انفرد بدستوره الفني الخلاق على الخشبة وأمام الكاميرا

الذكرى الأولى لوفاة الفنان القدير إبراهيم بحر

| أسامة الماجد

في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬فبراير‭ ‬العام‭ ‬2019،‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬الفنان‭ ‬القدير‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر،‭ ‬أحد‭ ‬العظماء‭ ‬الذين‭ ‬تركوا‭ ‬بصماتهم‭ ‬على‭ ‬المسرح‭ ‬والدراما‭ ‬محليًا‭ ‬وعربيًا،‭ ‬ودخلت‭ ‬مؤلفاته‭ ‬التاريخ‭ ‬وأصبح‭ ‬لها‭ ‬صدى‭ ‬عالمي‭.‬

إبراهيم‭ ‬بحر‭ ‬كما‭ ‬عرفناه،‭ ‬وضع‭ ‬نظامًا‭ ‬صارمًا‭ ‬حيال‭ ‬التمثيل‭ ‬وأدخل‭ ‬نظريات‭ ‬جديدة،‭ ‬وانفرد‭ ‬بدستوره‭ ‬الفني‭ ‬الخلاق‭ ‬على‭ ‬الخشبة‭ ‬وأمام‭ ‬الكاميرا،‭ ‬وتميز‭ ‬بالحذر‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬أدواره‭.‬

وأذكر‭ ‬حينما‭ ‬سألته‭ ‬في‭ ‬مقابلة‭ ‬كنت‭ ‬أجريتها‭ ‬معه‭ ‬العام‭ ‬2008‭ ‬في‭ ‬منزله،‭ ‬“ما‭ ‬الذي‭ ‬يمثله‭ ‬لك‭ ‬المسرح؟‭ ‬فأجاب‭: ‬المسرح‭ ‬حياتي،‭ ‬أتنفس‭ ‬مسرحًا‭ ‬وأعيش‭ ‬مسرحًا،‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬انتمي‭ ‬إلي‭ ‬أي‭ ‬مسرح‭ ‬من‭ ‬المسارح‭ ‬الأهلية،‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أبتعد‭ ‬عن‭ ‬المسرح،‭ ‬وأريد‭ ‬أن‭ ‬أشارك‭ ‬إخواني‭ ‬في‭ ‬تطوير‭ ‬المسرح‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الحلم،‭ ‬ولولا‭ ‬وجود‭ ‬هذا‭ ‬الحلم‭ ‬لانتهينا‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد”‭. ‬

وكان‭ ‬الفنان‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬مبتكرًا‭ ‬للطرق‭ ‬الجديدة‭ ‬لفن‭ ‬التمثيل،‭ ‬وحياته‭ ‬مليئة‭ ‬بالقراءات‭ ‬والبحث‭ ‬والاطلاع‭ ‬والتحليلات،‭ ‬ويتعامل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يعرض‭ ‬عليه‭ ‬وما‭ ‬يلتهمه‭ ‬من‭ ‬ثقافات‭ ‬فنية‭ ‬مختلفة‭ ‬بالشعور‭ ‬والذاكرة،‭ ‬والعودة‭ ‬بأفكاره‭ ‬إلى‭ ‬التقديم‭ ‬وعملية‭ ‬الاسترجاع‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء،‭ ‬وأتصور‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬مستواه‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬جهد‭ ‬كبير‭ ‬وشاق‭.‬

ذات‭ ‬مرة،‭ ‬دخلت‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬الاستراحة‭ ‬أيام‭ ‬تصوير‭ ‬مسلسل‭ ‬“الفجر‭ ‬المستحيل”‭ ‬العام‭ ‬2007،‭ ‬وكان‭ ‬العمل‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬معصومة‭ ‬المطاوعة‭ ‬وإخراج‭ ‬ياسر‭ ‬ناصر،‭ ‬فوجدته‭ ‬يضع‭ ‬خطوطا‭ ‬وتشكيلات‭ ‬وألوانا‭ ‬وانطباعات‭ ‬على‭ ‬النص‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بيده،‭ ‬وأدركت‭ ‬حينها‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬يغوص‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬الشخصية،‭ ‬ويريد‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬دقائق‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬المسلسل‭ ‬بعمق‭ ‬ووعي‭ ‬نادرين،‭ ‬فما‭ ‬دلالة‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الثراء‭ ‬الفني‭ ‬الخصب؟‭ ‬

