“كورونا”... الجائحة والسرد والأمل

عمار الخزنة: الوباء منطقة توهج وإبداع للروائيين

| أعد الحوار أسامة الماجد

مهاجرٌ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجُدري”‭ ‬تستحضر‭ ‬معاناة‭ ‬الأجداد‭ ‬وتصف‭ ‬المستقبل الأوبئة‭ ‬السابقة‭ ‬تحكمت‭ ‬بالبشر‭ ‬بينما‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬يكبح‭ ‬جماح‭ ‬“كوفيد‭ ‬19” ستكون‭ ‬لدينا‭ ‬حكايا‭ ‬للأجيال‭ ‬لكن‭ ‬ماذا‭ ‬نخبرهم‭ ‬عن‭ ‬فشلنا‭ ‬أو‭ ‬انتصارنا

 

‏مصطلحات‭ ‬كثيرة‭ ‬صارت‭ ‬تطرق‭ ‬مسامعنا‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬ڤيروس‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬“كوفيد‭ ‬19”‭ ‬الذي‭ ‬هز‭ ‬العالم‭. ‬ولكي‭ ‬نستوضح‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المتغيرات‭ ‬المرتبطة‭ ‬بهذا‭ ‬الوباء‭ ‬ولتسليط‭ ‬الضوء‭ ‬‏على‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬السرد‭ ‬والفنون‭ ‬والوباء،‭ ‬التقت‭ ‬“البلاد”‭ ‬‏استشاري‭ ‬الأمراض‭ ‬الباطنية‭ ‬والأمراض‭ ‬التنفسية‭ ‬والعناية‭ ‬القصوى‭ ‬وأمراض‭ ‬النوم،‭ ‬عمار‭ ‬الخزنة‭ ‬وهو‭ ‬الطبيب‭ ‬البحريني‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬كانساس‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭ ‬وكاتب‭ ‬رواية‭ (‬مهاجرٌ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري‭).‬

أعلنت‭ ‬مؤخرا‭ ‬منظمةُ‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬التابعة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬أن‭ ‬وباء‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬أصبح‭ ‬جائحةً‭ ‬عالمية،‭ ‬فما‭ ‬هو‭ ‬الفرق‭ ‬بين‭ ‬الوباء‭ ‬والجائحة؟

سؤال‭ ‬رائع‭... ‬الأوبئة‭ ‬المعدية‭ ‬تُصنف‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬أمرين‭ ‬أساسيين‭: ‬المساحة‭ ‬الجغرافية‭ ‬للمرض،‭ ‬والأمر‭ ‬الآخر‭ ‬سرعة‭ ‬انتشاره‭. ‬مثلا‭ ‬لو‭ ‬افترضنا‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حالات‭ ‬لعدوى‭ ‬بالعشرات‭ ‬أو‭ ‬المئات‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬معينة،‭ ‬فهذا‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬مصطلح‭ ‬فاشية‭ ‬Outbreak‭ ‬وتكون‭ ‬نسبياً‭ ‬محدودةً‭ ‬في‭ ‬آثارها‭ ‬وهي‭ ‬المرحلة‭ ‬الأولى‭..‬

ثم‭ ‬لو‭ ‬افترضنا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬المرض‭ ‬انتقل‭ ‬بسرعة‭ ‬لأشخاص‭ ‬بالمئات‭ ‬والآلاف‭ ‬ودخل‭ ‬عدة‭ ‬مدن‭ ‬أو‭ ‬دول،‭ ‬فهذا‭ ‬هو‭ ‬المستوى‭ ‬الثاني‭ ‬ويطلق‭ ‬عليه‭ ‬وباء‭ ‬Epidemic‭.. ‬ولكن‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الوباء‭ ‬انتقل‭ ‬بين‭ ‬عدة‭ ‬دول‭ ‬وصار‭ ‬خطرا‭ ‬يهدد‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية،‭ ‬فهنا‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬جائحة‭ ‬عالمية‭ ‬Pandemic‭ ‬وهي‭ ‬أعلى‭ ‬مستويات‭ ‬الوباء‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الخطورة‭ ‬المحتملة‭ ‬والانتشار‭.‬

