أسماء “أساتذة بناء السفن البحرينيين” تُحفظ في سجل الهوية

الغوص في أعماق “الحلم”... ريحة الآباء والأجداد

| سعيد محمد من النعيم والمحرق

ثمة‭ ‬شعور‭ ‬خاص‭ ‬يملأ‭ ‬نفسك‭ ‬وأنت‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬التيتون‭ ‬لبناء‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬النعيم،‭ ‬وستحظى‭ ‬بكوب‭ ‬من‭ ‬الشاي‭ ‬“المخدر”‭ ‬إن‭ ‬سنحت‭ ‬لك‭ ‬الفرصة‭ ‬للقاء‭ ‬الحاج‭ ‬محمد‭ ‬نجيب‭ ‬التيتون،‭ ‬شيخ‭ ‬القلاليف‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬أو‭ ‬وقفت‭ ‬لبضع‭ ‬لحظات‭ ‬تتأمل‭ ‬بقايا‭ ‬سفن‭ ‬متعددة‭ ‬الأحجام‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬المياه‭ ‬الضحلة‭ ‬أو‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬غادرت‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬لا‭ ‬يظهر‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬بقايا‭ ‬هيكلها‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬حسن‭ ‬ومحمد‭ ‬القلاليف‭ ‬في‭ ‬المحرق،‭ ‬وأخرى‭ ‬تقف‭ ‬شامخة‭ ‬رغم‭ ‬شيخوختها،‭ ‬وثالثة‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬الشباب‭.. ‬شامخة‭ ‬قوية‭ ‬مذهلة‭ ‬وقد‭ ‬تمخر‭ ‬عباب‭ ‬البحر‭ ‬يومًا‭ ‬ما‭.. ‬لتبدأ‭ ‬مشوار‭ ‬هوية‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬برًا‭ ‬وبحرًا،‭ ‬مهمة‭ ‬بـ‭ ‬“ريحة‭ ‬الأجداد‭ ‬والآباء”‭.‬

في‭ ‬عمارة‭ ‬“عبدالله‭ ‬بن‭ ‬بحر”،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬تعلم‭ ‬بعض‭ ‬الأساتذة‭ ‬القلافة‭ ‬وبناء‭ ‬السفن،‭ ‬لكن‭ ‬التاريخ‭ ‬يشهد‭ ‬بأن‭ ‬منطقة‭ ‬النعيم‭ ‬هي‭ ‬المدرسة‭ ‬التي‭ ‬علمت‭ ‬القلاليف،‭ ‬وكانت‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تعقد‭ ‬الصفقات‭ ‬مع‭ ‬النواخذة‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المحرق‭ ‬وسترة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬التحديد‭.‬

“القلافة”‭ ‬تبتسم‭ ‬لك

في‭ ‬زاوية‭ ‬من‭ ‬المشهد،‭ ‬حين‭ ‬تقف‭ ‬في‭ ‬صمت‭ ‬المكان‭ ‬وتتأمل‭ ‬“البانوش‭ ‬الميت”‭ ‬الذي‭ ‬تقف‭ ‬داخله‭ ‬أو‭ ‬حوله،‭ ‬تذهب‭ ‬بك‭ ‬الأفكار‭ ‬بمخيلة‭ ‬حكايا‭ ‬الغوص‭ ‬والهولو‭ ‬واليامال‭ ‬وفيلم‭ ‬“بس‭ ‬يا‭ ‬بحر”‭  ‬و”نهمة‭ ‬سالم‭ ‬العلان‭ ‬وأحمد‭ ‬بو‭ ‬طبنية”‭ ‬وإيقاع‭ ‬الفجري‭ ‬وبريق‭ ‬اللؤلؤ‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬أخرى،‭ ‬وبين‭ ‬ضجيج‭ ‬الآلات‭ ‬وحركة‭ ‬العمال‭ ‬ودوران‭ ‬المناشير‭ ‬الكهربية،‭ ‬تأخذك‭ ‬الأفكار‭ ‬إلى‭ ‬ابتسامة‭.. ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬شعور‭ ‬آخر‭ ‬بأن‭ ‬مهنة‭ ‬“القلافة”‭ ‬تبتسم‭ ‬لك‭ ‬رغم‭ ‬آلامها‭ ‬بأنها‭ ‬باقية،‭ ‬وأن‭ ‬هذه‭ ‬العمارة‭ ‬التي‭ ‬تحيطها‭ ‬الأخشاب،‭ ‬المستوردة‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬ما‭ ‬مضى‭ ‬وتكدست،‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬من‭ ‬أشجار‭ ‬“الغاف”‭.. ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تعرف‭ ‬أحيانًا‭ ‬باللهجة‭ ‬العامية‭ ‬“شجرة‭ ‬الجنغلي”‭.. ‬

