الخميني أدرج مبدأ ولاية الفقيه في الدستور الإيراني

نشوء الإسلام السياسي الشيعي المعاصر (3 - 6)

نصرالله‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬القداسة‭ ‬عززت‭ ‬التوغل‭ ‬الإيراني‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي الخميني‭ ‬واجه‭ ‬مشكلة‭ ‬في‭ ‬شرعنة‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬الجعفرية

 

‭ ‬توقع‭ ‬الكاتب‭ ‬والباحث‭ ‬السعودي‭ ‬خالد‭ ‬عبدالعزيز‭ ‬النزر‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصير‭ ‬مشروعات‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي،‭ ‬بنسختيه‭ ‬الشيعية‭ ‬والسنية،‭ ‬إلى‭ ‬الأفول‭ ‬قريبًا‭. ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬معارضة‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬لا‭ ‬تعني‭ ‬المعارضة‭ ‬للدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬نفسه‭ ‬أو‭ ‬لتشريعاته،‭ ‬مشيرا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬الحديثة‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬استيعاب‭ ‬جميع‭ ‬الأديان‭ ‬والمذاهب‭ ‬وتأطير‭ ‬الأفهام‭ ‬المختلفة‭ ‬للدين‭ ‬بحدود‭ ‬أصحابها‭. ‬فنحن‭ ‬المسلمين‭ ‬متفقون‭ ‬على‭ ‬الدين‭ ‬وأهمية‭ ‬تطبيق‭ ‬تشريعاته،‭ ‬ولكننا‭ ‬مختلفون‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬وفي‭ ‬طريقة‭ ‬التطبيق‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الفقهي‭ ‬البسيط‭ ‬من‭ ‬عبادات‭ ‬ومعاملات،‭ ‬فكيف‭ ‬بأنظمة‭ ‬وإدارة‭ ‬الدول؟

وذكر‭ ‬النزر‭ ‬أن‭ ‬مواجهة‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭ ‬سنيًا‭ ‬كان‭ ‬أو‭ ‬شيعيًا،‭ ‬تتطلب‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬عمل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬الحلول‭ ‬الأمنية،‭ ‬إذ‭ ‬يجب‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الفكري‭ ‬المنفتح‭ ‬ودعم‭ ‬مبادئ‭ ‬الإسلام‭ ‬الوسطي‭ ‬المعتدل‭ ‬والمتسامح‭ ‬مع‭ ‬الآخر،‭ ‬ونبذ‭ ‬الطائفية‭ ‬وخطابات‭ ‬الكراهية‭ ‬وتجريمها‭.‬

