هندسة اللاوعي وعلاج رهاب الذاكرة بالألوان

أين نجلس أم أين تجلس؟

الإيهام‭ ‬والمراوغة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الواعية‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬اللوحات‭ ‬واللاواعية‭ ‬في‭ ‬لوحات‭ ‬أخرى،‭ ‬والرعشة‭ ‬على‭ ‬مسامات‭ ‬الألوان‭ ‬والريشة‭ ‬التي‭ ‬تزحف‭ ‬على‭ ‬تقاطيع‭ ‬الأشكال‭ ‬وملامح‭ ‬الشخوص‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬صراعها‭ ‬الذاتي‭ ‬حول‭ ‬كرسيّ‭ ‬وجودها؛‭ ‬فتظهر‭ ‬شفافة‭ ‬رغم‭ ‬معمودية‭ ‬اللون‭ ‬وكثافة‭ ‬الضباب‭ ‬الذي‭ ‬يغطي‭ ‬التفاصيل،‭ ‬وبكثير‭ ‬من‭ ‬اليقين‭ ‬وقليل‭ ‬من‭ ‬الشك‭ ‬بأنها‭ ‬أجساد‭ ‬أنثوية‭ ‬الملامح؛‭ ‬إذ‭ ‬نراها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬لوحة‭ ‬تتخذ‭ ‬لذاتها‭ ‬شكلًا‭ ‬متغيّرًا‭ ‬ونمطًا‭ ‬مختلفًا‭ ‬في‭ ‬صراعه‭ ‬حول‭ ‬الكرسي،‭ ‬فتارة‭ ‬نراها‭ ‬تتأمل‭ ‬في‭ ‬كرسي‭ ‬كينونتها،‭ ‬وتارة‭ ‬أخرى‭ ‬نلمحها‭ ‬مستلقية‭ ‬على‭ ‬رمل‭ ‬هواجسها‭ ‬تحلُم‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬صيرورتها،‭ ‬وهذا‭ ‬التأويل‭ ‬السريالي‭ ‬المتخيّل‭ ‬قادني‭ ‬باللاوعي‭ ‬إلى‭ ‬استنباط‭ ‬عنوان‭ ‬آخر‭ ‬هو‭ ‬“أين‭ ‬تجلس؟”،‭ ‬فقد‭ ‬تجلَّى‭ ‬لي‭ ‬كفستان‭ ‬أنثويّ‭ ‬الطراز،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬مجازًا،‭ ‬لمحت‭ ‬طيف‭ ‬امرأة‭ ‬تغيّر‭ ‬من‭ ‬شكل‭ ‬حضورها‭ ‬وتتجسد‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬هيئة‭.‬

أراها‭ ‬امرأة‭ ‬تمشي‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الوجود،‭ ‬تبحث‭ ‬وسط‭ ‬الزحام‭ ‬الكبير‭ ‬وصخب‭ ‬الأحلام‭ ‬وضجيج‭ ‬هواجسها‭ ‬المكبوتة‭ ‬والمخبأة‭ ‬في‭ ‬سراديب‭ ‬اللاوعي‭ ‬وبشغف‭ ‬جامح‭ ‬واضطراب‭ ‬وريبة،‭ ‬تفتش‭ ‬عن‭ ‬كرسي‭ ‬وجودها‭ ‬وعن‭ ‬وجودها‭ ‬الموجود‭ ‬شكلًا‭ ‬واللاموجود‭ ‬مجازًا‭.‬

في‭ ‬معرض‭ ‬الفنانة‭ ‬التشكيلية‭ ‬الشيخة‭ ‬هلا‭ ‬بنت‭ ‬محمد‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬الذي‭ ‬رفعت‭ ‬عنه‭ ‬ستائر‭ ‬الدهشة‭ ‬يوم‭ ‬15‭ ‬فبراير،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬الغموض‭ ‬المحيط‭ ‬والمهيمن‭ ‬حول‭ ‬عنوان‭ ‬المعرض‭ ‬“أين‭ ‬نجلس؟”‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬سبق‭ ‬وأوردت‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬وعلى‭ ‬حسب‭ ‬تقويم‭ ‬حدسي‭ ‬ككاتب‭ ‬مادته‭ ‬الصورة‭ ‬المتخيّلة‭ ‬وليس‭ ‬كناقد‭ ‬تشكيلي،‭ ‬فالنقد‭ ‬التشكيلي‭ ‬ليس‭ ‬محرابي‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬حتى‭ ‬طقوسه‭ ‬ولا‭ ‬أجيد‭ ‬فك‭ ‬رموزه؛‭ ‬إنما‭ ‬ظهر‭ ‬لي‭ ‬كطيف‭ ‬عابر‭ ‬وكومضة‭ ‬خاطفة‭ ‬أن‭ ‬أصل‭ ‬العنوان‭ ‬المحفور‭ ‬على‭ ‬ألواح‭ ‬العقل‭ ‬اللاواعي‭ ‬كان‭ ‬“أين‭ ‬تجلس”؟