هي‭ ‬عمارة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬عمارات‭ ‬قليلة‭ ‬تتحدى‭ ‬الزمن‭ ‬لتسجل‭ ‬أسماء‭ ‬“الأساتذة‭ ‬بناء‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬سجل‭ ‬الهوية‭ ‬الوطنية”،‭ ‬وتخاطب‭ ‬نفسك‭ ‬لتقول‭: ‬حسنًا‭.. ‬لم‭ ‬تقصر‭ ‬الدولة‭ ‬ممثلة‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬شؤون‭ ‬الإعلام‭ ‬وكذلك‭ ‬هيئة‭ ‬البحرين‭ ‬للثقافة‭ ‬والآثار‭ ‬في‭ ‬حفظ‭ ‬حقوقهم‭ ‬وحرفتهم،‭ ‬لكن،‭ ‬هل‭ ‬هذه‭ ‬الصناعة‭ ‬ستبقى‭ ‬صامدة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التطور‭ ‬المذهل‭ ‬في‭ ‬الصناعات‭ ‬البحرية‭ ‬وبناء‭ ‬السفن‭ ‬الحديثة؟‭ ‬أم‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬“ملكة”‭ ‬يبجلها‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬خصوصًا؟

أنقذوه‭ ‬من‭ ‬الاندثار

هي‭ ‬مهنة‭ ‬مبجلة‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬أكده‭ ‬شيخ‭ ‬القلاليف‭ ‬الحاج‭ ‬محمد‭ ‬نجيب‭ ‬التيتون‭ ‬الذي‭ ‬قضى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬60‭ ‬عامًا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬وبنى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬1400‭ ‬سفينة‭ ‬متعددة‭ ‬الأحجام‭ ‬والأسماء،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬الأصوات‭ ‬التي‭ ‬ارتفعت‭ ‬لتنادي‭ ‬بضرورة‭ ‬قيام‭ ‬الدولة‭ ‬بجهد‭ ‬أكبر‭ ‬ورؤية‭ ‬واضحة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المهنة‭ ‬من‭ ‬الاندثار،‭ ‬وقد‭ ‬أورد‭ ‬هذه‭ ‬الرسالة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬تاريخ‭ ‬صناعة‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬والخليج‭.. ‬أحداث‭ ‬وأخبار‭ ‬وحكايات‭).‬

ويستذكر‭ ‬البعض‭ ‬موقفًا‭ ‬له‭ ‬مع‭ ‬وزير‭ ‬الإعلام‭ ‬الأسبق‭ ‬جهاد‭ ‬بوكمال‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬الكتاب‭ ‬بالعام‭ ‬2008‭ ‬عندما‭ ‬أهداه‭ ‬نسخته‭ ‬وقال‭ ‬له‭ ‬“تراث‭ ‬صناعة‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬يتطلب‭ ‬الإنقاذ،‭ ‬وينتظر‭ ‬تحركًا‭ ‬لحمايته‭ ‬من‭ ‬الاندثار”،‭ ‬وكان‭ ‬الدافع‭ ‬الأول‭ ‬له‭ ‬ولمن‭ ‬يعاضده‭ ‬من‭ ‬العائلة‭ ‬والمعارف‭ ‬والحريصين‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬البحرين‭ ‬هو‭ ‬جذب‭ ‬الانتباه‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الحرفة،‭ ‬فقد‭ ‬مضى‭ ‬أساتذتها‭ ‬ومشاهير‭ ‬صناعها‭ ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬إلا‭ ‬هو‭ ‬ليواجه‭ ‬مسؤولية‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكنز،‭ ‬وكل‭ ‬مبتغاه،‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬يد‭ ‬الدولة‭ ‬إليه،‭ ‬فتأخذ‭ ‬بيده‭ ‬وتستمع‭ ‬له‭ ‬وتقرأ،‭ ‬حتى‭ ‬يبقى‭ ‬هذا‭ ‬الكنز‭ ‬الثمين‭ ‬محفوظًا‭ ‬مصانًا”‭.‬

هؤلاء‭ ‬العزوة‭...