هل‭ ‬وصول‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬إلى‭ ‬مرحلة‭ ‬الجائحة‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الفيروس‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬خطورة؟

وصول‭ ‬الڤيروس‭ ‬لمرحلة‭ ‬الجائحة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬بالضرورة‭ ‬أن‭ ‬الڤيروس‭ ‬أصبح‭ ‬أكثر‭ ‬فتكاً‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬فما‭ ‬تزال‭ ‬نسبة‭ ‬الوفيات‭ ‬حوالي‭ ‬2‭ % ‬من‭ ‬المصابين،‭ ‬ولكن‭ ‬دخوله‭ ‬مرحلة‭ ‬الجائحة‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬انتشار‭ ‬الڤيروس‭ ‬تجاوز‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬وباء‭ ‬مستوطنا‭ ‬Endemic‭ ‬أو‭ ‬محدودا‭ ‬وتحول‭ ‬إلى‭ ‬وباء‭ ‬عابر‭ ‬للقارات‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬تهديدا‭ ‬عالميا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬عدم‭ ‬السيطرة‭ ‬عليه‭.‬

‏‭ ‬ألا‭ ‬تدعو‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ ‬للخوف‭ ‬والهلع؟

‏لا‭ ‬أتفق‭ ‬معك‭. ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬التعامل‭ ‬بعقلانيه‭ ‬ومنطق‭. ‬نعم‭ ‬لاستشعار‭ ‬المسؤولية‭ ‬الذي‭ ‬سيدفع‭ ‬الناس‭ ‬للالتزام‭ ‬بإرشادات‭ ‬أهل‭ ‬الاختصاص‭. ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬للهلع‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬حالة‭ ‬مرضية‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭. ‬واقعاً،‭ ‬أنا‭ ‬دائماً‭ ‬أحاول‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬التثقيف‭ ‬الصحي‭ ‬وبين‭ ‬ما‭ ‬أسميه‭ ‬“التخويف‭ ‬الصحي”‭. ‬فمن‭ ‬يُقدم‭ ‬المعلومات‭ ‬الطبية‭ ‬يتحمل‭ ‬مسؤولية‭ ‬صحة‭ ‬المعلومات،‭ ‬وأيضا‭ ‬الآثار‭ ‬المترتبة‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭. ‬ولذلك‭ ‬علينا‭ ‬‏انتقاء‭ ‬كلماتنا‭ ‬بدقة‭.. ‬نعم،‭ ‬هي‭ ‬مسؤولية‭ ‬مجتمعية‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬الأفراد،‭ ‬بل‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬البشر،‭ ‬فكلنا‭ ‬في‭ ‬مركب‭ ‬واحد‭.‬

‭ ‬برأيك‭ ‬من‭ ‬يلعب‭ ‬الدور‭ ‬الأهم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭: ‬المنظمات‭ ‬العالمية‭ ‬أم‭ ‬الحكومات،‭ ‬أم‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬أم‭ ‬الأفراد؟

لعلي‭ ‬لا‭ ‬أذيع‭ ‬سرًّا‭ ‬إذا‭ ‬قلت‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المنظمات‭ ‬الدولية‭ ‬والأهلية‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬مهم‭ ‬جدا،‭ ‬لكن‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭ ‬و‭ ‬الأهم‭ ‬هو‭ ‬دور‭ ‬الأفراد‭.. ‬و‭ ‬نجاح‭ ‬أي‭ ‬خطة‭ ‬لمكافحة‭ ‬الوباء‭ ‬يعود‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬لمدى‭ ‬التزام‭ ‬الأفراد‭ ‬بأدوارهم،‭ ‬مثل‭ ‬ممارسة‭ ‬التباعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والمداومة‭ ‬على‭ ‬غسل‭ ‬اليدين‭ ‬وتجنب‭ ‬مخالطة‭ ‬المصابين‭.. ‬ولن‭ ‬تنجح‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬إمكانياتها‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬المهمة‭ ‬بدون‭ ‬تعاون‭ ‬من‭ ‬الأفراد‭. ‬‏ولعل‭ ‬خير‭ ‬مثال‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الأمل‭ ‬هو‭ ‬قضاء‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬وباء‭ ‬الجدري‭ ‬تماما،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كونه‭ ‬تسبب‭ ‬بوفاة‭ ‬حوالي‭ ‬300‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬تقريباً‭. ‬