وكما‭ ‬هو‭ ‬معلوم،‭ ‬برز‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬اللبنانية‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬وأمينه‭ ‬العام‭ ‬السيد‭ ‬حسن‭ ‬نصرالله‭ ‬كبطل‭ ‬قومي‭ ‬مجاهد‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والإسلامي،‭ ‬وهذا‭ ‬خدم‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬والنظرة‭ ‬لإيران‭ ‬خدمة‭ ‬عظيمة‭ ‬جدًا‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الشعبي،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءت‭ ‬الحرب‭ ‬السورية‭ ‬فأحدثت‭ ‬ردة‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬النظرة‭ ‬تجاه‭ ‬هذا‭ ‬الحزب‭ ‬وإيران‭ ‬عمومًا،‭ ‬أما‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الشيعة‭ ‬العرب‭ ‬عموما‭ ‬فيبقى‭ ‬لنصرالله‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬القداسة،‭ ‬ويُنظر‭ ‬له‭ ‬كبطل‭ ‬شيعي‭ ‬شبيه‭ ‬بصلاح‭ ‬الدين‭ ‬عند‭ ‬السنة،‭ ‬وهذا‭ ‬عزز‭ ‬التوغل‭ ‬الإيراني‭ ‬واستحواذهم‭ ‬على‭ ‬الوجدان‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي،‭ ‬فكان‭ ‬نصرالله‭ ‬وحزبه‭ ‬رأس‭ ‬حربتهم‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الملفات‭ ‬ومنها‭ ‬التدريب‭ ‬العسكري‭ ‬للجماعات‭ ‬المسلحة،‭ ‬أو‭ ‬بالتواصل‭ ‬والدعم‭ ‬والتوجيه‭ ‬للمعارضين‭ ‬الشيعة،‭ ‬وفي‭ ‬احتضان‭ ‬القنوات‭ ‬الفضائية‭ ‬كمنصة‭ ‬إعلامية‭ ‬عربية‭ ‬لإيران،‭ ‬والأشمل‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬تأثير‭ ‬الخطب‭ ‬الشعبوية‭ ‬الرنانة‭ ‬لنصرالله‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬يوجه‭ ‬ميول‭ ‬الشارع‭ ‬الشيعي‭ ‬العربي‭ ‬بما‭ ‬يخدم‭ ‬الأجندة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬وعودة‭ ‬للبراغماتية‭ ‬الإيرانية‭ ‬فأكثر‭ ‬حادثة‭ ‬برز‭ ‬فيها‭ ‬الوجه‭ ‬المصلحي‭ ‬لإيران‭ ‬فيما‭ ‬يناقض‭ ‬شعاراتها‭ ‬ومبادئها‭ ‬المعلنة‭ ‬للجمهور،‭ ‬كان‭ ‬بين‭ ‬العامين‭ ‬1985‭ ‬و1986‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬العراق‭ ‬وذروة‭ ‬هتافات‭ ‬الموت‭ ‬لأميركا‭ ‬“الشيطان‭ ‬الأكبر”‭ ‬والموت‭ ‬لإسرائيل‭ ‬“الشيطان‭ ‬الأصغر”،‭ ‬حين‭ ‬قامت‭ ‬بشراء‭ ‬أسلحة‭ ‬أميركية‭ ‬بمعاونة‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬إسرائيل‭ ‬وظلت‭ ‬تستلم‭ ‬دفعاتها‭ ‬سرًا‭ ‬لمدة‭ ‬14‭ ‬شهرًا،‭ ‬ولولا‭ ‬فضيحة‭ ‬“إيران‭ ‬كونترا”‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لما‭ ‬علم‭ ‬أحد‭ ‬بما‭ ‬كان‭ ‬يجري‭! ‬فكان‭ ‬الإيرانيون‭ ‬أذكياء‭ ‬في‭ ‬استقطاب‭ ‬القوى‭ ‬الأخرى‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬المشتركات‭ ‬فيما‭ ‬يخدمهم‭ ‬ويحقق‭ ‬مصالحهم،‭ ‬وهذا‭ ‬نراه‭ ‬مثلًا‭ ‬في‭ ‬تناغمهم‭ ‬مع‭ ‬الشيوعيين‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬العداء‭ ‬لأميركا‭ ‬ورفع‭ ‬الشعارات‭ ‬الثورية،‭ ‬وقد‭ ‬زار‭ ‬الخميني‭ ‬وهنأه‭ ‬بانتصار‭ ‬الثورة‭ ‬وفود‭ ‬من‭ ‬الأحزاب‭ ‬الشيوعية‭ ‬العربية‭ ‬وغير‭ ‬العربية‭. ‬

وأسست‭ ‬إيران‭ ‬علاقات‭ ‬قوية‭ ‬مع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الشيوعية‭ ‬خصوصًا‭ ‬فنزويلا‭ ‬وكوبا،‭ ‬ونجد‭ ‬اليوم‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الشيوعيين‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬متعاطفين‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬ويعتبرونها‭ ‬مظلومة‭ ‬من‭ ‬قِبل‭ ‬“الإمبريالية‭ ‬الأميركية”‭ (‬بحسب‭ ‬قناعتهم‭)‬،‭ ‬وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬غير‭ ‬الرسمي‭ ‬استطاعت‭ ‬إيران‭ ‬التغلغل‭ ‬داخل‭ ‬تلك‭ ‬المجتمعات‭ ‬الشيوعية‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬الذي‭ ‬اشتغل‭ ‬على‭ ‬ذوي‭ ‬الأصول‭ ‬اللبنانية‭ ‬في‭ ‬أميركا‭ ‬الجنوبية؛‭ ‬للاستفادة‭ ‬من‭ ‬مافيات‭ ‬غسل‭ ‬الأموال‭ ‬وغيرها‭. ‬أما‭ ‬الشيعة‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الميول‭ ‬الشيوعية‭ ‬واليسارية،‭ ‬فهؤلاء‭ ‬وبحسب‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬يتعاطفون‭ ‬مع‭ ‬إيران‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬أيدلوجي‭ ‬ديني‭ ‬ولكن‭ ‬بحكم‭ ‬انتمائهم‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وأيضًا‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬الثورية‭ ‬والنظرة‭ ‬السلبية‭ ‬لأميركا،‭ ‬وازدراء‭ ‬السلطات‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬خصوصا‭ ‬المَلكيات‭ ‬منها‭.‬

