تبدأ المشاهد بالتمهل والاستطراد ثم تقوم المواجهات

سينما بسام الذوادي.. مدرسة الواقعية الجديدة

| أسامة الماجد

يقول‭ ‬المخرج‭ ‬الإيطالي‭ ‬برنارد‭ ‬بيرتولوتش‭ ‬صاحب‭ ‬أروع‭ ‬وأعظم‭ ‬أفلام‭ ‬السينما‭ ‬المعاصرة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬“آخر‭ ‬تانجو‭ ‬في‭ ‬باريس”‭ ‬إنه‭ ‬عرف‭ ‬الحياة‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬السينما‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬وليس‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬الحدود،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬أهم‭ ‬آثار‭ ‬بيرتولوتش‭ ‬السينمائية‭ ‬تنعكس‭ ‬في‭ ‬مفهومه‭ ‬للبناء‭ ‬الدرامي‭ ‬ولدور‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬أفلامه،‭ ‬فالفيلم‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليه‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬يتم‭ ‬أمام‭ ‬الكاميرا‭ ‬وعلى‭ ‬الشريط،‭ ‬ولا‭ ‬شأن‭ ‬له‭ ‬بالمادة‭ ‬المكتوبة‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭.‬

في‭ ‬تصوري،‭ ‬لم‭ ‬ينل‭ ‬مخرجنا‭ ‬السينمائي‭ ‬بسام‭ ‬الذوادي‭ ‬حقه‭ ‬من‭ ‬العرفان‭ ‬لفنه‭ ‬وعبقريته،‭ ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬تعتبر‭ ‬سینما‭ ‬ناشئة،‭ ‬وهي‭ ‬كسائر‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬حلبة‭ ‬الفن‭ ‬السابع‭ ‬حديثا،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬افلام‭ ‬الذوادي‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الطريق‭ ‬المميزة‭. ‬بسام‭ ‬من‭ ‬أبرع‭ ‬المخرجين‭ ‬المغامرين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬وأحد‭ ‬الحالمين‭ ‬بالرغبة‭ ‬الملحة‭ ‬في‭ ‬تشييد‭ ‬حياة‭ ‬الأفلام‭ ‬داخل‭ ‬حياة‭ ‬الانسان‭ ‬والتنقل‭ ‬بين‭ ‬الحياتين‭ ‬كما‭ ‬يتنقل‭ ‬المرء‭ ‬بين‭ ‬حجرتين،‭ ‬فهو‭ ‬يعرف‭ ‬بحق‭ ‬كيف‭ ‬يضع‭ ‬يديه‭ ‬على‭ ‬هيكل‭ ‬الرواية‭ ‬ويستطيع‭ ‬منذ‭ ‬اللقطة‭ ‬الأولى‭ ‬أن‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬الكاميرا‭ ‬ويوجهها‭ ‬توجيها‭ ‬سينمائيا‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬الروائي،‭ ‬وإن‭ ‬ظل‭ ‬ملتصقا‭ ‬بعناصره‭ ‬الفنية‭.‬

‭ ‬أفلام‭ ‬بسام‭ ‬الذوادي‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬قليلة،‭ ‬تجعلنا‭ ‬نلمس‭ ‬أبعد‭ ‬مما‭ ‬تعطيه‭ ‬لنا‭ ‬حدود‭ ‬القصة‭ ‬والأحداث،‭ ‬والشخصيات،‭ ‬ففي‭ ‬فيلمه‭ ‬الجميل‭ ‬والرائع‭ ‬“حكاية‭ ‬بحرينية”‭ ‬عمق‭ ‬لنا‭ ‬العالم‭ ‬القديم،‭ ‬وعمق‭ ‬لنا‭ ‬العالم‭ ‬الجديد،‭ ‬وجعلنا‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭ ‬معلقين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصراع،‭ ‬وقد‭ ‬سعى‭ ‬بكل‭ ‬أمانة‭ ‬وصدق،‭ ‬لنقل‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬بأبعاد‭ ‬الحقيقة‭. ‬لم‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتعاطف‭ ‬مع‭ ‬القديم‭ ‬ضد‭ ‬الجديد،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يجعلنا‭ ‬نقف‭ ‬بالقوة‭ ‬اللازمة‭ ‬مع‭ ‬الجديد‭ ‬ضد‭ ‬القديم،‭ ‬بل‭ ‬أراد‭ ‬بسام‭ ‬أن‭ ‬يعبر‭ ‬لنا‭ ‬“في‭ ‬حكايته”‭ ‬عن‭ ‬أخلص‭ ‬صور‭ ‬الدراما‭ ‬وأكثرها‭ ‬وضوحا‭ ‬ونقاء،‭ ‬أن‭ ‬الخير‭ ‬والشر‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬متلاحمان‭ ‬ومتمازجان‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬الحدود‭. ‬

