رواية تحملك على أجنحة الطب والأدب بقداسة تاريخية

الخزنة يصدر “مهاجرٌ في زمن الجُدري”

| أسامة الماجد

‏صدرت‭ ‬أخيرًا،‭ ‬رواية‭ ‬“مهاجر‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الجدري”‭ ‬لعمار‭ ‬الخزنة‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬كلمات‭ ‬للنشر،‭ ‬وأقيم‭ ‬حفل‭ ‬تدشين‭ ‬للرواية‭ ‬في‭ ‬نادي‭ ‬سماهيج‭ ‬الثقافي‭ ‬والرياضي،‭ ‬وسط‭ ‬حضور‭ ‬لفيف‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬والمثقفين‭ ‬والمهتمين‭ ‬بالرواية‭.‬

ويخط‭ ‬الخزنة‭ ‬روايته‭ ‬الأولى‭ ‬بنفس‭ ‬الكاتب‭ ‬المهووس‭ ‬بالتفاصيل،‭ ‬وكلمات‭ ‬الطبيب‭ ‬الحاذق،‭ ‬برواية‭ ‬لاقت‭ ‬استحسان‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المتلقين،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬النقاد‭ ‬أو‭ ‬القراء؛‭ ‬لأنها‭ ‬تمسك‭ ‬بمفاصل‭ ‬الوجع‭ ‬الإنساني،‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬جريئة‭ ‬لمفاهيم‭ ‬جدلية‭ ‬مثل‭ ‬الهجرة‭ ‬والوطن،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬الناقد‭ ‬زكريا‭ ‬رضي‭ ‬“إنها‭ ‬رواية‭ ‬تضعك‭ ‬أمام‭ ‬تخوم‭ ‬مخيلة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تؤرشف‭ ‬لتاريخ‭ ‬المنطقة‭ ‬بذكاء‭ ‬عال،‭ ‬وبقدرة‭ ‬على‭ ‬الإيهام،‭ ‬حتى‭ ‬كأنك‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬الحقيقة‭ ‬من‭ ‬الخيال”‭.‬

وإذا‭ ‬كانت‭ ‬الرواية‭ ‬توهمك‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬مضى،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬القارئ‭ ‬يستشعر‭ ‬أنها‭ ‬تخاطبه‭ ‬الآن‭ ‬وهنا،‭ ‬وأن‭ ‬تحديات‭ ‬وإسقاطات‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬واقع‭ ‬نعيشه،‭ ‬فالرواية‭ ‬تجعلك‭ ‬توقن‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬منا‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬ولكل‭ ‬منا‭ ‬له‭ ‬هجرته‭. ‬

“البلاد”‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬مع‭ ‬الخزنة؛‭ ‬لتستكشف‭ ‬جوانب‭ ‬جديدة‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭.‬

‏بداية‭ ‬نبارك‭ ‬لك‭ ‬مولودك‭ ‬الثقافي‭ ‬الأول،‭ ‬ليتك‭ ‬تعرفنا‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الرواية‭ ‬أين‭ ‬ومتى‭ ‬ولدت؟

‏‭-‬لا‭ ‬أعتقد‭ ‬واقعًا‭ ‬بوجود‭ ‬لحظة‭ ‬محددة‭ ‬لولادة‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية؛‭ ‬لأنها‭ ‬عملية‭ ‬تراكمية‭ ‬وليست‭ ‬وليدة‭ ‬لحظة‭ ‬إلهام‭ ‬واحدة‭ ‬كما‭ ‬يتصور‭ ‬الكثيرون‭.‬

فالتجربة‭ ‬نتيجة‭ ‬مزاوجة‭ ‬بين‭ ‬الخلق‭ ‬التخيلي‭ ‬وبين‭ ‬اللاوعي،‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬الأثيري‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬مر‭ ‬بنا‭ ‬والمخاوف‭ ‬والمشتهى،‭ ‬وكل‭ ‬‏مزاوجة‭ ‬تنتج‭ ‬عملًا‭ ‬متفردًا،‭ ‬ولكن‭ ‬الرواية‭ ‬كفكرة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬30‭ ‬عاما،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬صبيًا‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬تقريبًا،‭ ‬استمتع‭ ‬بالاستماع‭ ‬إلى‭ ‬المرحوم‭ ‬جدي‭ ‬وهو‭ ‬يروي‭ ‬قصصًا‭ ‬تاريخية‭ ‬بعد‭ ‬عودته‭ ‬صباحًا‭ ‬من‭ ‬صلاة‭ ‬الفجر،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬تبرعمت‭ ‬عندي‭ ‬فكرة‭ ‬تدوين‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬اللفظي‭. ‬

