كتبهم مدفونة تحت كومة وأقدام البائع

لا عزاء للأدباء بوجود دور النشر الاستغلالية

‭ ‬تذكرنا‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬إصدار‭ ‬جديد‭ ‬ننوي‭ ‬أن‭ ‬نصدره‭ ‬بأن‭ ‬“لا‭ ‬سوق‭ ‬للأدب”،‭ ‬وذلك‭ ‬بالطبع‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منها‭ ‬لإقناعنا‭ ‬بأن‭ ‬النشر‭ ‬صعب‭ ‬وعلينا‭ ‬تحمل‭ ‬تكاليفه‭ ‬“ثمن‭ ‬الحبر‭ ‬والورق‭ ‬والغلاف”،‭ ‬وتقبل‭ ‬عواقبه‭ ‬“الخسارة‭ ‬المادية‭ ‬والفشل‭ ‬المعنوي”‭. ‬وعلينا‭ ‬بالتالي‭ ‬أن‭ ‬نتفهم‭ ‬ما‭ ‬تواجهه‭ ‬هي‭ - ‬كدار‭ ‬نشر‭ - ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬ونقدر‭ ‬ما‭ ‬تتكبده‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تسوق‭ ‬لمؤلفاتنا،‭ ‬وتقف‭ ‬بجانبنا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نحصد‭ ‬الشهرة‭.‬

ونحن،‭ ‬ككائنات‭ ‬معنوية‭ ‬حلمها‭ ‬الأكبر‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬للقراء‭ ‬“لا‭ ‬أن‭ ‬تحصد‭ ‬المال”،‭ ‬ندفع‭ ‬“المبلغ”‭ ‬اللازم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬رؤية‭ ‬أحلامنا‭ ‬محققة،‭ ‬ونفكر‭ ‬كذلك‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ - ‬على‭ ‬أي‭ ‬حال‭ - ‬البداية‭ ‬فقط،‭ ‬وبعد‭ ‬أعوام‭ ‬سنصل‭ ‬إلى‭ ‬مكانة‭ ‬أدبية‭ ‬مختلفة‭ ‬تتيح‭ ‬لنا‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬عرض‭ ‬أفضل‭. ‬

ولكننا‭ ‬نذهب‭ ‬لمعارض‭ ‬الكتاب‭ ‬بعدها‭ ‬ولا‭ ‬نجد‭ ‬كتبنا‭ ‬يروج‭ ‬لها‭ ‬بالشكل‭ ‬الموعود،‭ ‬بل‭ ‬نعثر‭ ‬عليها‭ ‬مدفونة‭ ‬تحت‭ ‬كومة‭ ‬كتب‭ ‬أخرى‭ ‬أو‭ ‬نراها‭ ‬تحت‭ ‬أقدام‭ ‬البائع،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬نجدها‭ ‬أبدا‭ ‬ضمن‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬حملتها‭ ‬دار‭ ‬النشر‭ ‬معها‭ ‬إلى‭ ‬المعرض،‭ ‬الدار‭ ‬ذاتها‭ ‬التي‭ ‬أقنعتك‭ ‬بضرورة‭ ‬أن‭ ‬تطبع‭ ‬على‭ ‬حسابك‭ ‬وستروج‭ ‬هي‭ ‬بإخلاص‭ ‬للكتاب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البلاد‭!!.‬

إن‭ ‬سألت‭ ‬البائع‭ ‬قد‭ ‬تفاجأ‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أصلا‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭ ‬ولم‭ ‬يسمع‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬أو‭ ‬يجيبك‭ ‬بأنه‭ ‬كتاب‭ ‬غير‭ ‬مطلوب‭ ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬يكلف‭ ‬نفسه‭ ‬عناء‭ ‬إحضار‭ ‬نسخ‭ ‬منه‭ ‬“وسيقترح‭ ‬بالطبع‭ ‬عناوين‭ ‬كتب‭ ‬أخرى‭ ‬تشتريها‭ ‬أفضل‭ ‬مما‭ ‬سألت‭ ‬عنه‭!‬”‭.‬

‭ ‬وإذا‭ ‬كشفت‭ ‬له،‭ ‬أو‭ ‬اكتشف،‭ ‬بأن‭ ‬مؤلف‭ ‬الكتاب‭ ‬المذكور‭ ‬أولا‭ ‬هو‭ ‬بذاته‭ ‬الواقف‭ ‬الآن‭ ‬أمامه،‭ ‬يضطرب،‭ ‬ويقول‭ - ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منه‭ ‬لتبرير‭ ‬موقفه‭ ‬“وربما‭ ‬أيضا‭ ‬لرفع‭ ‬معنوياتك”‭ - ‬أن‭ ‬نسخ‭ ‬كتابك،‭ ‬بالأحرى،‭ ‬قد‭ ‬نفدت‭ ‬وإلا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليتغافل‭ ‬عن‭ ‬إحضاره‭. ‬

