مجلس الرئيس .. عظّم الله أجرك يا وطن

| د. عبدالله الحواج

فقدت‭ ‬البحرين‭ ‬رجلًا‭ ‬من‭ ‬أوفى‭ ‬الرجال،‭ ‬رجلًا‭ ‬من‭ ‬أخلص‭ ‬وأشجع‭ ‬الرجال،‭ ‬رجلًا‭ ‬من‭ ‬أنبل‭ ‬وأتقى‭ ‬الرجال،‭ ‬ففي‭ ‬غمرة‭ ‬من‭ ‬الأسى‭ ‬والألم،‭ ‬فُجعت‭ ‬البحرين‭ ‬بل‭ ‬والأمة‭ ‬العربية‭ ‬والإسلامية‭ ‬وأمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬جمعاء‭ ‬بنبأ‭ ‬رحيل‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬وأسكنه‭ ‬فسيح‭ ‬جناته‭ ‬وألهمنا‭ ‬جميعًا‭ ‬عظيم‭ ‬الصبر‭ ‬وجليل‭ ‬السلوان‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬الأيام‭ ‬القليلة‭ ‬الماضية‭ ‬بمثابة‭ ‬الاختبار‭ ‬الأصعب‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬حيث‭ ‬السؤال‭ ‬الخارج‭ ‬عن‭ ‬صحة‭ ‬الأب‭ ‬الفقيد‭ ‬لم‭ ‬يحصل‭ ‬سوى‭ ‬على‭ ‬رجع‭ ‬الصدى،‭ ‬والاتصال‭ ‬بالمقربين‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬نجله‭ ‬الوفي‭ ‬نائب‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬خليفة‭ ‬مستفسرًا‭ ‬عن‭ ‬صحة‭ ‬الرئيس‭ ‬لم‭ ‬يحالفه‭ ‬سوى‭ ‬رد‭ ‬من‭ ‬كلمتين‭: ‬شكرًا‭ .. ‬الحمد‭ ‬لله‭.‬

‭ ‬هنا‭ ‬بدأ‭ ‬القلق‭ ‬يساورني،‭ ‬وبدأت‭ ‬أشعر‭ ‬أن‭ ‬خبرًا‭ ‬حزينًا‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬وأن‭ ‬ألمًا‭ ‬معتصرًا‭ ‬سوف‭ ‬يصيب‭ ‬النفس‭ ‬وأية‭ ‬نفس‭ ‬بغصة‭ ‬عمر‭ ‬ومرارة‭ ‬بعد‭ ‬مسيرة،‭ ‬ودموع‭ ‬شعب‭ ‬بعد‭ ‬تاريخ،‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬الأرض‭ ‬التي‭ ‬حملتنا‭ ‬معًا،‭ ‬وأن‭ ‬المجالس‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يزينها‭ ‬بحكمته‭ ‬الفارقة،‭ ‬ويطرزها‭ ‬بتوجيهاته‭ ‬السديدة،‭ ‬والتظاهرات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬تخطت‭ ‬الحدود‭ ‬إلى‭ ‬الأشقاء‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭ ‬المجاورة،‭ ‬وتجاوزت‭ ‬الحواجز‭ ‬مع‭ ‬أمة‭ ‬العرب‭ ‬والمسلمين‭ ‬بل‭ ‬وإلى‭ ‬أمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬جمعاء‭ ‬تواجه‭ ‬أكبر‭ ‬اختبار‭ ‬في‭ ‬تاريخها،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬تلك‭ ‬الحيوية‭ ‬وذلك‭ ‬الدأب،‭ ‬وهذه‭ ‬الجدارة‭ ‬ربما‭ ‬آن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تترجل،‭ ‬وربما‭ ‬آن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نبكيها،‭ ‬وربما‭ ‬حان‭ ‬موعد‭ ‬الفراق‭ ‬وأي‭ ‬فراق‭.‬

وبالفعل‭ ‬لم‭ ‬يكذب‭ ‬قلبي‭ ‬فما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬ماكينة‭ ‬خيالاتي‭ ‬الحزينة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬وهمًا،‭ ‬وما‭ ‬باغتتني‭ ‬به‭ ‬مشاعر‭ ‬الخوف‭ ‬والأرق‭ ‬الأسطوري‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مجرد‭ ‬أحاسيس‭ ‬أو‭ ‬وساوس‭ ‬قهرية،‭ ‬لكنها‭ ‬الحقيقية‭ ‬المؤلمة،‭ ‬فالرئيس‭ ‬قرّر‭ ‬أن‭ ‬يغادر‭ ‬في‭ ‬صمت،‭ ‬في‭ ‬هدوء،‭ ‬في‭ ‬حنكة‭ ‬وحكمة‭ ‬وكياسة،‭ ‬والأب‭ ‬الحكيم‭ ‬آثر‭ ‬أن‭ ‬ينزوي‭ ‬بعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬في‭ ‬البناء‭ ‬والعطاء‭ ‬والوفاء‭ ‬والإباء‭ ‬وسبر‭ ‬أغوار‭ ‬التحدي‭ ‬وكل‭ ‬تحدٍّ‭.‬

