أوكرانيا بين واقعية كيسنجر وأحلام سورس

| إميل أمين

خلال مداخلته عبر نظام الفيديو كونفرنس مع فعاليات منتدى دافوس الدولي، تكلم بطريرك السياسة الخارجية الأميركية، هنري كيسنجر، بكلام مثير للجدل، فقد أكد ضرورة أن تبقى أوكرانيا دولة محايدة، وأنه ربما يتعين على حكومة زيلنسكي أن تغض الطرف عن الجزء الشرقي منها، أي إقليم دونباس. من ناحية ثانية، حملت نصائح الرجل للناتو دعوة لليقظة وعدم التفكير في إلحاق إهانة بروسيا، أو محاولة إذلالها، والتفكير في هزيمتها. أطلقت تصريحات كيسنجر جدلا فكريا كبيرا، لا في أوكرانيا فحسب، بل في الداخل الأميركي، والأوروبي، هذا على الرغم من أن الرجل الذي يقترب من المئة عام اليوم، أدان فكرة الغزو الروسي لأوكرانيا جملة وتفصيلا. هل في الأمر لغز ما ملفوف داخل أحجية، وفي سياق سر كبير، كما يقول كيسنجر نفسه عن كثير من القضايا الدولية؟ الثابت أنه لكي نفهم ما قاله كيسنجر، ولماذا قاله، لابد لنا من الرجوع إلى مراحل سابقة من حياته وتفكيره، عطفا على أدواره السياسية في القارة الآسيوية. باختصار غير مخل يعد كيسنجر أحد أساطين السياسة الواقعية الأميركية، وصاحب مبدأ دع الوقت يعالج الكثير من المشاكل، وقد مارس هذا الفن من فنون السياسة الدولية في منطقة الشرق الأوسط، غداة حرب السادس من أكتوبر عام 1973.  كيسنجر هو رجل دبلوماسية البينج بونج، في أوائل سبعينات القرن المنصرم، والتي هدفت إلى فصل الصين الشعبية عن الاتحاد السوفييتي، حيث كان الغرض الرئيس للولايات المتحدة الأميركية هو إضعاف حلف وارسو، وتحقيق أكبر نصر ممكن لحلف الناتو. اليوم وبعد خمسة عقود يبدو المشهد قراءة في المعكوس، إذ إن روسيا الاتحادية ليست الهدف الاستراتيجي المنشود إصابته في القلب هذه المرة، بل الصين، وعليه فإن ما فاه به كيسنجر لا يعني مجاملة روسيا أو الوقوف في صفها، بل محاولة إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن، حتى لا يتعزز الحلف الروسي – الصيني المتنامي بقوة والصاعد في أعلى عليين.  هل ما جاء به كيسنجر هو نوع من أنواع الجسر الذهبي لروسيا؟.  قصة هذا الجسر مردها إلى الجنرال الروماني سيبيوس أفريكانوس، وفيها أنه حين كان يحاصر جيش أحد الأعداء، كان يفعل ذلك من ثلاث جهات، ويترك له الجهة الرابعة من غير أية حراسات ليحفظ ماء وجهه، ويتوقف نزيف الخسائر على الجانبين، وغالب الأمر أن أفريكانوس أخذ الفكرة من المفكر الصيني الأشهر، صن تزو، وقد أشار من قبل إلى أنه: "إن أردت الانتصار على عدوك، فإنه يجب عليك أن توفر له جسرا للانسحاب".  هل يتفق جورج سوروس مع كيسنجر في رؤيته للوضع الروسي الأوكراني؟ سورس هو الملياردير الأميركي المجري الأصل، الذي وزع غالبية ثروته على دول العالم، بهدف دعم وزخم ما عرف بالثورات الملونة، وقد نال العالم العربي جزءا من نصيب سيئ خلال ما عرف بزمن الربيع العربي المغشوش.  سورس يرى حتمية أن يلحق الغرب الهزيمة بقوات بوتين في أسرع وقت ممكن، وأن هزيمة بوتين هي أفضل طريق للحفاظ على الحضارة الحرة. والمؤكد أنه ما بين واقعية كيسنجر وأحلام سورس، تبقى الأزمة قائمة، ولا تبدو في الأفق حتى الساعة ملامح نهاية الأزمة، الأمر الذي يزيد من ضبابية المشهد العالمي.