تأملات في مذكرات نجيب محفوظ

| رضي السماك

تمر اليوم الذكرى السادسة عشرة على رحيل الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل للآداب 1988، وبهذه المناسبة الأليمة و على صلة بمقالنا المنشور الثلاثاء الماضي تحت عنوان " الذاكرة والمذكرات" والذي تضمن نقداً للمذكرت التي تصدر لشخصيات أدبية أو فنية أوسياسية تخلو من تأريخ محطات مهمة في سيرة حيواتهم، ولو بشكل تقربي،إذا ما تعذر تذكر تاريخها على وجه الدقة، تحضرني هنا مذكرات الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ والتي دوّنها الناقد الأدبي والصحفي المصري الراحل رجاء النقاش، تحت عنوان "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ"، إذ فاته أيضاً أن يسأله عن تاريخ وقائع ومحطات مهمة من سيرته رواها له محفوظ، لكن هذا لا يُقلل بطبيعة الحال من أهمية وقيمة هذه المذكرات، والتي نرى هي الأشمل والأفضل في ترتيب فصولها وموضوعاتها، والتي حرص النقاش -توخياً منه للدقة- أن يطلق علىيها في عنوان كتابه "صفحات من مذكرات… "بمعنى أنها ليست المذكرات الشاملة الكاملة عن حياته من المهد إلى اللحد، كما كانت إجابات محفوظ فيها هي الأجرأ قياساً بما صدر من مذكرات حوارية سابقة اُجريت معه، ولعل من أهمها : "نجيب محفوظ يتذكر" لجمال الغيطاني "، و " أنا نجيب محفوظ" لابراهيم عبد العزيز ، و" نجيب محفوظ: سيرة ذاتية وأدبية" لحسين عيد، " و" نجيب محفوظ سيرة وطن" لابراهيم عبد العزيز . ولعل النقاش أطلع مسبقاً على هذه المذكرات، ومن ثم أستفاد من ثغراتها في حواره مع محفوظ للخوض معه في قضايا غير مطروقة أو محطات بحاجة لتوسع في توضيحها. واللافت أن محفوظ كان يخالجه نفوراً من فكرة التفرغ لكتابة مذكراته،حيث أتذكر  أن العديد من المقابلات التلفزيونية التي اُجريت معه وتابعتها كان يطارده هذا السؤال: لماذا لا تكتب مذكراتك يااُستاذ نجيبب؟ وكان يجيب -بلباقته المعهودة وتواضعه- بأنه ليس شخصية عامة أو سياسية مهمة ليكتب مذكراته، وأن كل مايود أن يكتبه عن سيرة حياته مبثوثاً في أدوار بعض شخوص رواياته،أو في المقابلات الصحفية التي تجرى معه، أو لعله كان يقترب من الحقيقة، التي لا يفهمها إلا اللبيب، فيقول ما مؤداه: لكي تكون مذكرات حياتي شاملة وحقيقية ينبغي أن أتعرض إلى شخصيات عائلية مازالت على قيد الحياة، فما ذنبهم لكي أتناول جزءاً من خصوصياتهم؟ أكثر من ذلك فقد لاحظت في مقابلات تلفزيونية اخرى يلاحقه هذا المذيع أو تلك المذيعة بأسئلة محرجة، إما عن زوجته أو عن ابنتيه، أو حتى عن أخص خصوصياته العادية، وما كان من اللائق-في تقديري- أن يُسأل عنها،ومن ذلك على سبيل المثال: لماذا لا ترتدي  الكرفتة(ربطة العنق)؟ لماذا لا تسافر إلى الخارج؟ رغم أنه أجاب على هذا السؤال مرات عديدة سابقة، ومع ذلك يجيب عنها محفوظ بطيب خاطر. ولفرط تواضعه لم ألحظ قط في كل الحوارات التي اُجريت معه وتسني لي متابعتها، سواء في الصحافة أو في الإعلام المرئي والمسموع، أجاب بعبارة: أعتذر عن الإجابة عن هذا السؤال، بل حتى عند تطرقه لزملائه من كبار الروائيين والكتّاب لم يصدر عنه قط ماينم عن غيرة أو حسد أو أنزعاج من منافسته في النجومية،وهو مرض شائع كما نعلم لدى الكثيرين من الكتّاب والمثقفين العرب. والحاصل أن نجيب محفوظ أدلى بأهم صفحات من مذكراته إلى الناقد الكبير رجاء النقاش في وقت بالغ الدقة، إذ سُجلت على أمتداد سنة ونيف بمعدل أربع جلسات إسبوعياً تستغرق كلاً منها ثلاث ساعات، بين صيف 1990 وأواخر  وأواخر 1991، وذلك قبيل المحاولة الأرهابية لاغتياله في 1995 التي شلت نشاطه الكتابي تماماً، والكتاب لم يصدر إلا في أواخر القرن،وبعد سنوات قليلة من العقد الأول للألفية الجديدة رحل عن عالمنا نجيب محفوظ( 2006)، ثم لحقه إلى جوار ربه كاتب سيرته الأهم رجاء النقاش(2008) .   لقد كان نجيب محفوظ،المولود 1911،شاهداً بحق على عصره الذي شغل جُل القرن العشرين، وعاصر تحولاته ودونها في كتاباته الروائية والصحفية، وبضمنها تحولات مدينته القاهرة اجتماعيا وسياسيا بين حقبتين مميزتين،شاءت الأولى أن تشغل بالضبط تقريباً النصف الأول من القرن( المرحلة الملكية) ، وشاءت الثانية أن تشغل تقريبا النصف الثاني من القرن نفسه( المرحلة الجمهورية)، ولولا أنه أتبع نظاماً صارماً لم يحد عنه، سواء في غذائه أو في تنظيم يومياته، وبضمنها مواعيد الكتابة والقراءة، لربما لما تمكن أن يخلّف لنا هذا الأرث العظيم من أجناس أعماله الكتابية والإبداعية، ولولا أيضاً  التداعيات الصحية التي ألمت به جراء إصابته الخطيرة من محاولته أغتياله الآثمةلربما ناهز القرن في عمره.