التأصيل‭ ‬الشرعي‭ ‬لولاية‭ ‬الفقيه

كانت‭ ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬واجهها‭ ‬الخميني‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬شرعنة‭ ‬الدولة‭ ‬الدينية‭ ‬الجعفرية،‭ ‬فالواقع‭ ‬كما‭ ‬ذكرنا‭ ‬سابقاً‭ ‬أن‭ ‬التقليدية‭ ‬الجعفرية‭ ‬لا‭ ‬ترى‭ ‬شرعية‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬قبل‭ ‬دولة‭ ‬الإمام‭ ‬المهدي،‭ ‬وأن‭ ‬على‭ ‬الشيعة‭ ‬التعامل‭ ‬بسلام‭ ‬ووئام‭ ‬مع‭ ‬دولهم‭ ‬القائمة‭ ‬والإخلاص‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬دامت‭ ‬تحفظ‭ ‬بيضة‭ ‬الإسلام‭ ‬وباقي‭ ‬الضرورات‭ ‬كالنفس‭ ‬والمال‭ ‬والعرض‭ ‬وألا‭ ‬تحاربهم‭ ‬في‭ ‬عقيدتهم‭ ‬وشؤونهم‭ ‬الدينية،‭ ‬ويرون‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬نهج‭ ‬الأئمة‭ ‬المعصومين،‭ ‬فالإمام‭ ‬علي‭ ‬اتبع‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ (‬بحسب‭ ‬الفكر‭ ‬الشيعي‭) ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخلفاء‭ ‬أبو‭ ‬بكر‭ ‬وعمر‭ ‬وعثمان،‭ ‬حتى‭ ‬قيل‭: ‬“لولا‭ ‬علي‭ ‬لهلك‭ ‬عمر”،‭ ‬والحسن‭ ‬والحسين‭ ‬كانا‭ ‬يحاربان‭ ‬في‭ ‬الفتوحات‭ ‬الإسلامية‭ ‬تحت‭ ‬راية‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬آنذاك،‭ ‬وتوزع‭ ‬عليهما‭ ‬المغانم‭ ‬والسبايا‭ ‬ومنهن‭ ‬شاهزنان‭ ‬والدة‭ ‬الإمام‭ ‬زين‭ ‬العابدين،‭ ‬وكانا‭ ‬يستلمان‭ ‬العطاء‭ ‬من‭ ‬معاوية،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الحسين‭ ‬قد‭ ‬رفض‭ ‬مبايعة‭ ‬يزيد‭ ‬مما‭ ‬أفقده‭ ‬حياته‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬أهل‭ ‬الكوفة‭ ‬عليه،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬ولده‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬بايع‭ ‬يزيد‭ ‬وهو‭ ‬إمام‭ ‬معصوم‭ ‬عند‭ ‬الجعفرية،‭ ‬وله‭ ‬دعاء‭ ‬مشهور‭ ‬بعنوان‭ ‬“أهل‭ ‬الثغور”‭ ‬يدعوا‭ ‬فيه‭ ‬للمرابطين‭ ‬والمقاتلين‭ ‬على‭ ‬ثغور‭ ‬الدولة‭ ‬الأموية،‭ ‬كذلك‭ ‬الإمام‭ ‬جعفر‭ ‬الصادق‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مؤيداً‭ ‬لخروج‭ ‬عمه‭ ‬الإمام‭ ‬زيد‭ ‬بن‭ ‬علي‭ (‬إمام‭ ‬الزيدية‭) ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬آنذاك،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الإمام‭ ‬الرضا‭ ‬صاحب‭ ‬الضريح‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬كان‭ ‬متزوجاً‭ ‬من‭ ‬أخت‭ ‬الخليفة‭ ‬المأمون‭ ‬وعُين‭ ‬ولياً‭ ‬للعهد‭. ‬