ففي‭ ‬سنة‭ ‬1967‭ ‬عملت‭ ‬الدول‭ ‬مع‭ ‬الأمم‭ ‬متحدة‭ ‬وجُنِّدتْ‭ ‬رؤوس‭ ‬الأموال‭ ‬والخبرات‭ ‬ليُقضى‭ ‬على‭ ‬الجدري‭ ‬عالميا‭ ‬رسميا‭ ‬سنة‭ ‬1980‭ ‬في‭ ‬إنجازٍ‭ ‬تاريخي‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭. ‬ليؤكد‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬البشرية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬‏قهر‭ ‬الوباء‭ ‬بشرط‭ ‬أن‭ ‬تتوافر‭ ‬الإرادة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والسياسية‭ ‬لذلك‭. ‬وعليه‭ ‬فإنني‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬المعونات‭ ‬الطبية‭ ‬لمجابهة‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬لكل‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬نظامها‭ ‬الحاكم،‭ ‬وهي‭ ‬مسؤولية‭ ‬إنسانية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬تعود‭ ‬مصلحتها‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬ككل‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التقصير‭ ‬والتساهل‭ ‬ستكون‭ ‬عواقبه‭ ‬وخيمة‭ ‬على‭ ‬الجميع‭.‬

‏إشارتك‭ ‬للجُدري‭ ‬تحيلني‭ ‬إلى‭ ‬المحور‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬حوارنا،‭ ‬لديك‭ ‬تجربة‭ ‬روائية‭ ‬بعنوان‭ ‬“مهاجرٌ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري”‭ ‬وسأنقل‭ ‬منها‭ ‬هذا‭ ‬الاقتباس‭ ‬“لم‭ ‬يَعرف‭ ‬أحدٌ‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬جاء‭ ‬الوباء،‭ ‬لكنَّ‭ ‬الجميع‭ ‬يعلم‭ ‬أنه‭ ‬استقر‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬ضيفاً‭ ‬ثقيلاً‭.. ‬كان‭ ‬ينتقي‭ ‬ضحاياه‭ ‬من‭ ‬بيوتٍ‭ ‬شتى،‭ ‬لكنه‭ ‬كان‭ ‬عادلاً،‭ ‬لا‭ ‬يفرق‭ ‬بينهم‭.. ‬دخل‭ ‬الهلعُ‭ ‬كلَّ‭ ‬بيت‭ ‬واستوطن‭ ‬الخوفُ‭ ‬قلوبَ‭ ‬الأمهات”‭.‬

كأنّ‭ ‬الرواية‭ ‬تستقرئ‭ ‬المستقبل‭ ‬وتصف‭ ‬حالنا‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬كُتبتْ‭ ‬عن‭ ‬زمان‭ ‬مضى‭. ‬ما‭ ‬تعليقك؟

‏الأدب‭ ‬السردي‭ ‬برأيي‭ ‬يُعنى‭ ‬بالمعاناة‭ ‬الإنسانية‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬علاقة‭ ‬وثيقة‭ ‬بين‭ ‬الآداب‭ ‬ومعاناة‭ ‬البشر‭ ‬مع‭ ‬الأوبئة‭ ‬عبر‭ ‬الأزمان‭. ‬تجربتي‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬مهاجرٌ‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجُدري‭ ‬تحاول‭ ‬استحضار‭ ‬معاناة‭ ‬الأجداد‭ ‬مع‭ ‬الجدري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقتل‭ ‬ملايين‭ ‬البشر‭. ‬والوباء‭ ‬عموما‭ ‬مادة‭ ‬خصبة‭ ‬للكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬عموما‭ ‬والسردية‭ ‬خصوصا‭. ‬وأزعم‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬فداحة‭ ‬الفقد‭ ‬وحجم‭ ‬الألم،‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬‏يعود‭ ‬إلى‭ ‬قدرة‭ ‬الكاتب‭ ‬على‭ ‬استدراج‭ ‬المتلقي‭ ‬ليكون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬التجربة،‭ ‬فيشعر‭ ‬بالتعاطف‭ ‬والهلع‭ ‬مع‭ ‬الشخوص‭ ‬ويتحسس‭ ‬لوعة‭ ‬الوجع‭ ‬الإنساني‭ ‬والخوف‭ ‬من‭ ‬العدو‭ ‬اللامرئي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬الجدري‭.‬

الكتابة‭ ‬عن‭ ‬وباء‭ ‬لم‭ ‬نعاصره‭ ‬عملية‭ ‬محفوفة‭ ‬بالتحديات‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬مقاربتها‭ ‬تاريخياً‭ ‬وطبياً‭ ‬بالرجوع‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬الشفاهي‭ ‬وعدد‭ ‬من‭ ‬المصادر‭ ‬العربية‭ ‬والأجنبية‭. ‬كلها‭ ‬كونت‭ ‬حصيلةً‭ ‬علمية‭ ‬شكلت‭ ‬لبِنات‭ ‬النص‭ ‬الروائي‭. ‬وآمل‭ ‬أن‭ ‬النص‭ ‬خرج‭ ‬بتوليفة‭ ‬سردية‭ ‬تحاول‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬الدقة‭ ‬العلمية‭ ‬والكتابة‭ ‬الإبداعية‭ ‬القابلة‭ ‬للإمتاع‭.‬

حدثني‭ ‬أكثر‭ ‬عن‭ ‬ثنائية‭ ‬الوباء‭ ‬والأدب؟

‏هذه‭ ‬لفتة‭ ‬رائعة‭. ‬الأدب‭ ‬والفنون‭ ‬دائما‭ ‬تسابق‭ ‬العلم‭ ‬الطب،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬يستشرف‭ ‬الأدبُ‭ ‬المستقبلَ‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬العلم‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬الواقع‭. ‬ولكن‭ ‬يظل‭ ‬الوباء‭ ‬منطقة‭ ‬توهج‭ ‬وإبداع‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬العصور‭. ‬خذ‭ ‬مثلا‭ ‬رواية‭ ‬غابرييل‭ ‬ماركيز‭ (‬الحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الكوليرا‭) ‬ورواية‭ (‬الطاعون‭) ‬لكامو،‭ ‬و‭(‬الحرافيش‭) ‬لمحفوظ،‭ ‬و‭(‬براري‭ ‬الحمى‭) ‬لنصر‭ ‬الله‭. ‬سنجد‭ ‬أن‭ ‬الجامع‭ ‬بينها‭ ‬هو‭ ‬تحبيك‭ ‬الوباء‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬الرواية‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬جزءا‭ ‬عضويًا‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬يستميل‭ ‬القارئ‭ ‬ويورطه‭ ‬‏أكثر‭ ‬مع‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخوص‭.‬

‭ ‬‏لديك‭ ‬اهتمام‭ ‬بالتاريخ‭ ‬الطبي‭. ‬ألا‭ ‬تعتبر‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬هي‭ ‬الأخطر‭ ‬تاريخيًّا؟

