من واجب المبدع أن يمحص متغيرات الحياة

مشكلتنا مع الجرأة... من دونها لا تكون مبدعا

| بقلم: فتحية ناصر

يقال‭ ‬إن‭ ‬أهم‭ ‬صفة‭ ‬للمبدع‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬متمردا،‭ ‬فمن‭ ‬دون‭ ‬التمرد‭ ‬ستكون‭ ‬مبدعا‭ ‬“عاديا”،‭ ‬ينحصر‭ ‬تأثيرك‭ ‬في‭ ‬إثارة‭ ‬الشعور‭ ‬بـ‭ ‬“الجمال”‭ ‬الذي‭ ‬يولده‭ ‬الإبداع‭. ‬أما‭ ‬إن‭ ‬توافق‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬متمردا‭ ‬أيضا،‭ ‬فعندها‭ ‬يكون‭ ‬لك‭ ‬تأثير‭ ‬“أخطر”‭ ‬تأثير‭ ‬“فكري”‭.‬

ويترادف‭ ‬التمرد‭ ‬في‭ ‬أذهاننا‭ ‬غالبا،‭ ‬مع‭ ‬الجرأة،‭ ‬وقد‭ ‬ترادفت‭ ‬الجرأة،‭ ‬لوقت‭ ‬طويل‭ ‬في‭ ‬الماضي،‭ ‬مع‭ ‬إساءة‭ ‬الأدب‭! ‬لكنها،‭ ‬وفي‭ ‬عالم‭ ‬تمت‭ ‬إعادة‭ ‬تعريف‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأخلاقيات‭ ‬فيه،‭ ‬كعالم‭ ‬اليوم،‭ ‬باتت‭ ‬صفة‭ ‬مطلوب‭ ‬بشدة‭ ‬توافرها‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يطلب‭ ‬النجاح‭. ‬

بالطبع،‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬واجب‭ ‬المبدع‭ ‬أن‭ ‬يمحص‭ ‬متغيرات‭ ‬الحياة‭. ‬ويجوز‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يطرح‭ ‬الأسئلة،‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬المجتمع،‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬“يتمرد”،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يستفز‭ ‬الناس‭ ‬لسماعه،‭ ‬ويحرضهم‭ ‬على‭ ‬مساءلة‭ ‬ضمائرهم،‭ ‬لعل‭ ‬تغييرا‭ ‬ما‭ ‬للأفضل‭ ‬يكون‭. ‬

ولكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬“جرأة‭ ‬“‭ ‬هو‭ ‬أيضا،‭ ‬برأيي،‭ ‬غير‭ ‬ملائم‭ ‬ليس‭ ‬لما‭ ‬للجرأة‭ ‬من‭ ‬“سمعة‭ ‬سيئة”،‭ (‬فهي‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬تكسب‭ ‬الرهان‭!)‬،‭ ‬بل‭ ‬لأنها،‭ ‬بالذات‭ ‬بدأت‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬فعل‭ ‬تمرد‭ ‬لا‭ ‬هدف‭ ‬منه‭ ‬غير‭ ‬لفت‭ ‬الأنظار‭! ‬

أفضّل‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬“شجاعة”،‭ ‬فالشجاعة‭ ‬هي‭ ‬الجرأة‭ ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬مطلوبة‭ ‬وفي‭ ‬محلها‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬دواعيها،‭ ‬وتقال‭ ‬معززة‭ ‬بالمنطق‭ ‬والحجج‭ ‬القوية،‭ ‬حينها‭ ‬يكون‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬“الاستفزاز”‭ ‬مقبولا،‭ ‬بل‭ ‬ومطلوبا‭ ‬ليكون‭ ‬له‭ ‬فينا‭ ‬مفعول‭ ‬“الصحوة”‭! ‬نعم،‭ ‬نحتاج‭ ‬استفزاز‭ ‬المجتمع‭ ‬أحيانا؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تحقيق‭ ‬العدالة،‭ ‬أو‭ ‬لطلب‭ ‬الحرية‭ ‬أو‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الانصاف‭. ‬وهذا‭ ‬استفزاز‭ ‬محمود‭ ‬لأن‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬تحريك‭ ‬الضمائر‭ ‬والسعي‭ ‬لتغيير‭ ‬الواقع‭. ‬

مشكلتنا‭ ‬مع‭ ‬الجرأة‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬الكلمة‭ ‬“المفضلة”،‭ ‬والأكثر‭ ‬ضمانا‭ ‬لتحقيق‭ ‬الرواج‭ ‬المطلوب،‭ ‬إنها،‭ ‬ككلمة،‭ ‬محرضة،‭ ‬ومثيرة‭ ‬للفضول‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كلمة‭ ‬“شجاعة”،‭ ‬خصوصا‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬ترجمها‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬المفهوم‭ ‬الغرائزي،‭ ‬ما‭ ‬عزز‭ ‬ارتباطها‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬المتلقين،‭ ‬فأصبح‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭ ‬يقال‭ ‬عنه‭ ‬“جريء”‭ ‬يفهم‭ ‬عنه،‭ ‬مباشرة،‭ ‬أنه‭ ‬يخاطب‭ ‬الغريزة‭! ‬لقد‭ ‬كانت‭ ‬“الجرأة‭ - ‬الشجاعة”‭ ‬وسيلة‭ ‬تستخدم‭ ‬باقناع‭ ‬لإدراك‭ ‬غاية،‭ ‬وتحولت‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها،‭ ‬وهكذا‭ ‬أصبحت،‭ ‬كأنما،‭ ‬فعلا‭ ‬مبتذلا،‭ ‬يقام‭ ‬به‭ ‬بلا‭ ‬هدف‭ ‬غير‭ ‬جذب‭ ‬“الزبائن”‭! ‬

إن‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬تقال‭ ‬فيه‭ ‬الأشياء‭ ‬مهم‭. ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يحدد‭ ‬إن‭ ‬كنا‭ ‬سنعتبرها‭ ‬جرأة،‭ ‬أم‭ ‬شجاعة،‭ ‬أم‭ ‬“وقاحة”‭! ‬وإن‭ ‬كنا‭ ‬نصر‭ ‬على‭ ‬اعتبار‭ ‬الشجاعة‭ ‬التي‭ ‬يمارسها‭ ‬مبدع‭ ‬لإدراك‭ ‬غاية‭ ‬مهمة‭ ‬فكريا‭ ‬واجتماعيا،‭ ‬إن‭ ‬كنا‭ ‬نصر‭ ‬على‭ ‬تسميتها‭ ‬بالجرأة،‭ ‬فلتكن‭ ‬إذن‭ ‬جرأة‭ ‬“حميدة”،‭ ‬هذا،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬التمرد‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يجعلك‭ ‬مبدعا‭ ‬فريدا،‭ ‬واسستثنائيا،‭ ‬فإن‭ ‬اختيارك‭ ‬لطريقة‭ ‬تعبيرك‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬“التمرد”‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬أهمية‭. ‬

أظن‭ ‬أن‭ ‬علينا‭ ‬التأسيس،‭ ‬اليوم،‭ ‬لهذه‭ ‬الفكرة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتأصل‭ ‬فينا‭ ‬فكرة‭ ‬قبول‭ ‬الجرأة‭ ‬كعنصر‭ ‬تسويق‭ ‬ليس‭ ‬لاستخدامه‭ ‬أي‭ ‬ضرورة‭ ‬فكرية‭!‬