هل‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تطلعنا‭ ‬على‭ ‬المراحل‭ ‬العامة‭ ‬لكتابة‭ ‬روايتك؟‭ ‬

‏أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬مرت‭ ‬بـ‭ ‬3‭ ‬مراحل‭ ‬أساسية‭: ‬مرحلة‭ ‬تدوين‭ ‬التراث‭ ‬الشفاهي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدي‭ ‬مشروع‭ ‬واضح،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬أعرفه‭ ‬بعقلية‭ ‬الصبي‭ ‬آنذاك،‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬الشفاهي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يدون؛‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يضيع،‭ ‬وهذا‭ ‬يحيلنا‭ ‬إلى‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانية‭: ‬مرحلة‭ ‬نضج‭ ‬التجربة،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬القصص‭ ‬تعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬اللاوعي‭ ‬أثناء‭ ‬انشغالي‭ ‬بالدراسة‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الطب‭ ‬في‭ ‬الوطن،‭ ‬وبعده‭ ‬سفري‭ ‬لأميركا‭ ‬لاستكمال‭ ‬التخصص‭ ‬الطبي‭ ‬والعمل‭.‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬أتت‭ ‬مرحلة‭ ‬الكتابة‭: ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬شيئًا‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬الاغتراب‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬أوقظ‭ ‬رغبةً‭ ‬حبيسة‭ ‬لإعادة‭ ‬نبش‭ ‬هذا‭ ‬التراث،‭ ‬فاستجلبت‭ ‬‏بعض‭ ‬القصاصات‭ ‬القديمة‭ ‬من‭ ‬البحرين،‭ ‬وبدأت‭ ‬بإعادة‭ ‬صياغتها‭.‬

وعلى‭ ‬مدى‭ ‬السنوات‭ ‬الـ‭ ‬6‭ ‬الماضية،‭ ‬كان‭ ‬النص‭ ‬يتشكل‭ ‬ويعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬نفسه،‭ ‬خصوصًا‭ ‬بعد‭ ‬مناقشة‭ ‬وتحليل‭ ‬التجربة‭ ‬مع‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬الروائيين‭ ‬والنقاد‭ ‬الذين‭ ‬أدين‭ ‬لهم‭ ‬بالكثير‭.‬

وهذه‭ ‬المقاربات‭ ‬النقدية‭ ‬للنص‭ ‬فتحت‭ ‬لي‭ ‬أبوابًا‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬خرجت‭ ‬الرواية‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭.‬

ماذا‭ ‬تعني‭ ‬الكتابة‭ ‬لك‭ ‬شخصيًا؟

‏الكتابة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬ملجأ‭ ‬أو‭ ‬متنفس،‭ ‬وهي‭ ‬محاولة‭ ‬للإمساك‭ ‬بالأسئلة‭ ‬الوجودية‭ ‬القلقة،‭ ‬والكتابة‭ ‬تعيد‭ ‬صياغة‭ ‬ماض‭ ‬يراد‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬ينسى‭ ‬أو‭ ‬يتناسى،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬بطل‭ ‬رواية‭ ‬بن‭ ‬غانم‭ ‬“النسيان‭ ‬موت‭.. ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬موتًا‭ ‬قبل‭ ‬الموت”‭.‬

