فريد رمضان للسكلر: مرحبًا بك وارحل سريعًا

| كتبت: هناء مرهون

في‭ ‬تلك‭ ‬الظلمة‭ ‬الحالكة،‭ ‬تلك‭ ‬الأقدام‭ ‬السريعة‭ ‬والشعر‭ ‬الأسود‭ ‬المتطاير‭ ‬الذي‭ ‬تأخذ‭ ‬حلكة‭ ‬السماء‭ ‬منه‭ ‬حلكة‭ ‬إضافية،‭ ‬الأنفاس‭ ‬السريعة‭ ‬العين‭ ‬التي‭ ‬تنظر‭ ‬للأمام،‭ ‬الذراعان‭ ‬الملتفان‭ ‬حوله‭ ‬بعناية‭ ‬ألمه‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬طعنات‭ ‬متواصلة‭ ‬من‭ ‬مجهول‭ ‬لا‭ ‬يُرى‭ ‬والأم‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬بسرعة‭ ‬لا‭ ‬تقف‭ ‬ولا‭ ‬تهدأ‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مستوصف‭ ‬المحرق‭ ‬هناك‭ ‬فقط‭ ‬تلقي‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬ثقل‭ ‬ألمها‭ ‬على‭ ‬أقرب‭ ‬سرير‭ ‬ليأتي‭ ‬الطبيب‭ ‬للمعاينة‭... ‬

مرارا‭ ‬وتكرارا‭ ‬كان‭ ‬المشهد‭ ‬نفسه‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬عاما‭ ‬بعد‭ ‬عام،‭ ‬يكبر‭ ‬الألم‭ ‬ويكبر‭ ‬فريد،‭ ‬تكبر‭ ‬الأم‭  ‬ولا‭ ‬يصغر‭ ‬ألم‭ ‬فريد‭. ‬

طفولة‭ ‬البحر‭ ‬والألم‭ ‬والموت

صاحب‭ ‬الصورة‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬الكاتب‭ ‬والأديب‭ ‬والسيناريست‭  ‬فريد‭ ‬رمضان‭  ‬ذو‭ ‬البشرة‭ ‬الصفراء‭ ‬الشاحبة‭ ‬الأسنان‭ ‬المتراصة‭ ‬والعيون‭ ‬المتسامحة‭ ‬مع‭ ‬النفس‭ ‬والآخرين‭ ‬وتلك‭ ‬النظارة‭ ‬التي‭ ‬تتكدس‭ ‬في‭ ‬طبقاتها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الصور‭ ‬والكلمات‭ ‬والنجاحات‭ ‬والدموع‭ ‬أيضا،‭ ‬هو‭ ‬طفلٌ‭ ‬صغير‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬عائلة‭ ‬شبه‭ ‬أمية،‭ ‬في‭ ‬المحرق‭ ‬في‭ ‬الرابع‭ ‬من‭ ‬نوفمبر‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬1961‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬بسيط‭ ‬لأسرة‭ ‬بسيطة‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬خامس‭ ‬أبنائها‭. ‬

‭ ‬يقول‭ ‬فريد‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬مليئة‭ ‬بالمصادفات‭ ‬وقد‭ ‬أخذته‭ ‬الصدفة‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬والقراءة،‭ ‬حيث‭ ‬وجد‭ ‬ميله‭ ‬الكبير‭ ‬إلى‭ ‬الأدب‭ ‬ولكل‭ ‬ما‭ ‬يمت‭ ‬للأدب‭ ‬بصلة،‭ ‬فكتب‭ ‬القصص‭ ‬والأشعار‭ ‬العامية‭ ‬والروايات‭ ‬والأفلام‭.‬

الأحلام‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬هبوط‭ ‬اضطراري

يروي‭ ‬فريد‭ ‬وعبر‭ ‬مرايا‭ ‬شفافة‭ ‬ومتداخلة‭ ‬صورا‭ ‬من‭ ‬حياته‭  ‬ونشأته،‭ ‬فيقول‭ ‬أنه‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬صغير‭ (‬كبير‭ ‬جدا‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭)‬،‭ ‬منزل‭ ‬يقع‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬البحر،‭ ‬حيث‭ ‬الاتساع‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬له‭ ‬ولا‭ ‬نهاية،‭ ‬وأمام‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬والده‭ ‬وهو‭ ‬يذهب‭ ‬ويعود‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬متباعدة‭ ‬منه،‭ ‬فقد‭ ‬عمل‭ ‬والده‭ ‬غواصاً‭ ‬لحين‭ ‬ظهور‭ ‬النفط‭ ‬وانتقاله‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬للنفط‭.‬

مثل‭ ‬كل‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬درس‭ ‬فريد‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬الابتدائية‭ ‬والإعدادية‭ ‬وبفضل‭ ‬ميله‭ ‬الأدبي‭ ‬اختار‭ ‬التخصص‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬وكان‭ ‬حلمه‭ ‬الكبير‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يعزز‭ ‬ذلك‭ ‬الميل‭ ‬بدراسة‭ ‬الأدب‭ ‬وعلم‭ ‬النفس‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وبسبب‭ ‬الظروف‭ ‬المعيشية‭ ‬للأسرة‭ ‬آنذاك‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬ما‭ ‬يحلو‭ ‬له،‭ ‬وكان‭ ‬الخيار‭ ‬الوحيد‭ ‬آنذاك‭ ‬هو‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬والتخصص‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الطيران‭. ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬فريد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معجبا‭ ‬بالتخصص‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬مفتونا‭ ‬بفكرة‭ ‬الطيران‭ ‬خارجا‭ ‬وبعيدا‭ ‬عن‭ ‬أسر‭ ‬الجماعات‭ ‬والتكتلات‭ ‬والعيش‭ ‬كمراقب‭ ‬وقائد‭ ‬جوي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الحلم‭ ‬أيضا‭ ‬لم‭ ‬يكتب‭ ‬له‭ ‬النجاح،‭ ‬فغالباً‭ ‬ماكان‭ ‬السكلر‭ ‬مباغتا‭ ‬ومهاجما‭ ‬شرسا‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬حيث‭ ‬واجه‭ ‬فريد‭ ‬المرض‭ ‬عدة‭ ‬مرات،‭ ‬وهو‭ ‬يتدثر‭ ‬بدثار‭ ‬الدعاء‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مستشفيات‭ ‬ومراكز‭ ‬لا‭ ‬تجيد‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬كما‭ ‬يتم‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬الوطن‭. ‬كانت‭ ‬العودة‭ ‬مخيبة‭ ‬للآمال‭ ‬البعيدة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬حيث‭ ‬الفتنة‭ ‬والطيران‭ ‬والتحليق‭ ‬بعيدا‭ ‬والنظر‭ ‬للعالم‭ ‬من‭ ‬شرفة‭ ‬بعيدة‭ ‬وبعد‭ ‬العودة‭ ‬درس‭ ‬فريد‭ ‬الدراسات‭ ‬المصرفية‭ ‬وعمل‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬بنوك‭ ‬البحرين‭ ‬ثم‭ ‬انتقل‭ ‬للعمل‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الوطني‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مباغتات‭ ‬السكلر‭ ‬وظروف‭ ‬الحياة‭ ‬والعمل‭ ‬والزواج،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬فريد‭ ‬كان‭ ‬ينمي‭ ‬موهبته‭ ‬الأدبية‭ ‬في‭ ‬الساعات‭ ‬المتبقية‭ ‬من‭ ‬النهار،‭ ‬حيث‭ ‬يعود‭ ‬وتعود‭ ‬الكلمات‭ ‬على‭ ‬شرفة‭ ‬المساء‭ ‬تراقبه‭ ‬بحب‭ ‬وانتظار‭ ‬شديدين‭.‬