سجل‭ ‬أشهر‭ ‬قلاليف‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬يحمل‭ ‬بين‭ ‬طياته‭ ‬أسماء‭ ‬مثل‭: ‬ياقوت‭ ‬محبوب،‭ ‬محمد‭ ‬القوتي،‭ ‬مكي‭ ‬عبدالنبي،‭ ‬بيت‭ ‬بوعلي‭ ‬القلاف،‭ ‬بيت‭ ‬عبدالأمير‭ ‬القلاف،‭ ‬محمد‭ ‬العريفي،‭ ‬التيتون،‭ ‬سلمان‭ ‬بودندن،‭ ‬عبدالله‭ ‬بحر،‭ ‬حسين‭ ‬بوحمد،‭ ‬سلمان‭ ‬بحر،‭ ‬الغانمي،‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬المسامح،‭ ‬وحسين‭ ‬بوحمد،‭ ‬ولربما‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬التوثيق‭ ‬أسماء‭ ‬أخرى،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هؤلاء‭ ‬“العزوة”،‭ ‬بنوا‭ ‬مئات‭ ‬السفن‭ ‬في‭ ‬عمارات‭ ‬بالمنامة‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬النعيم،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬كونها‭ ‬والمنامة‭ ‬هي‭ ‬الرئة‭ ‬البحرية‭ ‬منذ‭ ‬القدم‭ ‬للقلاليف‭ ‬وعيالهم‭ ‬وأحفادهم،‭ ‬إذ‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬وحتى‭ ‬اليوم،‭ ‬يمكنك‭ ‬مشاهدة‭ ‬أطنان‭ ‬الأخشاب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تستورد‭ ‬من‭ ‬باكستان‭ ‬والهند‭ ‬كخشب‭ ‬الصنوبر‭ ‬الذي‭ ‬يتميز‭ ‬بمقاومة‭ ‬الرطوبة،‭ ‬وكذلك‭ ‬خشب‭ ‬الساج‭.‬

الآن،‭ ‬يمكنك‭ ‬أن‭ ‬تشاهد‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬حسن‭ ‬ومحمد‭ ‬القلاف‭ ‬وبن‭ ‬بحر‭ ‬في‭ ‬مرفأ‭ ‬المحرق‭ ‬سفنًا‭ ‬تستعد‭ ‬ربما‭ ‬للإبحار‭ ‬قريبًا‭ ‬من‭ ‬البوانيش‭ ‬الضخمة،‭ ‬وفي‭ ‬الغالب‭ ‬تتراوح‭ ‬أسعار‭ ‬السفن‭ ‬الخشبية‭ ‬بين‭ ‬50‭ ‬و100‭ ‬ألف‭ ‬دينار‭ ‬حسب‭ ‬أحجامها،‭ ‬وقد‭ ‬تتراوح‭ ‬مدة‭ ‬بنائها‭ ‬بين‭ ‬قرابة‭ ‬عام‭ ‬كامل‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬تلك‭ ‬السفن‭ ‬الكبيرة‭ ‬التي‭ ‬تصل‭ ‬أوزانها‭ ‬إلى‭ ‬80‭ ‬طنًا‭ ‬وعمقها‭ ‬12‭ ‬قدمًا‭ ‬وطولها‭ ‬80‭ ‬قدمًا‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬وعرضها‭ ‬بين‭ ‬25‭ ‬و30‭ ‬قدما‭.‬

عمايرنا‭.. ‬نواخذتنا

مسك‭ ‬الختام‭ ‬متصفحًا‭ ‬كتاب‭ ‬شيخ‭ ‬القلاليف‭ ‬“بوفراس”‭ ‬الحاج‭ ‬محمد‭ ‬نجيب‭ ‬التيتون،‭ ‬فهذا‭ ‬الكتاب‭ ‬يحكى‭ ‬مسيرة‭ ‬حوالي‭ ‬5‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬وفي‭ ‬دفتي‭ ‬207‭ ‬صفحات‭ ‬بأجزاء‭ ‬الكتاب‭ ‬الأربعة،‭ ‬وثق‭ ‬التيتون‭ ‬أنواع‭ ‬السفن‭ ‬والمحركات‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬وأدوات‭ ‬القلاف‭ ‬والمواد‭ ‬المستخدمة‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬السفن‭ ‬وأساتذة‭ ‬الرعيل‭ ‬الأول‭ ‬و‭ ‬“عمايرهم”‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬والخليج‭ ‬وأسماء‭ ‬القلاليف‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬على‭ ‬“الجرخ”،‭ ‬وهي‭ ‬عملية‭ ‬النقش‭ ‬على‭ ‬خشب‭ ‬المركب،‭ ‬كما‭ ‬تناول‭ ‬أسماء‭ ‬النواخذة‭ ‬وسفنهم‭.. ‬ثمة‭ ‬شعور‭ ‬خاص،‭ ‬أليس‭ ‬كذلك؟