‏دعني‭ ‬أبدأ‭ ‬بقاعدة‭ ‬أساسية‭: ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬الوباء‭ ‬الأكثر‭ ‬فتكًا‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭- ‬‏لكن‭ ‬هو‭ ‬تحدٍ‭ ‬قائم‭ ‬وخطر‭ ‬حقيقي‭ ‬علينا‭ ‬الحد‭ ‬من‭ ‬آثاره‭. ‬والأمر‭ ‬عائد‭ ‬لنا‭. ‬فكل‭ ‬الأوبئة‭ ‬السابقة‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬تتحكم‭ ‬في‭ ‬البشر‭ ‬ولم‭ ‬يتجاوز‭ ‬دور‭ ‬الإنسان‭ ‬فيها‭ ‬دور‭ ‬المتأثر‭ ‬إجمالًا،‭ ‬لكن‭ ‬التاريخ‭ ‬سيسجل‭ ‬أن‭ ‬جائحة‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬هي‭ ‬أول‭ ‬جائحة‭ ‬يستطيع‭ ‬البشر‭ ‬التأثير‭ ‬فيها‭ ‬وكبح‭ ‬جماحها‭. ‬والدرس‭ ‬المستفاد‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬الصين‭ ‬وكوريا‭ ‬الجنوبية‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬التطبيق‭ ‬الصارم‭ ‬للتباعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وعلاج‭ ‬المصابين‭ ‬ومتابعة‭ ‬جميع‭ ‬الحالات‭ ‬المحتملة‭ ‬استطاع‭ ‬تتغير‭ ‬المعادلة‭ ‬لصالح‭ ‬الإنسان‭ ‬وصارت‭ ‬تجربة‭ ‬يتعلم‭ ‬منها‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭.‬

‏نعم،‭ ‬سنفقد‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬الأرواح‭ ‬وربما‭ ‬أكثر،‭ ‬لكن‭ ‬الخيار‭ ‬بأيدينا‭ ‬كبشر‭.‬

‏وبالمقارنة‭ ‬مثلا‭ ‬بالانفلونزا‭ ‬الاسبانية‭ ‬عام‭ ‬1918‭ ‬نجد‭ ‬أنها‭ ‬قتلت‭ ‬بين‭ ‬50‭ ‬إلى‭ ‬100‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭. ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬الجدري‭ ‬أودى‭ ‬بحياة‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬على‭ ‬300‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬تقريبا‭. ‬وإذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد‭ ‬يقتل‭ ‬في‭ ‬المتوسط‭ ‬حوالي‭ ‬2‭ % ‬وهي‭ ‬نسبة‭ ‬قليلة‭ ‬بالمقارنة‭ ‬بسلالات‏‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬فيروس‭ ‬كورونا‭. ‬فمثلا‭ ‬فيروس‭ ‬سارز‭ ‬SARS‭ ‬كان‭ ‬يقتل‭ ‬حوالي‭ ‬10‭ % ‬من‭ ‬المرضى‭. ‬وفيروس‭ ‬متلازمة‭ ‬الشرق‭ ‬الاوسط‭ ‬MERS‭ ‬كان‭ ‬يقتل‭ ‬حوالي‭ ‬30‭ %‬‭ ‬من‭ ‬المرضى‭.‬

ماذا‭ ‬عن‭ ‬الأوبئة‭ ‬تاريخيا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج؟

من‭ ‬يتتبع‭ ‬تاريخ‭ ‬الخليج‭ ‬يجد‭ ‬أنه‭ ‬مرت‭ ‬عليه‭ ‬عدة‭ ‬تجارب‭ ‬مؤلمة‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬النفط‭.‬

فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬الطاعون‭ ‬والجدري‭ ‬والحصبة‭ ‬والكوليرا‭ ‬كلها‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬وسميت‭ ‬محليا‭ ‬هذه‭ ‬الأعوام‭ ‬بسنوات‭ ‬الرحمة،‭ ‬فمثلا‭ ‬انتشار‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬الإسبانية‭ ‬سنة‭ ‬1919‭ ‬مع‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬وبعدها‭ ‬عودة‭ ‬الطاعون‭ ‬‏للبحرين‭ ‬سنة‭ ‬1924‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬قتل‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬البحرين‭ ‬والخليج‭ ‬وقتها‭. ‬ولك‭ ‬أنت‭ ‬تتصور‭ ‬حجم‭ ‬المعاناه‭ ‬آنذاك‭ ‬حيث‭ ‬ظل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الجثث‭ ‬أياما‭ ‬قبل‭ ‬دفنها‭ ‬لكثرة‭ ‬عدد‭ ‬الوفيات‭ ‬وتخوف‭ ‬الأهالي‭ ‬من‭ ‬المرض‭.‬