الكتابة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنام‭ ‬

يحمل‭ ‬فريد‭ ‬معه‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬ويقرأ‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬سنحت‭ ‬له‭ ‬الفرصة‭ ‬بذلك،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬يكتب‭ ‬أيضا‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬سمحت‭ ‬له‭ ‬الظروف‭ ‬بذلك،‭ ‬لدى‭ ‬فريد‭ ‬كتابات‭ ‬أدبية‭ ‬على‭ ‬أرصدة‭ ‬البنك‭ ‬وكتابات‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬أوراق‭ ‬الوزارة‭ ‬المستهلكة،‭ ‬كانت‭ ‬الكتابة‭ ‬تجيء‭ ‬دائما‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬وكانت‭ ‬القصص‭ ‬تباغته‭ ‬كما‭ ‬يباغته‭ ‬مرض‭ ‬السكلر‭ ‬دائما‭.  ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬أصبح‭ ‬وضع‭ ‬فريد‭ ‬الصحي‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بالنهوض‭ ‬مبكرا‭ ‬والذهاب‭ ‬للعمل‭ ‬بشكل‭ ‬منتظم‭ ‬بسبب‭ ‬الأدوية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يأخذها‭ ‬في‭ ‬مكافحته‭ ‬المستمرة‭ ‬مع‭ ‬المرض،‭ ‬لحين‭ ‬أن‭ ‬اتخذ‭ ‬فريد‭ ‬قرارا‭ ‬مع‭ ‬زوجته‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬العمل‭ ‬والتفرغ‭ ‬للكتابة‭ ‬بشكل‭ ‬كامل،‭ ‬وكانت‭ ‬زوجته‭ ‬الداعم‭ ‬والمساند‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬والتكفل‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬ينقص‭ ‬الأسرة‭ ‬والأبناء،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬أكبر‭ ‬دعم‭ ‬لفريد‭ ‬للتفرغ‭ ‬فيه‭ ‬لكتابة‭ ‬الكتب‭ ‬والأفلام‭ ‬والروايات‭ ‬بمختلف‭ ‬أصنافها‭.‬

الكتابة‭ ‬العشيقة‭ ‬السرية

يقول‭ ‬فريد‭: ‬“علمتني‭ ‬والدتي‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬لامعا‭ ‬وبراقا‭ ‬كتحفة‭ ‬فنية‭ ‬جميلة،‭ ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬إلا‭ ‬هكذا‭ ‬رأيت‭ ‬ذلك،‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬أمي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صور‭ ‬الطفولة،‭ ‬فكبرت‭ ‬وأنا‭ ‬مهتما‭ ‬بالتفاصيل‭ ‬جدا،‭ ‬وكنت‭ ‬أبالغ‭ ‬في‭ ‬أناقتي‭ ‬عندما‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬الكتابة‭ ‬أو‭ ‬القراءة،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬وكأنني‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬مع‭ ‬عشيقتي‭ ‬التي‭ ‬أذهب‭ ‬لملاقاتها‭ ‬بأبهى‭ ‬صورة‭ ‬وأحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬أهبة‭ ‬وافرة‭ ‬من‭ ‬الأناقة‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬تخليت‭ ‬عن‭ ‬ربطة‭ ‬العنق‭ ‬بسبب‭ ‬تركي‭ ‬لعملي‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬بسبب‭ ‬مرضي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يداهمني‭ ‬دائما‭. ‬ويضيف‭ ‬فريد‭: ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المكتب‭ ‬مرتبا‭ ‬جدا؛‭ ‬لأتمكن‭ ‬من‭ ‬إنجاز‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬إنجازها،‭ ‬ولأنني‭ ‬كنت‭ ‬أصر‭ ‬على‭ ‬إنجازها‭ ‬جميعا،‭ ‬فإنني‭ ‬أكتبها‭ ‬منذ‭ ‬المساء،‭ ‬فالكتابة‭ ‬جزء‭ ‬يشبعني‭ ‬روحيا‭ ‬ويعالجني‭ ‬صحيا‭ ‬وأكسب‭ ‬منه‭ ‬رزقي‭.‬