تجرأ‭ ‬وطالب‭ - ‬بعد‭ ‬أعوام‭ ‬عديدة‭ - ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬نسبتك‭ ‬من‭ ‬المبيعات‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬ينص‭ ‬العقد،‭ ‬أو‭ ‬أزعم‭ ‬بأنك‭ ‬تسأل‭ - ‬فقط‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الفضول‭ - ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬النسخ‭ ‬التي‭ ‬بيعت‭.. ‬ستطلب‭ ‬الدار‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬لعمل‭ ‬الحصر‭ ‬والجرد،‭ ‬ثم‭ ‬لن‭ ‬تتصل‭ ‬بك،‭ ‬وحين‭ ‬تعاود‭ ‬أنت‭ ‬السؤال‭ ‬ستخبرك‭ ‬بأنه‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬هناك‭ ‬مئات‭ ‬النسخ‭ ‬المتبقية،‭ ‬فكما‭ ‬تتذكر‭: ‬“لا‭ ‬سوق‭ ‬للأدب”،‭ ‬وربما‭ ‬تقترح‭ ‬أيضًا‭ ‬بأن‭ ‬ترسل‭ ‬لك‭ ‬النسخ‭ ‬الباقية‭ ‬كلها‭ ‬لتتصرف‭ ‬فيها‭ ‬بمعرفتك‭ ‬لو‭ ‬أحببت‭. ‬

أما‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬الأكثر‭ ‬تهذيبا‭ ‬وحنكة‭ ‬فستسألك‭ ‬عن‭ ‬جديدك،‭ ‬لأنه‭ ‬سيسرها‭ ‬كثيرا‭ ‬أن‭ ‬تحظى‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬بشرف‭ ‬النشر‭ ‬لك،‭ ‬أنت‭ ‬كاتب‭ ‬شاب‭ ‬ولديك‭ ‬فكر‭ ‬جديد‭ ‬يستحق‭ ‬أن‭ ‬يعتنى‭ ‬به‭ ‬وسيلمع‭ ‬نجمك‭ ‬يوما‭ ‬ويصبح‭ ‬اسمك‭ ‬عظيما،‭ ‬تحتاج‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬تصبر‭ ‬أكثر،‭ ‬وتستمر‭. ‬هيا‭ ‬انهض‭ ‬واكتب‭. ‬

وهكذا‭. ‬نعود‭ ‬نكتب‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ونستمر‭ ‬بالنشر‭ ‬“على‭ ‬حسابنا”‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نعرف‭ ‬يوما‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬وصلنا‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬أحلامنا،‭ ‬إن‭ ‬وصلنا‭ ‬أبدا‭ ‬لأي‭ ‬شيء‭. ‬

مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬يرويها‭ ‬كثير‭ ‬ممن‭ ‬ينتمون‭ ‬للوسط‭ ‬الأدبي،‭ ‬فحتى‭ ‬الأسماء‭ ‬الكبيرة‭ ‬المعروفة‭ ‬بقيت‭ ‬أرقام‭ ‬مبيعات‭ ‬كتبهم،‭ ‬برغم‭ ‬شهرتهم،‭ ‬سرا‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬دور‭ ‬النشر،‭ ‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الأدباء‭ ‬ليسوا‭ ‬كائنات‭ ‬مادية‭ ‬بحتة،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬يحق‭ ‬لأصحاب‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬استغلال‭ ‬ذلك،‭ ‬فالاحساس‭ ‬بأن‭ ‬ذكاءك‭ ‬يهان‭ ‬وبأنك‭ ‬تُستغفل‭ ‬ليس‭ ‬احساسا‭ ‬مريحا‭ ‬لأي‭ ‬أحد،‭ ‬وحين‭ ‬يكون‭ ‬الوسط‭ ‬الذي‭ ‬يحدث‭ ‬فيه‭ ‬ذلك‭ ‬اسمه‭ ‬الوسط‭ ‬الـ‭ ‬“‭ ‬أدبي‭ ‬“،‭ ‬فإن‭ ‬الأمر‭ ‬يكون‭ ‬أمرّ،‭ ‬إذ‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬التعامل‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬النزاهة‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬جدا،‭ ‬وهذه‭ ‬حقيقة،‭ ‬أن‭ ‬نجزم‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬سوق‭ ‬الأدب‭ ‬والكتاب‭ ‬حقا‭ ‬بخير،‭ ‬أم‭ ‬في‭ ‬كساد،‭ ‬لكن‭ ‬اليقين‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ - ‬في‭ ‬كل‭ ‬الأحوال‭ - ‬لا‭ ‬تخسر‭ ‬البتة،‭ ‬فعزاؤها‭ ‬أنها‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬تكدست‭ ‬لديها‭ ‬الكتب،‭ ‬قد‭ ‬تسلمت‭ ‬مقدما‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬يرضيها‭ ‬من‭ ‬جيب‭ ‬الكاتب،‭ ‬أما‭ ‬الكتاب‭ ‬أنفسهم،‭ ‬فلا‭ ‬عزاء‭ ‬لهم‭.‬

بقلم‭: ‬فتحية‭ ‬ناصر‭ ‬