رحل‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬وترك‭ ‬لنا‭ ‬أثرًا‭ ‬بعد‭ ‬عين،‭ ‬وتراثًا‭ ‬من‭ ‬الأخلاق‭ ‬الحميدة،‭ ‬والثوابت‭ ‬الوطنية‭ ‬التليدة،‭ ‬والأحلام‭ ‬التي‭ ‬تحققت‭ ‬يوميًّا‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الخلود‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضجيج‭ ‬أو‭ ‬شوشرة‭ ‬أو‭ ‬كلام‭ ‬مُباع‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬أعطى‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬لبلاده‭ ‬وأمته‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُعَد،‭ ‬أو‭ ‬يُحصى،‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نراه‭ ‬فقط‭ ‬بالعين‭ ‬المجردة،‭ ‬أو‭ ‬نضع‭ ‬أيدينا‭ ‬عليه‭ ‬لنقول‭: ‬لقد‭ ‬أنبتت‭ ‬السنابل‭ ‬كلها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬“وضع‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬مائة‭ ‬حبة”،‭ ‬فجاءت‭ ‬لنا‭ ‬بالإنجازات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والضمانات‭ ‬الوطنية،‭ ‬وعمل‭ ‬يدًا‭ ‬بيد‭ ‬مع‭ ‬رائد‭ ‬المشروع‭ ‬الإصلاحي‭ ‬الكبير‭ ‬عاهل‭ ‬البلاد‭ ‬المفدى‭ ‬حضرة‭ ‬صاحب‭ ‬الجلالة‭ ‬الملك‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه‭ ‬ومع‭ ‬سمو‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه‭ ‬صونًا‭ ‬لنماء‭ ‬وأمن‭ ‬وأمان‭ ‬وطن،‭ ‬وعرفانًا‭ ‬وإتقانًا‭ ‬لكل‭ ‬اللغات‭ ‬التي‭ ‬تُميز‭ ‬عائلة‭ ‬البحرين‭ ‬المالكة‭ ‬وشعبها‭ ‬الطيب‭ ‬الأبي‭ ‬عما‭ ‬دونه‭ ‬من‭ ‬شعوب‭ ‬وأوطان‭.‬

‭ ‬فباسم‭ ‬الرحيل‭ ‬الكبير‭ ‬وهو‭ ‬يأتي‭ ‬إلينا‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬بعيد،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الرئيس‭ ‬الفقيد‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬العلاج‭ ‬الأخيرة‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬وضعنا‭ ‬جميعًا‭ ‬نرفع‭ ‬أعلى‭ ‬رايات‭ ‬الأحزان‭ ‬والإرادة‭ ‬التي‭ ‬غرسها‭ ‬فينا‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان،‭ ‬فترك‭ ‬من‭ ‬خلفه‭ ‬خير‭ ‬خلف‭ ‬من‭ ‬أنجاله‭ ‬الأوفياء،‭ ‬سمو‭ ‬الشيخ‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬خليفة‭ ‬نائب‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭ ‬وسمو‭ ‬الشيخ‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬خليفة‭ ‬مستشار‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬الأمير‭ ‬خليفة‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬وأحفاده‭ ‬الكرماء،‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬فيه‭ ‬بذرة‭ ‬من‭ ‬علم،‭ ‬ورسالة‭ ‬من‭ ‬أمل‭.‬

‭ ‬لنقف‭ ‬جميعًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬التاريخية‭ ‬الفارقة‭ ‬أمام‭ ‬التحدي‭ ‬لنكون‭ ‬رجالًا‭ ‬مخلصين‭ ‬لله‭ ‬وللوطن،‭ ‬نستلهم‭ ‬من‭ ‬خصال‭ ‬سموه‭ ‬الدروس‭ ‬والعبر،‭ ‬ونمضي‭ ‬على‭ ‬طريقه‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬والتفكر‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬الناس‭ ‬والرعية‭ ‬والجيران‭ ‬والأشقاء‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬ننبذ‭ ‬التفرقة‭ ‬والانقسام،‭ ‬والتمييز‭ ‬ورفض‭ ‬الآخر،‭ ‬والذود‭ ‬عن‭ ‬وحدة‭ ‬الأمة‭ ‬وتوطيد‭ ‬أواصر‭ ‬التعاون‭ ‬بين‭ ‬السلطات،‭ ‬وصون‭ ‬مملكة‭ ‬الأمن‭ ‬والأمان،‭ ‬الوداعة‭ ‬والاطمئنان،‭ ‬وحماية‭ ‬منجزات‭ ‬تعبنا‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيقها،‭ ‬ومكتسبات‭ ‬بذلنا‭ ‬لوجاهة‭ ‬مقصدها‭ ‬الغالي‭ ‬والنفيس‭.‬

الكلمة‭ ‬الآن‭: ‬للوفاء‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬الوفاء،‭ ‬لرجل‭ ‬من‭ ‬أوفى‭ ‬الرجال،‭ ‬لرجل‭ ‬من‭ ‬أشجع‭ ‬وأخلص‭ ‬الرجال،‭ ‬وإنا‭ ‬لله‭ ‬وإنا‭ ‬إليه‭ ‬راجعون‭.‬