فلو‭ ‬تأملنا‭ ‬لبرهة‭ ‬من‭ ‬السريالية‭ ‬وجلسنا‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬المجاز‭ ‬والتأويل،‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬العنوان‭ ‬“أين‭ ‬تجلس”‭ ‬يصلح‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ثوبًا‭ ‬لغويًا‭ ‬مشاعًا‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬مقاس‭ ‬أيّ‭ ‬إنسان‭ ‬يعتريه‭ ‬برد‭ ‬الفضول‭ ‬وصقيع‭ ‬التساؤلات‭ ‬بشأن‭ ‬مكانته‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجود‭ ‬وأين‭ ‬هو‭ ‬كرسيه‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الوجود؟

إشعال‭ ‬فتيل‭ ‬الدهشة‭ ‬وقنديل‭ ‬الفضول

الفنانة‭ ‬الشيخة‭ ‬هلا‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬بدءًا‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬معرضها‭ ‬“أين‭ ‬نجلس؟”‭ ‬خلقت‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬المتلقي‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الفضول،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ترفع‭ ‬الستائر‭ ‬عن‭ ‬ملامح‭ ‬لوحاتها‭ ‬واستطاعت‭ ‬بذكاء‭ ‬سيكولوجي‭ ‬فلسفي،‭ ‬أن‭ ‬تفرط‭ ‬أمام‭ ‬بصر‭ ‬وبصيرة‭ ‬المتلقي‭ ‬طوق‭ ‬التساؤلات‭ ‬واستدرجته‭ ‬لتجعله‭ ‬ينغمس‭ ‬في‭ ‬نسيج‭ ‬لوحاتها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أشعلت‭ ‬في‭ ‬رأسه‭ ‬فتيل‭ ‬التساؤلات؛‭ ‬ليبحث‭ ‬معها‭ ‬عن‭ ‬مكانته‭ ‬وعن‭ ‬كرسيه،‭ ‬إذ‭ ‬بدأت‭ ‬سؤالها‭ ‬بالخطوط‭ ‬المتشابكة‭ ‬وبالألوان‭ ‬الصارخة‭ ‬“أين‭ ‬تجلس؟”‭.‬

هندسة‭ ‬الفراغ‭ ‬وعلاج‭ ‬الذاكرة‭ ‬بالألوان

هندسة‭ ‬العقل‭ ‬اللاواعي،‭ ‬ملكة‭ ‬عظيمة‭ ‬يحظى‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬تفوق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وبسط‭ ‬سطوة‭ ‬وعيه‭ ‬الواعي‭ ‬لما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬دهاليز‭ ‬اللاوعي،‭ ‬فهو‭ ‬يعرف‭ ‬متى‭ ‬يقلب‭ ‬طاولة‭ ‬الذكريات‭ ‬الموجعة‭ ‬بوجه‭ ‬عقله‭ ‬اللاواعي،‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬يستغلها‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬ليستفز‭ ‬فيه‭ ‬رهاب‭ ‬الذاكرة،‭ ‬فيغير‭ ‬من‭ ‬جغرافية‭ ‬مزاجه‭ ‬ويعبث‭ ‬بمناخ‭ ‬أفكاره‭ ‬ويحرك‭ ‬فيه‭ ‬ناعورة‭ ‬المخاوف‭ ‬والهواجس‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الرهاب‭ ‬والفزع‭ ‬ولكي‭ ‬يحرر‭ ‬الإنسان‭ ‬وعيّه‭ ‬من‭ ‬عبودية‭ ‬اللاوعي‭ ‬ويكسر‭ ‬أصفاد‭ ‬الرهاب‭ ‬هو‭ ‬يتبنّى‭ ‬هندسة‭ ‬الفراغ،‭ ‬عندما‭ ‬يستحضر‭ ‬من‭ ‬تلقاء‭ ‬نفسه‭ ‬ذكرياته‭ ‬المؤرقة‭ ‬وهواجس‭ ‬الماضي‭ ‬الدفين‭ ‬ويفرغها‭ ‬إما‭ ‬يسردها‭ ‬كلامًا‭ ‬أويكتبها‭ ‬حروفًا‭ ‬أو‭ ‬يرسمها‭ ‬خطوطًا‭ ‬وأشكالًا‭ ‬متداخلة،‭ ‬حتى‭ ‬تفرغ‭ ‬منها‭ ‬ذاكرته‭ ‬وتفرغ‭ ‬منها‭ ‬الروح،‭ ‬فيجسدها‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬فني‭ ‬مُلهم‭ ‬ومحفز‭ ‬للآخرين،‭ ‬إنه‭ ‬علاج‭ ‬الذاكرة‭ ‬من‭ ‬رهابها‭ ‬وهذا‭ ‬العلاج‭ ‬الفلسفي‭ ‬العميق،‭ ‬قد‭ ‬جسدته‭ ‬الفنانة‭ ‬الشيخة‭ ‬هلا‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬في‭ ‬معرضها‭ ‬بالألوان‭ ‬كعلاج‭ ‬من‭ ‬رهاب‭ ‬الذاكرة،‭ ‬إذ‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬تقديمها‭ ‬لمضمون‭ ‬المعرض‭ ‬“تتكلم‭ ‬هذه‭ ‬المجموعة‭ ‬من‭ ‬الأعمال‭ ‬عن‭ ‬حالات‭ ‬مختلفة‭ ‬للبشر‭ ‬تحاكي‭ ‬شيئًا‭ ‬دفينًا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬واستعادتها‭ ‬يكون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬العلاج”‭. ‬