أولا‭: ‬تميز‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر‭ ‬بالالتزام‭ ‬الفني‭ ‬والرؤى‭ ‬الفلسفية‭ ‬المتنوعة،‭ ‬ما‭ ‬جعلته‭ ‬يقدم‭ ‬أنماط‭ ‬الأدوار‭ ‬كافة،‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬وفي‭ ‬الدراما‭ ‬التلفزيونية،‭ ‬ومرد‭ ‬ذلك‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الذي‭ ‬نشأ‭ ‬فيه،‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬مشحونًا‭ ‬بمئات‭ ‬الأفكار‭ ‬والتفسيرات‭ ‬التي‭ ‬أنجبها‭ ‬الواقع‭ ‬الحضاري،‭ ‬فبحر‭ ‬انطلق‭ ‬من‭ ‬فكرة‭ ‬أساسية‭ ‬مفادها‭ ‬إمكانية‭ ‬الفن‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬الحياة،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬عنده‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬يتميز‭ ‬الممثل‭ ‬بعمق‭ ‬الثقافة‭ ‬وأصالة‭ ‬الإنتاج،‭ ‬والأسس‭ ‬التربوية‭ ‬واللغوية،‭ ‬فناموس‭ ‬البقاء‭ ‬للفنان‭ ‬ثقافته‭ ‬وعلمه،‭ ‬ويقول‭ ‬دوستروفيسكي‭ ‬“الممثل‭ ‬الحقيقي،‭ ‬هو‭ ‬الممثل‭ ‬المثقف‭ ‬الذي‭ ‬تنهش‭ ‬الثقافة‭ ‬والمعرفة‭ ‬صدره،‭ ‬ويقف‭ ‬عملاقا‭ ‬يبشر‭ ‬بالخلاص‭ ‬ويرفع‭ ‬منارات‭ ‬الهداية”‭. ‬

ثانيا‭: ‬جميع‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬الفنان‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر‭ ‬لازالت‭ ‬عالقة‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬المشاهدين،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬المهم‭.‬

وأعمال‭ ‬الفنانين‭ ‬التي‭ ‬تعيش،‭ ‬تعيش‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬جزءًا‭ ‬منهم،‭ ‬ولا‭ ‬يحقق‭ ‬الفنان‭ ‬أبدًا‭ ‬كل‭ ‬رؤيته‭ ‬عن‭ ‬الحياة،‭ ‬وما‭ ‬يتركه‭ ‬لنا‭ ‬ليس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬مائدة‭ ‬حياته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حافلة،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬نحن‭ ‬نعيش‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭. ‬

ثالثا‭: ‬يرى‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر‭ ‬أن‭ ‬للفن‭ ‬دائمًا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ثقافة‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬حضارة،‭ ‬دور‭ ‬مهم‭ ‬يقوم‭ ‬به،‭ ‬وهو‭ ‬تفسير‭ ‬المرحلة‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬الإنسان‭ ‬تفسيرًا‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬متناول‭ ‬الجميع،‭ ‬فمن‭ ‬“جيوتو”‭ ‬إلى‭ ‬“هوميروس”،‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك،‭ ‬إعطاء‭ ‬المعنى‭ ‬الحقيقي‭ ‬للأشياء،‭ ‬إعطاء‭ ‬مجردا‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬غرض‭ ‬تعليمي‭. ‬

رابعا‭: ‬من‭ ‬عاشر‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر‭ ‬عن‭ ‬قرب،‭ ‬سيدرك‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬إيمانه‭ ‬بالمقولة‭ ‬الخالدة‭ ‬“إن‭ ‬نخاع‭ ‬الأمة‭ ‬يكمن‭ ‬داخل‭ ‬فن‭ ‬الفنان،‭ ‬وان‭ ‬الذي‭ ‬يميت‭ ‬الفنانين‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يخسر‭ ‬الصفقة‭ ‬ويعرض‭ ‬نفسه‭ ‬للخطر،‭ ‬لذا‭ ‬فإن‭ ‬مصير‭ ‬الأمة‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬أبدا‭ ‬عن‭ ‬مصير‭ ‬فنانيها”‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬الفنان‭ ‬الكبير‭ ‬إبراهيم‭ ‬بحر،‭ ‬الذي‭ ‬أنتج‭ ‬فنا‭ ‬عظيما‭ ‬يلفت‭ ‬النظر،‭ ‬وأحدث‭ ‬ضجة‭ ‬وترك‭ ‬أثرا،‭ ‬فكل‭ ‬أعماله‭ ‬تتسم‭ ‬بمظاهر‭ ‬العظمة‭ ‬والتألق‭ ‬والقوة‭.‬