‭ ‬في‭ ‬أفلام‭ ‬بسام‭ ‬الذوادي‭ ‬تبدأ‭ ‬المشاهد‭ ‬بالإيقاع‭ ‬في‭ ‬التمهل‭ ‬والاستطراد،‭ ‬ثم‭ ‬تقوم‭ ‬المواجهات‭ ‬ويحدث‭ ‬التصادم‭ ‬بين‭ ‬الناس،‭ ‬ويتقرر‭ ‬مصير‭ ‬الأشياء،‭ ‬وعن‭ ‬طريق‭ ‬هذه‭ ‬التصادمات‭ ‬يتفتح‭ ‬بالتدريج‭ ‬الخط‭ ‬الدرامي‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يحكم‭ ‬الفيلم‭.‬

تعتمد‭ ‬المفاهيم‭ ‬الجمالية‭ ‬للسينما‭ ‬على‭ ‬قوانين‭ ‬الصور‭ ‬المتحركة،‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬السينما‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬على‭ ‬تخطي‭ ‬حدود‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وأخيرا‭ ‬على‭ ‬قدرة‭ ‬السينما‭ ‬على‭ ‬عرض‭ ‬العالم‭ ‬المادي،‭ ‬وظواهر‭ ‬الواقع‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬العالم‭ ‬المادي‭ ‬نفسه‭ ‬والظواهر‭ ‬نفسها،‭ ‬فنحن‭ ‬نرى‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقي،‭ ‬وحين‭ ‬نشاهد‭ ‬أفلام‭ ‬بسام‭ ‬الذوادي‭ ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تساهم‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬ذوق‭ ‬عامة‭ ‬المشاهدين‭ ‬وفكرهم‭ ‬وإمتاعهم،‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬أنوار‭ ‬مسلطة‭ ‬ساطعة‭ ‬على‭ ‬الواقع‭ ‬“واقعنا”‭ ‬بإتقان‭ ‬تام‭ ‬ولقطاتها‭ ‬منقوشة‭ ‬بنية‭ ‬الحقيقة‭ ‬وبشهادة‭ ‬نقاد‭ ‬السينما‭. ‬وهناك‭ ‬قاعدة‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬المخرج‭ ‬هو‭ ‬الفنان‭ ‬الخالق‭ ‬للعمل‭ ‬السينمائي‭ ‬وإليه‭ ‬وحده‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬أحد‭ ‬آخر،‭ ‬يعود‭ ‬الفضل‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬له‭ ‬قيمته،‭ ‬والذوادي‭ ‬كذلك‭.. ‬بارع‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬الروائع‭ ‬مع‭ ‬قوانين‭ ‬التكوين‭ ‬الصارمة‭ ‬للسينما،‭ ‬وحين‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬فيلمه‭ ‬الراوئي‭ ‬الأول”‭ ‬الحاجز”‭ ‬العام‭ ‬1990‭ ‬ونجاحه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الضخم،‭ ‬سنكتشف‭ ‬تحطيمه‭ ‬للنماذج‭ ‬التقليدية‭ ‬الجامدة،‭ ‬وأكاد‭ ‬أجزم‭ ‬أنها‭ ‬مدرسة‭ ‬الواقعية‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬قاطبة‭.‬

غاية‭ ‬السينما‭ ‬عند‭ ‬المخرج‭ ‬بسام‭ ‬الذوادي‭ ‬هي‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الواقع،‭ ‬تماما‭ ‬مثلما‭ ‬هي‭ ‬عند‭ ‬المخرج‭ ‬الفرنسي‭ ‬“‭ ‬جودار”‭ ‬وتتسم‭ ‬أفلامه‭ ‬–‭ ‬أي‭ ‬الذوادي‭- ‬برشاقة‭ ‬وجاذبية‭ ‬في‭ ‬الأسلوب‭ ‬والطرح‭ ‬والمعالجة،‭ ‬مخرج‭ ‬واقعي‭ ‬يخرج‭ ‬إلى‭ ‬الحياة‭ ‬ويصور‭ ‬مثلما‭ ‬يختر‭ ‬الشاعر‭ ‬الواقعي‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬ويكتب،‭ ‬ويستخدم‭ ‬الذوادي‭ ‬المنظر‭ ‬الكبير‭ ‬“لونق‭ ‬شوت”‭ ‬ليكشف‭ ‬عن‭ ‬الأعماق‭ ‬البعيدة‭ ‬لشخصياته،‭ ‬حيث‭ ‬تبدو‭ ‬بغير‭ ‬الكاميرا‭ ‬كالكاميرا‭ ‬السرية‭ ‬التي‭ ‬تقدم‭ ‬الحياة‭ ‬بغير‭ ‬رتوش،‭ ‬وظهر‭ ‬هذا‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬“حكاية‭ ‬بحرينية”،‭ ‬حيث‭ ‬أبهرنا‭ ‬الذوادي‭ ‬بلقطاته‭ ‬الجميلة‭ ‬والانتقال‭ ‬الناعم‭ ‬بين‭ ‬المشاهد،‭ ‬والتكوين‭ ‬الكثيف‭ ‬لانفعال‭ ‬الشخصيات،‭ ‬خاصة‭ ‬بطلة‭ ‬الفيلم‭ ‬الفنانة‭ ‬مريم‭ ‬زيمان‭ ‬التي‭ ‬ظهرت‭ ‬وكأنها‭ ‬تعاني‭ ‬عذابا‭ ‬طويلا‭.‬