فن‭ ‬التأويل‭ ‬وفلسفة‭ ‬المعنى

الفنان،‭ ‬شاسع‭ ‬الذكاء‭ ‬والفطنة‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يقدر‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬صديقًا‭ ‬حميمًا‭ ‬للمتلقي؛‭ ‬عندما‭ ‬يجسد‭ ‬عمله‭ ‬الفني‭ ‬يقسم‭ ‬الأدوار‭ ‬ما‭ ‬بينه‭ ‬وما‭ ‬بين‭ ‬المتلقي‭.‬

ويعطي‭ ‬لنفسه‭ ‬حق‭ ‬التفرد‭ ‬والانفراد‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬المضمون،‭ ‬ويترك‭ ‬باب‭ ‬التأويل‭ ‬وفلسفة‭ ‬المعنى‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬المتلقي،‭ ‬هو‭ ‬يمنحه‭ ‬مساحة‭ ‬حرة‭ ‬ومطلقة‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬المعنى‭ ‬على‭ ‬حسب‭ ‬نظرته‭ ‬لمضمون‭ ‬فنه‭ ‬وعلى‭ ‬حسب‭ ‬مزاجه‭ ‬الجمالي‭ ‬وذائقته‭ ‬الفنية‭ ‬وكلما‭ ‬ترك‭ ‬للمتلقي‭ ‬باب‭ ‬التأويل‭ ‬مفتوحًا‭ ‬كلما‭ ‬اتسعت‭ ‬مساحة‭ ‬الألفة‭ ‬والتناغم‭ ‬ما‭ ‬بينهما‭. ‬

الفنانة‭ ‬هلا‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬وبفطنة‭ ‬منها‭ ‬تركت‭ ‬باب‭ ‬التأويل‭ ‬مفتوح‭ ‬الفضاء‭ ‬والحدود‭ ‬للمتلقي‭ ‬عندما‭ ‬انتقت‭ ‬لمعرضها‭ ‬عنوانًا‭ ‬مفتوح‭ ‬التأويل‭ ‬والمعنى،‭ ‬يحمل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬طياته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬تأويل‭ ‬“أين‭ ‬نجلس؟”،‭ ‬وبهذا‭ ‬تكون‭ ‬الفنانة‭ ‬الشيخة‭ ‬هلا‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تستدرج‭ ‬المتلقي‭ ‬لتجعله‭ ‬شريكًا‭ ‬مع‭ ‬لوحاتها‭ ‬في‭ ‬الصراع‭ ‬والقلق؛‭ ‬كي‭ ‬يستنبط‭ ‬منها‭ ‬المعنى‭ ‬ويشاركها‭ ‬في‭ ‬الإجابة‭ ‬على‭ ‬سؤال‭ ‬ألوانها‭ ‬“أين‭ ‬نجلس؟”؟‭ ‬أو‭ ‬“أين‭ ‬تجلس؟”‭ ‬

 

الكاتب‭ ‬والشاعر‭: ‬لؤي‭ ‬طه