جولة “البلاد” مع آل عباس: قائمة لوفيات التلوث ومسؤولون ينكرون

المسافة بين أحياء المعامير والمصانع... أمتار

| إبراهيم النهام | تصوير رسول الحجيري

‬لا‭ ‬يكاد‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬إلا‭ ‬ويتطرق‭ ‬المختصون‭ ‬والباحثون‭ ‬والكتاب،‭ ‬وأهالي‭ ‬قرية‭ ‬المعامير‭ ‬ذاتهم،‭ ‬إلى‭ ‬الإشكالية‭ ‬البيئية‭ ‬التي‭ ‬تعانيها‭ ‬القرية‭ ‬منذ‭ ‬عقود،‭ ‬والتي‭ ‬طالت‭ ‬بوضوح‭ ‬تام‭ ‬البر،‭ ‬والبحر،‭ ‬والهواء،‭ ‬وصحة‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه‭.‬

ونظرا‭ ‬لأهمية‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬البيئي‭ ‬والإنساني،‭ ‬اهتمت‭ ‬صحيفتكم‭ ‬“البلاد”،‭ ‬بأن‭ ‬تسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬واقع‭ ‬القرية،‭ ‬وشكاوى‭ ‬الناس،‭ ‬ودعاوى‭ ‬المختصين،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الملف‭ ‬المركز‭ ‬والنافذ‭ ‬بالتوصيات‭.‬

جولة‭ ‬بالقرية

كان‭ ‬الطقس‭ ‬حارا‭ ‬نسيبا،‭ ‬إذ‭ ‬التقيت‭ ‬النائب‭ ‬عمار‭ ‬آل‭ ‬عباس،‭ ‬الذي‭ ‬أخذني‭ ‬بجولة‭ ‬ميدانية‭ ‬بمعية‭ ‬الزميل‭ ‬عبدالرسول‭ ‬الحجيري،‭ ‬في‭ ‬أرجاء‭ ‬القرية،‭ ‬وفي‭ ‬المصانع‭ ‬الكثيفة‭ ‬المتغلغلة‭ ‬بها،‭ ‬كانت‭ ‬معظم‭ ‬النوافذ‭ ‬مغلقة‭ ‬تماما،‭ ‬وعليها‭ ‬الترسبات‭ ‬الترابية،‭ ‬ويعلق‭ ‬آل‭ ‬عباس‭ ‬هنا‭ ‬“هي‭ ‬كذلك‭ ‬بمعظم‭ ‬الأوقات‭ ‬بسبب‭ ‬التلوث‭ ‬والغازات”‭.‬

لحظات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتابع‭ ‬آل‭ ‬عباس‭ ‬قائلا‭ ‬“بسبب‭ ‬هذه‭ ‬الملوثات‭ ‬الدائمة،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬لها‭ ‬أحد‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬حلا،‭ ‬تزايدت‭ ‬حالات‭ ‬الوفاة‭ ‬بالأمراض‭ ‬الخبيثة‭ ‬كالسرطان‭ ‬وأمراض‭ ‬الرئة‭ ‬وغيرها،‭ ‬وهنالك‭ ‬قائمة‭ ‬موثقة‭ ‬بأسماء‭ ‬المتوفين،‭ ‬يؤكد‭ ‬أهالي‭ ‬القرية‭ ‬أن‭ ‬مسببها‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬التلوث”‭.‬

مصنع‭ ‬الأسمنت

ويتوقف‭ ‬آل‭ ‬عباس‭ ‬عن‭ ‬الحديث،‭ ‬وهو‭ ‬يشير‭ ‬لأحد‭ ‬مصانع‭ ‬الأسمنت،‭ ‬قائلا‭ ‬“لك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬المسافة‭ ‬الفاصلة‭ ‬أمامك‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬سور‭ ‬المصنع‭ ‬والحي‭ ‬السكني‭ ‬الرابض‭ ‬أمامه،‭ ‬إنها‭ ‬مجرد‭ ‬أمتار‭ ‬قليلة‭ ‬لا‭ ‬تذكر،‭ ‬كيف‭ ‬لأمر‭ ‬كهذا‭ ‬أن‭ ‬يحدث؟‭ ‬وأين‭ ‬هي‭ ‬دولة‭ ‬المؤسسات؟‭ ‬ولما‭ ‬الصمت‭ ‬والمواطن‭ ‬مهدد‭ ‬في‭ ‬حياته،‭ ‬هو‭ ‬وأبناؤه؟”‭. ‬

ويتابع‭ ‬“اختار‭ ‬بعض‭ ‬المسؤولين‭ ‬بفترة‭ ‬سابقة‭ ‬قريبة‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬زرع‭ ‬بعض‭ ‬النخيل‭ ‬كدلالة‭ ‬على‭ ‬اهتمام‭ ‬المسؤولين‭ ‬بمشكلة‭ ‬التلوث،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬متابعتها‭ ‬وماتت‭ ‬النخيل‭ ‬الست،‭ ‬ومعها‭ ‬اهتمامات‭ ‬المسؤولين‭ ‬أنفسهم،‭ ‬فهل‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الحل‭ ‬المنتظر؟”‭.‬