النوبة‭ ‬الأولى

الحديث‭ ‬عن‭ ‬السكلر‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة‭ ‬حديث‭ ‬لا‭ ‬يرتبط‭ ‬بألم‭ ‬فريد‭ ‬فحسب،‭ ‬لكنه‭ ‬يرتبط‭ ‬أكثر‭ ‬بألم‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬وعندما‭ ‬يتذكر‭ ‬فريد‭ ‬ذلك‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬عينه‭ ‬لوحة‭ ‬سوريالية‭ ‬عميقة‭ ‬تسحبك‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬الليالي‭ ‬التي‭ ‬يأتي‭ ‬فيها‭ ‬السكلر‭ ‬حاملا‭ ‬منجلا‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬ويكرر‭ ‬طعناته‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬فيصبح‭ ‬فريد‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬إمساك‭ ‬يده‭ ‬أو‭ ‬رجله‭ ‬أو‭ ‬بطنه‭ ‬ويكون‭ ‬كتلة‭ ‬مشعة‭ ‬بالألم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تلتف‭ ‬ذراعان‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬ولا‭ ‬يدرك‭ ‬حينها‭ ‬إلا‭ ‬صوت‭ ‬الأ‭ ‬نفاس‭ ‬المتساعة‭ ‬لامرأة‭ ‬عظيمة‭ ‬تركض‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬سريعا‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬باب‭ ‬المستوصف‭ ‬الذي‭ ‬يبعد‭ ‬عن‭ ‬منزلها‭ ‬مسافة‭ ‬تبلغ‭ ‬25‭ ‬كيلومترا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الأم‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬تركض‭ ‬حاملة‭ ‬فريد‭ ‬بين‭ ‬ذراعيها‭ ‬غير‭ ‬آبهة‭ ‬بعواء‭ ‬الكلاب‭ ‬أو‭ ‬بسكون‭ ‬الليل‭ ‬المخيف،‭ ‬إنها‭ ‬ترى‭ ‬الباب‭ ‬فقط‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬غيره‭ ‬وعندما‭ ‬تصل‭ ‬تبدأ‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬بنوبة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬القلق‭ ‬والخوف‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬ولدها‭ ‬الغالي‭.‬

العلاج‭ ‬

قالت‭ ‬امرأة‭ ‬عـابرة‭ ‬لأم‭ ‬فريد‭ ‬أن‭ ‬علاج‭ ‬فريد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬هو‭ ‬تناول‭ ‬السركا‭.‬

‭ ‬قال‭ ‬رجل‭ ‬لأب‭ ‬فريد‭ ‬إن‭ ‬علاج‭ ‬المرض‭ ‬هو‭ ‬أخذ‭ ‬فريد‭ ‬إلى‭ ‬“التتان”‭ ‬وكي‭ ‬بطنه‭ (‬الجواي‭) ‬ليخرج‭ ‬منه‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭.‬

‭ ‬قالت‭ ‬أخت‭ ‬فريد‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬البسيتين‭ ‬بجوار‭ ‬ذلك‭ ‬البحر‭ ‬الجميل‭ ‬الهادئ‭ ‬وتلك‭ ‬المزارع‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭ ‬أن‭ ‬العلاج‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬شرب‭ ‬ثلاث‭ ‬شربات‭ ‬من‭ ‬ماء‭ ‬البحر‭ ‬النقي‭ ‬لتعقيم‭ ‬أحشائه‭ ‬وجسمه‭.‬

وقال‭ ‬الطبيب‭ ‬الهندي‭ ‬المعالج‭ ‬أن‭ ‬علاج‭ ‬فريد‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬شرب‭ (‬البيرة‭) ‬أو‭ ‬شراب‭ ‬الكحول‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السكلر‭ ‬كان‭ ‬يواصل‭ ‬هجماته‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬النصائح‭ ‬العلاجية‭ ‬والميتافيزيقية‭ ‬والاجتماعية،‭ ‬السكلر‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬في‭ ‬العميق،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يصل‭ ‬ماء‭ ‬البحر‭ ‬ولا‭ ‬ماء‭ ‬الشعير‭ ‬ولا‭ ‬السيركا‭ ‬ولا‭ ‬يصل‭ ‬دخان‭ ‬التتان،‭ ‬السكلر‭ ‬يقول‭ ‬لفريد‭: ‬سأزورك‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬ومن‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭!‬

يقولون‭ ‬إن‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬عدوه‭ ‬حتى‭ ‬يهزمه،‭ ‬ويقول‭ ‬الشاعر‭ ‬علي‭ ‬الشرقاوي‭ ‬لفريد‭: ‬“يا‭ ‬فريد‭ ‬صاحب‭ ‬السكلر‭ ‬كصديق‭ ‬قل‭ ‬له‭ ‬أهلا‭ ‬وسهلا‭ ‬بك‭ ‬خذ‭ ‬راحتك‭ ‬في‭ ‬البقاء‭ ‬وارحل‭ ‬ولا‭ ‬تطيل”‭ .‬