ما‭ ‬أهم‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬واجهت‭ ‬العمل؟

‏لعل‭ ‬أهم‭ ‬تحد‭ ‬هو‭ ‬كيفية‭ ‬نقل‭ ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬ضيق‭ ‬التراث‭ ‬الشفاهي‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية‭ ‬الواسع،‭ ‬إذ‭ ‬تقارب‭ ‬الأحداث‭ ‬المشحونة‭ ‬بـ‭ ‬“نوستالجيا”،‭ ‬وشبه‭ ‬القداسة‭ ‬التاريخية‭ ‬وتحولها‭ ‬إلى‭ ‬عمل‭ ‬سردي‭ ‬قابل‭ ‬للإمتاع،‭ ‬به‭ ‬شخوص‭ ‬لهم‭ ‬أصوات‭ ‬ودوافع‭ ‬متنافرة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬ذواتها‭ ‬في‭ ‬النص،‭ ‬وكما‭ ‬يقول‭ ‬جراهام‭ ‬جرين‭ ‬“أن‭ ‬الكاتب‭ ‬عليه‭ ‬قطع‭ ‬الحبل‭ ‬السري‭ ‬بينه‭ ‬وبين‭ ‬التجربة‭ ‬لتكون‭ ‬كيانًا‭ ‬مستقلًا‭ ‬قابلًا‭ ‬للحياة‭ ‬بذاتها”‭.‬

الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬‏عادةً‭ ‬ما‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬متعددة،‭ ‬ما‭ ‬أهم‭ ‬المصادر‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬عليها؟

‏أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬التاريخية‭ ‬ليست‭ ‬معنيةً‭ ‬بالسرد‭ ‬التاريخي‭ ‬التقليدي،‭ ‬لكنها‭ ‬أشبه‭ ‬بالأشجار‭ ‬ذات‭ ‬الثمرات‭ ‬المختلفة،‭ ‬ورغم‭ ‬أنها‭ ‬تروى‭ ‬بماء‭ ‬واحد‭ ‬هو‭ ‬الحدث‭ ‬التاريخي‭.‬

ومن‭ ‬أهم‭ ‬المصادر‭ ‬التي‭ ‬اعتمدت‭ ‬عليها،‭ ‬هي‭: ‬التاريخ‭ ‬الشفاهي‭ ‬ومراجع‭ ‬تواريخ‭ ‬المنطقة،‭ ‬وكتب‭ ‬المستشرقين‭ ‬والمبشرين‭ ‬في‭ ‬القرنين‭ ‬الثامن‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر‏،‭ ‬ومن‭ ‬أهمها‭ ‬سلسلة‭ ‬كتب‭ ‬الحملات‭ ‬التبشيرية‭ ‬التي‭ ‬تسمى‭ (‬The Arabia Calling and Neglected Arabia‭).‬

وحصلت‭ ‬عليها‭ ‬بالتواصل‭ ‬مع‭ ‬كنيسة‭ ‬الأمل،‭ ‬التي‭ ‬أشرفت‭ ‬على‭ ‬الإرساليات‭ ‬التبشيرية‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬وما‭ ‬تزال‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬بنسلڤانيا‭ ‬في‭ ‬أميركا،‭ ‬واستعنت‭ ‬أيضا‭ ‬بوثائق‭ ‬مكتوبة‭ ‬لأحد‭ ‬أجدادي،‭ ‬التي‭ ‬يزيد‭ ‬عمرها‭ ‬عن‭ ‬القرن،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬مصادر‭ ‬طبية‭ ‬عن‭ ‬الجدري‭.‬

ختامًا،‭ ‬لو‭ ‬‏سألتك‭ ‬أن‭ ‬تختصر‭ ‬رسالة‭ ‬الرواية‭ ‬“اقتباسات”،‭ ‬فماذا‭ ‬تقول؟

سؤال‭ ‬صعب،‭ ‬لكن‭ ‬ربما‭ ‬‏لن‭ ‬أجد‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬قول‭ ‬بطل‭ ‬رواية‭ ‬بن‭ ‬غانم‭ ‬لابنته‭ ‬خزنة‭ ‬“لا‭ ‬وطن‭ ‬لك،‭ ‬إلا‭ ‬الوطن‭ ‬الذي‭ ‬تأمن‭ ‬به‭ ‬وفيه‭ ‬ومنه”‭.‬

‏يذكر‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬متوافرة‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬“كلمات”‭ ‬بمجمع‭ ‬السيف،‭ ‬وفي‭ ‬جناح‭ ‬“دار‭ ‬كلمات”‭ ‬بمختلف‭ ‬معارض‭ ‬الكتاب‭ ‬الدولية‭.‬