لتحقيق التوازن في الموازنة التي كانت تعاني من عجز قدره 14 مليون دولار في ذلك الوقت، داعيا وزير المالية لاعتماد خطة “شد الأحزمة” غير المرغوبة في وقت مبكر جداً، والتي تضمنت تقشفا في معونات الموظفين لشراء سيارات ونفقات المنح والدورات التدريبية في الخارج. واقتراح تخفيض رواتب الوزراء من 2600 دولار إلى 2000 دولار شهريا ليكونوا مثالاً لغيرهم، وتخفيض علاوات الموظفين إلى جانب تجميد التعيينات. على إثر ذلك، وصل الوفر السنوي إلى 12 مليون دولار في عام واحد، والتمكن من خفض العجز من 14 مليون إلى 8 ملايين دولار. وتم استعادة الاستقطاعات بالكامل في عام 1961، وفي نهاية ذلك العام تمكنت سنغافورة من تحقيق التوازن في الميزانية ولم تعد العائدات تتناقص.  تبنىّ لي مشروع بناء شامل لتطوير سنغافورة وإعمارها، مع التركيز على جعلها رائدة في الصناعات الالكترونية والبتروكياوية، الخدمات المالية، صناعات النفط وتكريره وإنتاج المطاط، المواد الغذائية المصنعة وصناعات إصلاح السفن وبناء المنصات البحرية وهندسة المعادن. كما أولى اهتماما خاصا للقطاع السياحي وصناعة المعارض التي كانت ناشئة في آسيا، لتصبح رافدا رئيسا من روافد الاقتصاد لاحقاً.  بفعل سياسات التخطيط والتطوير الصارمة وخصخصة الخدمات الحكومية وتمكين القطاع الخاص من قيادة دفة التنمية، مكنت لي من إيجاد حلول جوهرية لمشكلات البطالة والاضرابات العمالية وندرة الاستثمارات وإزعاج الشيوعيين والتضخم السكاني السريع، ليمتلك الآن 85 % من السنغافوريين منازلهم الخاصة، ومعدل البطالة لا يتجاوز حاليا في أسوأ أحواله 2.5 %، وليقفز الناتج المحلي الإجمالي من 7 مليارات دولار في 1960 إلى أكثر من 360 مليار دولار في الألفية الجديدة، ومضاعفة دخل الفرد السنغافوري من 435 دولارا فقط إلى 80 ألف دولار سنويا لنفس الفترة، ليكون ضمن الأعلى على مستوى آسيا والعالم.  قصة نجاح سنغافورة نراها تتكرر في مملكة البحرين، فبفضل دعم عاهل البلاد المعظم، والمتابعة المستمرة لولي العهد رئيس مجلس الوزراء وذراعه الأيمن وزير المالية والاقتصاد الوطني، بدأت المملكة تقطف ثمار برنامج التوازن المالي بتسجيل أول فائض في موازنتها العامة منذ 14 عاماً ليبلغ 33 مليون دينار في النصف الأول من هذا العام، مدعوماً بارتفاع الإيرادات النفطية المحصلة بنسبة 50 %، وارتفاع الإيرادات غير النفطية بنسبة 57 %، ورفع نسبة القيمة المضافة من 5 % إلى 10 %، مما أدى إلى تقليل الاقتراض لتمويل الميزانية، وبالتالي تسجيل أول انخفاض في الدين العام بنحو 300 مليون دينار، ليصل إلى 14.31 مليار دينار لشهر يونيو 2022 مقارنة مع 14.61 مليار دينار لشهر يونيو 2021.  تحقيق التوازن المالي بحلول عام 2024 أصبح أقرب من أي وقت مضى، فمع تنفيذ الأولويات الخمس لخطة التعافي الاقتصادي واستراتيجياتها الطموحة والالتزام ببرنامج التوازن المالي وإطلاق مشاريع استراتيجية بقيمة تفوق 30 مليار دولار أمريكي، تتجه البحرين بخطى ثابتة لتكون “سنغافورة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.

رئيس قسم الاقتصاد