جهود‭ ‬بلا‭ ‬نتيجة

وعن‭ ‬موقف‭ ‬الأهالي،‭ ‬يقول‭ ‬آل‭ ‬عباس‭ ‬“في‭ ‬هذه‭ ‬الأثناء‭ ‬تتحرك‭ ‬بعض‭ ‬جهود‭ ‬أهالي‭ ‬القرية‭ ‬نحو‭ ‬إصدار‭ ‬دراسة‭ ‬تستطلع‭ ‬آراء‭ ‬أهالي‭ ‬القرية‭ ‬نساءً‭ ‬ورجالا‭ ‬بشأن‭ ‬مشكلة‭ ‬التلوث،‭ ‬تتجه‭ ‬بوصلتها‭ ‬نحو‭ ‬الشركات‭ ‬والصانع‭ ‬المسؤولة‭ ‬عما‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬استهداف‭ ‬للصحة‭ ‬العامة”‭.‬

ويزيد‭ ‬“القرية‭ ‬محاطة‭ ‬بالمصانع‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجهات،‭ ‬وهي‭ ‬إشكالية‭ ‬كبرى‭ ‬تمثل‭ ‬جوهر‭ ‬التلوث‭ ‬بجميع‭ ‬أشكاله،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬حظائر‭ ‬الأغنام‭ ‬الموجودة‭ ‬بقرب‭ ‬القرية،‭ ‬والتي‭ ‬تزكم‭ ‬الأجواء‭ ‬بروائح‭ ‬نتنة‭ ‬ومقيتة،‭ ‬وآخرون‭ ‬يتأسفون‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬ساحل‭ ‬القرية‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يوما‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬غنيا‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬الأسماك،‭ ‬وأصبح‭ ‬الآن‭ ‬محطة‭ ‬لرمي‭ ‬فضلات‭ ‬بعض‭ ‬الشركات”‭.‬

وفيات‭ ‬وسرطانات

البعض‭ ‬الآخر‭ ‬يشتكي‭ ‬حاله،‭ ‬إذ‭ ‬يسكن‭ ‬مواجها‭ ‬وجها‭ ‬لوجه‭ ‬لمصانع‭ ‬تقوم‭ ‬بتصنيع‭ ‬الخرسانة‭ ‬ومعالجة‭ ‬الأوساخ‭ ‬والقاذورات،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬بوابة‭ ‬المنزل‭ ‬والمصنع‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬الثلاثة‭ ‬أمتار،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬يصبح‭ ‬أطفالهم‭ ‬ويمسون‭ ‬على‭ ‬الأصوات‭ ‬المرتفعة‭ ‬للمصانع‭ ‬وللشاحنات‭ ‬التي‭ ‬تجوب‭ ‬المنطقة‭ ‬الصناعية‭.‬

ويتابع‭ ‬“بينما‭ ‬تكون‭ ‬الرياح‭ ‬سببا‭ ‬لجلب‭ ‬الهواء‭ ‬العليل‭ ‬لباقي‭ ‬القرى‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬فإن‭ ‬الرياح‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬المعامير،‭ ‬حسب‭ ‬قول‭ ‬الأهالي،‭ ‬هي‭ ‬“سبب‭ ‬لملء‭ ‬بيوتهم‭ ‬بالرمل‭ ‬والغبار‭ ‬الناتج‭ ‬عن‭ ‬مصانع‭ ‬الرمل‭ ‬والكسارات‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬المصانع‭ ‬القريبة‭ ‬منهم”‭.‬

مسؤول‭ ‬ضد‭ ‬المواطن

وعن‭ ‬موقف‭ ‬المسؤولين‭ ‬مما‭ ‬يحدث،‭ ‬ابتسم‭ ‬آل‭ ‬عباس،‭ ‬وهو‭ ‬يركن‭ ‬سيارته‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الساحل‭ ‬الملوث،‭ ‬قائلا‭ ‬“اختاروا‭ ‬لأنفسهم‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬روايتهم‭ ‬مضادة‭ ‬لرواية‭ ‬أهالي‭ ‬القرية،‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يقرون‭ ‬بوجود‭ ‬مشكلة‭ ‬تلوث،‭ ‬وأن‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يتخطى‭ ‬ظروفا‭ ‬جوية‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬محدودة،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬إثارة‭ ‬الوضع‭ ‬باتهامات‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬حقائق،‭ ‬وبتوصيفات‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها”‭.‬

ويقول‭ ‬“المضحك‭ ‬المبكي‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬حجم‭ ‬الوعود‭ ‬التي‭ ‬تلقتها‭ ‬قرية‭ ‬المعامير‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬بجميع‭ ‬الشركات‭ ‬التي‭ ‬تحاصر‭ ‬القرية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الجهات،‭ ‬يضاف‭ ‬إليها‭ ‬الوعود‭ ‬الحكومية‭ ‬نفسها،‭ ‬بمحصلة‭ ‬لا‭ ‬تذكر‭ ‬على‭ ‬الإطلاق”‭.‬