وفعلا‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬فريد‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬السكلر‭ ‬كصديق‭ ‬أصبح‭ ‬يعرفه‭ ‬جيدا‭ ‬ويعرف‭ ‬أسراره‭ ‬ويتوقع‭ ‬مناوراته‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬المساء‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬النهار،‭ ‬تعلم‭ ‬فريد‭ ‬أن‭ ‬السكلر‭ ‬يأتي‭ ‬كثيرا‭ ‬بسبب‭ ‬وقليلا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬سبب،‭ ‬لكنه‭ ‬بدأ‭ ‬يعرف‭ ‬ملامح‭ ‬هذا‭ ‬الشيء‭ ‬الضبابي‭ ‬الذي‭ ‬يطعن‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬توقف‭ ‬بمناجل‭ ‬من‭ ‬دخان‭.‬

السكلر‭ .. ‬حارس‭ ‬الليل‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينام

يقول‭ ‬فريد‭: ‬كنت‭ ‬صغيرا‭ ‬حينما‭ ‬جاء‭ ‬والدي،‭ ‬وهو‭ ‬يدفع‭ ‬عربة‭ ‬بداخلها‭ ‬رملا‭ ‬واسمنتا‭ ‬وأداة‭ ‬حفر‭ ‬وحبر،‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬والدي‭ ‬أن‭ ‬أذهب‭ ‬معه‭ ‬وكان‭ ‬يدفع‭ ‬تلك‭ ‬العربة‭ ‬التي‭ ‬تترك‭ ‬آثارا‭ ‬مستقيمة‭ ‬ومنحرفة‭ ‬أحيانا‭ ‬بحسب‭ ‬وضع‭ ‬التربة‭ ‬التي‭ ‬تشقها،‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬اتبعه‭ ‬لحين‭ ‬أن‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬والدي‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬اسم‭ ‬أخي‭ ‬المتوفى‭ ‬من‭ ‬مرض‭ ‬السكلر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الشاهد،‭ ‬فكتبت‭ ‬المتوفى‭ ‬الشاب‭ ‬محمد‭ ‬رمضان‭ ... ‬كنت‭ ‬أحب‭ ‬أخي‭.‬

الشاهد‭ ‬الذي‭ ‬وثّق‭ ‬جريمة‭ ‬السكلر‭ ‬في‭ ‬أخ‭ ‬فريد‭. ‬هكذا‭ ‬وجد‭ ‬فريد‭ ‬نفسه‭ ‬موثقا‭ ‬لألم‭ ‬لا‭ ‬ينسى،‭ ‬لكن‭ ‬فريد‭ ‬رأي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬هو‭ ‬مواجهة‭ ‬أخرى‭ ‬للسكلر‭ ‬وتحدٍ‭ ‬مباشر‭ ‬له‭ ‬بالبقاء‭. ‬

يقول‭ ‬فريد‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يخشى‭ ‬السكلر‭ ‬أبدا،‭ ‬فهو‭ ‬مولود‭ ‬معه‭ ‬وقد‭ ‬اعتاد‭ ‬على‭ ‬زيارات‭ ‬السكلر‭ (‬النوبات‭) ‬التي‭ ‬تأخذ‭ ‬مداها‭ ‬وترحل‭ ‬ويعود‭ ‬فريد‭ ‬مجدداً‭ ‬لحياته‭ ‬بشكل‭ ‬طبيعي‭ ‬ومن‭ ‬التجارب‭ ‬بدأ‭ ‬فريد‭ ‬يرى‭ ‬السكلر‭ ‬كقرين‭ ‬له‭ ‬يحادثه‭ ‬وينبئه‭ ‬بموعد‭ ‬النوبة‭ ‬ووقتها‭.‬