‭ ‬ماذا‭ ‬عن‭ ‬اكتشاف‭ ‬علاج‭ ‬أو‭ ‬تطعيم‭ ‬لڤيروس‭ ‬كورونا‭ ‬المستجد؟

‏نعم،‭ ‬هناك‭ ‬جهود‭ ‬علمية‭ ‬كثيرة‭. ‬أما‭ ‬بخصوص‭ ‬التطعيم‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬التجربة‭ ‬على‭ ‬متطوعين‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬واشنطن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬الشهر،‭ ‬ولكن‭ ‬يتوقع‭ ‬معظم‭ ‬الخبراء‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يكون‭ ‬لدينا‭ ‬تطعيم‭ ‬مرخص‭ ‬قبل‭ ‬حوالي‭ ‬18‭ - ‬24‭ ‬شهرا‭ ‬من‭ ‬الان‭.‬

‏وبالمقابل‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬6‭ ‬دراسات‭ ‬تجري‭ ‬حاليا‭ ‬على‭ ‬علاجات‭ ‬مضادة‭ ‬للفيروس‭ ‬في‭ ‬الأشخاص‭ ‬المصابين،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬يُتوقع‭ ‬أن‭ ‬اثبات‭ ‬فعاليتها‭ ‬وأمانها‭ ‬للاستخدام‭ ‬سيستغرق‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬أو‭ ‬سنوات‭.‬

ومع‭ ‬إيماني‭ ‬أن‭ ‬الأبحاث‭ ‬الطبية‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬ستنجح‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬اكتشاف‭ ‬تطعيم‭ ‬وقائي‭ ‬للأصحاء‭ ‬وأيضا‭ ‬علاج‭ ‬مضاد‭ ‬للفيروس‭ ‬للمصابين،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬أعتقد‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الخطوات‭ ‬المهمة‭ ‬‏لن‭ ‬تكون‭ ‬بين‭ ‬يدينا‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬القادمة،‭ ‬حيث‭ ‬إننا‭ ‬نحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تدخل‭ ‬سريع‭ ‬لوقف‭ ‬انتشار‭ ‬الجائحة‭ ‬عالمياً‭ ‬وهذه‭ ‬الخطوات‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حازمة‭ ‬وشاملة‭ ‬وتقوم‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬التباعد‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وفحص‭ ‬أكبر‭ ‬عدد‭ ‬ممكن‭ ‬وعزل‭ ‬وعلاج‭ ‬المصابين‭ ‬بكفاءة‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬مبادئ‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭. ‬ولنتذكر‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬مسؤول‭ ‬وأن‭ ‬أي‭ ‬تهاون‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬طرف‭ ‬سواء‭ ‬أفراداً‭ ‬أو‭ ‬مؤسسات‭ ‬أو‭ ‬دول‭ ‬سيدفع‭ ‬ثمنه‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭ ‬غاليا‭.‬

هل‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬أخيرة؟

نحن‭ ‬نمر‭ ‬بظروف‭ ‬عالمية‭ ‬استثنائية‭. ‬نعلم‭ ‬أنها‭ ‬لن‭ ‬تستمر‭ ‬للأبد‭. ‬وأنا‭ ‬شخصيا‭ ‬متفائل‭ ‬بقدرة‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬التعاون‭.‬

نعم‭. ‬ستمر‭ ‬هذه‭ ‬الجائحة‭ ‬خلال‭ ‬الأشهر‭ ‬القادمة،‭ ‬وستكون‭ ‬لدينا‭ ‬حكايا‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬ولكن‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نختار‭. ‬فهل‭ ‬سنخبرهم‭ ‬بأننا‭ ‬فشلنا‭ ‬في‭ ‬‏احتوائها‭.. ‬أم‭ ‬أنها‭ ‬ستكون‭ ‬ملحمة‭ ‬انتصار‭ ‬البشرية‭ ‬على‭ ‬جائحة‭ ‬‏لم‭ ‬يرَ‭ ‬العالم‭ ‬لها‭ ‬مثيلاً‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