مواجهة‭ ‬السكلر‭ ‬والانتصارات‭ ‬الكبيرة

الانتصار‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬حرب‭ ‬يتطلب‭ ‬إرادة‭ ‬وهدف‭ ‬ومقومات،‭ ‬والسكلر‭ ‬محارب‭ ‬شرس‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬عدة‭ ‬جبهات‭ (‬ثغرات‭) ‬ويسترجع‭ ‬فريد‭ ‬دفاتر‭ ‬ذاكرته‭ ‬البعيدة،‭ ‬ويقول‭: ‬واجهت‭ ‬الأمراض‭ ‬ومضاعفات‭ ‬السكلر‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬عديدة‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬في‭ ‬الخضوع‭ ‬لعملية‭ ‬إزالة‭ ‬الطحال‭ ‬العام‭ ‬1983‭ ‬الخطرة‭ ‬والتي‭ ‬اضطر‭ ‬الطلبيب‭ ‬آنذاك‭ ‬أن‭ ‬يجري‭ ‬عملية‭ ‬فتح‭ ‬بطن‭ ‬لإزالة‭ ‬الطحال‭ ‬المتليف‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬الكبير‭ ‬المحدق‭ ‬من‭ ‬السكلر،‭ ‬ومرت‭ ‬العملية‭ ‬بمضاعفاتها‭ ‬وعدت‭ ‬للحياة‭ ‬مجددا‭ ‬منتصرا‭ ‬على‭ ‬السكلر‭. ‬ثم‭ ‬خضع‭ ‬فريد‭ ‬لنكسة‭ ‬أشرس‭ ‬بالتهاب‭ ‬رئوي‭ ‬حاد،‭ ‬وبعد‭ ‬مواجهة‭ ‬حادة‭ ‬مع‭ ‬العدو‭ ‬الشرس‭ ‬انتصرت‭ ‬مجددا‭ ‬وعاد‭ ‬للحياة،‭ ‬وكانت‭ ‬أولى‭ ‬النتائج‭ ‬المبشرة‭ ‬من‭ ‬العودة‭ ‬للحياة‭ ‬هي‭ ‬اصدار‭ ‬المجموعة‭ ‬القصصية‭ ‬الأولى‭ ‬بعنوان‭ (‬البياض‭).‬

قال‭ ‬فريد‭ ‬إنه‭ ‬استثمر‭ ‬نصين‭ ‬كتبهم‭ ‬في‭ ‬الغيبوبة‭ ‬أثناء‭ ‬مواجهته‭ ‬لألم‭ ‬النوبات،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬مواجهته‭ ‬صعوبة‭ ‬في‭ ‬فك‭ ‬وإعادة‭ ‬كتابة‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬يشبه‭ ‬الوحي‭. ‬

غياب‭ ‬تام‭ ‬وظهور‭ ‬تام‭ ‬

إن‭ ‬اجتياز‭ ‬عام‭ ‬وبدء‭ ‬عام‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬مفهوم‭ ‬فريد‭ ‬بمثابة‭ ‬تحدي‭ ‬للموت،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يستحق‭ ‬الاحتفال،‭ ‬فيقول‭: (‬لقد‭ ‬أنهيت‭ ‬60‭ ‬عاما‭ ‬من‭ ‬المرض‭ ‬والمواجهة‭ ‬وهذا‭ ‬رائع‭).‬

يقول‭ ‬ذلك‭ ‬وكأنه‭ ‬لا‭ ‬يصدق‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬المرض،‭ ‬يقوله‭ ‬أيضا‭ ‬وهو‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يحدث‭ ‬كثيرا،‭ ‬حيث‭ ‬يستطرد‭ ‬قائلا‭: (‬الحياة‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الخطيرة‭ ‬والقاتلة‭ ‬والأكثر‭ ‬خطرا‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬السكلر‭) . - ‬هل‭ ‬يبدو‭ ‬فريد‭ ‬مدافعاً‭ ‬هنا‭ ‬؟‭ - ‬

يقول‭ ‬فريد‭ ‬إن‭ ‬السكلر‭ ‬كان‭ ‬أفضل‭ ‬دافع‭ ‬للنجاح،‭ ‬إن‭ ‬السكلر‭ ‬وتجربة‭ ‬الموت‭ ‬والألم‭ ‬المتكررة‭ ‬خلقت‭ ‬لديه‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬المواجهة‭ ‬مع‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬أشبه‭ ‬بتجربة‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬مع‭ ‬عدو‭ ‬يطعن‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭ ‬هذا‭ ‬العدو‭ ‬والصديق‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬كان‭ ‬يواجهه‭ ‬بالحب‭ ‬والكتابة‭ ‬والرفقة،‭ ‬ويقول‭ ‬له‭: ‬أيها‭ ‬الرفيق‭ ‬مرحبا‭ ‬بك‭ ‬خذ‭ ‬وسعك‭ ‬من‭ ‬الزيارة،‭ ‬وارحل‭ ‬سريعا‭.‬