وأما‭ ‬الدول‭ ‬الجعفرية‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬فهي‭ ‬لم‭ ‬تدّع‭ ‬الولاية‭ ‬أو‭ ‬النيابة‭ ‬عن‭ ‬الإمام‭ ‬المعصوم‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬الخميني،‭ ‬نعم‭ ‬طبق‭ ‬الكركي‭ ‬النيابة‭ ‬العامة‭ ‬عن‭ ‬المعصوم‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الصفوي‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬كفقيه‭ ‬ومفتي‭ ‬وليس‭ ‬كحاكم‭. ‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬الجعفرية‭ ‬كلها‭ ‬منضوية‭ ‬أو‭ ‬متكاتفة‭ ‬مع‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬الرئيسة‭ (‬السنية‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬باستثناء‭ ‬الدولة‭ ‬الصفوية‭. ‬ففي‭ ‬التاريخ‭ ‬الإسلامي‭ ‬لدينا‭ ‬الدولة‭ ‬الحمدانية‭ ‬في‭ ‬حلب‭ ‬والموصل،‭ ‬وهي‭ ‬رغم‭ ‬نزاعاتها‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬مع‭ ‬العباسيين‭ ‬ببغداد‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أصبحت‭ ‬السند‭ ‬الأكبر‭ ‬لهم‭ ‬والمدافع‭ ‬الأول‭ ‬عن‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬الروم‭ ‬وصد‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الهجمات‭ ‬وخوض‭ ‬الحروب‭ ‬معهم،‭ ‬وكان‭ ‬يلقب‭ ‬حاكمها‭ ‬بسيف‭ ‬الدولة‭. ‬ولدينا‭ ‬الدولة‭ ‬البويهية‭ (‬تحول‭ ‬حكامها‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬من‭ ‬الزيدية‭ ‬إلى‭ ‬الجعفرية‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬منضوية‭ ‬تحت‭ ‬الخلافة‭ ‬العباسية‭ ‬وتحكم‭ ‬باسمها‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬وباقي‭ ‬المناطق،‭ ‬وكان‭ ‬الخليفة‭ ‬العباسي”المستكفي”‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬لقب‭ ‬أحمد‭ ‬بن‭ ‬بويه‭ ‬بـ‭ ‬“معز‭ ‬الدولة”‭. ‬ولدينا‭ ‬الدولة‭ ‬العيونية‭ ‬في‭ ‬الأحساء‭ ‬وهذه‭ ‬أيضاً‭ ‬قامت‭ ‬بدعم‭ ‬ومباركة‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أنها‭ ‬أنهت‭ ‬بقايا‭ ‬الدولة‭ ‬البوسعيدية‭ (‬القرامطة‭) ‬أشرس‭ ‬أعداء‭ ‬العباسيين،‭ ‬وكان‭ ‬العباسيون‭ ‬يعتمدون‭ ‬على‭ ‬العيونيين‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬حروبهم،‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬إخضاع‭ ‬قبائل‭ ‬البادية‭ ‬العراقية‭ ‬إذا‭ ‬تمردوا،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬العباسيون‭ ‬يعتمدون‭ ‬عليهم‭ ‬بشكل‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬تأمين‭ ‬طرق‭ ‬الحج‭ ‬نظراً‭ ‬لنفوذ‭ ‬العيونيين‭ ‬الواسع‭ ‬في‭ ‬الجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬آنذاك‭ ‬وهيمنتهم‭ ‬على‭ ‬قبائل‭ ‬البادية‭. ‬غير‭ ‬ذلك‭ ‬فكل‭ ‬الدول‭ ‬الشيعية،‭ ‬حسب‭ ‬اطلاعنا،‭ ‬التي‭ ‬ناهضت‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬القائمة‭ ‬أو‭ ‬حاربتها،‭ ‬كانوا‭ ‬إسماعيليين‭ ‬أو‭ ‬زيديين‭. ‬وهكذا‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬التراث‭ ‬الجعفري‭ ‬عموما،‭ ‬ما‭ ‬يدعم‭ ‬الشرعنة‭ ‬الدينية‭ ‬لعمل‭ ‬الخميني‭ ‬في‭ ‬إسقاط‭ ‬حكم‭ ‬الشاه‭ ‬خصوصاً‭ ‬أن‭ ‬الشاه‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬كان‭ ‬شيعياً‭ ‬ويحكم‭ ‬دولة‭ ‬ذات‭ ‬غالبية‭ ‬شيعية‭ ‬تمارس‭ ‬معتقداتها‭ ‬وعباداتها‭ ‬بكل‭ ‬حرية،‭ ‬وله‭ ‬علاقاته‭ ‬الحسنة‭ ‬مع‭ ‬كبار‭ ‬المراجع‭ ‬في‭ ‬قم‭ ‬والنجف‭ ‬أيضاً،‭ ‬هذا‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬ما‭ ‬يدعم‭ ‬شرعية‭ ‬تأسيس‭ ‬الخميني‭ ‬لحكم‭ ‬إسلامي‭ ‬جعفري،‭ ‬فماذا‭ ‬فعل‭ ‬الخميني‭ ‬لذلك؟‭ ‬لقد‭ ‬ذهب‭ ‬إلى‭ ‬استجلاب‭ ‬مصطلح‭ ‬“الولي‭ ‬الفقيه”‭ ‬الذي‭ ‬أوجده‭ ‬أحد‭ ‬رجال‭ ‬الدين‭ ‬المتأخرين‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬أحمد‭ ‬النراقي‭ (‬ت‭ ‬1245هـ‭)‬،‭ ‬والمبني‭ ‬أساساً‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬النيابة‭ ‬الفقهية‭ ‬عن‭ ‬الإمام‭ ‬الغائب‭ ‬وهي‭ ‬فكرة‭ ‬قديمة‭ ‬في‭ ‬الفقه‭ ‬الشيعي،‭ ‬لكن‭ ‬النراقي‭ ‬حوّلها‭ ‬إلى‭ ‬نيابة‭ ‬وولاية‭ ‬مطلقة،‭ ‬وكان‭ ‬قوله‭ ‬شاذاً،‭ ‬نقضه‭ ‬وفنده‭ ‬حينها‭ ‬مرجعان‭ ‬كبيران‭ ‬هما‭ ‬الأنصاري‭ ‬والنائيني‭ ‬ودحضا‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬عن‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭. ‬

لذلك‭ ‬فإن‭ ‬كبار‭ ‬المراجع‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬النجف‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬قم‭ ‬لم‭ ‬يقتنعوا‭ ‬بشرعية‭ ‬عمل‭ ‬الخميني‭ ‬على‭ ‬إسقاط‭ ‬حكم‭ ‬الشاه‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الدينية،‭ ‬ولا‭ ‬بتأصيله‭ ‬الشرعي‭ ‬لولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬المطلقة‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬حكم‭ ‬إيران‭. ‬فنجد‭ ‬مثلاً‭ ‬في‭ ‬لقائه‭ ‬بالعام‭ ‬1970م‭ ‬مع‭ ‬السيد‭ ‬محسن‭ ‬الحكيم‭ ‬المرجع‭ ‬الأعلى‭ ‬للشيعة‭ ‬آنذاك،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬إيراني‭ ‬أيضاً،‭ ‬لم‭ ‬يقتنع‭ ‬بشرعية‭ ‬فكرة‭ ‬الخميني‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬ينقل‭ ‬موسى‭ ‬الموسوي‭ ‬الذي‭ ‬حضر‭ ‬اللقاء،‭ ‬فطلب‭ ‬منه‭ ‬الخميني‭ ‬تثوير‭ ‬الشيعة‭ ‬على‭ ‬الشاه‭ ‬استناداً‭ ‬إلى‭ ‬موقف‭ ‬الإمام‭ ‬الحسين‭ ‬من‭ ‬يزيد‭ ‬كحاكم‭ ‬ظالم،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحكيم‭ ‬الذي‭ ‬يمثل‭ ‬رأس‭ ‬النهج‭ ‬التقليدي،‭ ‬احتج‭ ‬على‭ ‬الخميني‭ ‬بموقف‭ ‬الإمام‭ ‬الحسن‭ ‬وسيرته‭. ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬الخميني‭ ‬إلى‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬أعلن‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وأعلن‭ ‬نفسه‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه‭ ‬الحاكم‭ ‬لها‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬“المرشد”‭ ‬المأخوذ‭ ‬من‭ ‬الإخوان‭. ‬

أما‭ ‬الوصف‭ ‬الشرعي‭ ‬لولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬فهو‭ ‬كالتالي‭: ‬“هي‭ ‬النيابة‭ ‬العامة‭ ‬للفقيه‭ ‬الجامع‭ ‬للشرائط‭ ‬عن‭ ‬الإمام‭ ‬المعصوم‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬الغيبة‭ ‬لقيادة‭ ‬الأمة‭ ‬الإسلامية‭ ‬وتدبير‭ ‬شؤونها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬للمعصوم‭ ‬عليه‭ ‬ولاية،‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬مختصاته‭ ‬وبشرط‭ ‬وجود‭ ‬المصلحة”‭. ‬

أي‭ ‬ولاية‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬شؤون‭ ‬الأمة،‭ ‬نفس‭ ‬ولاية‭ ‬المعصوم‭ ‬في‭ ‬حضوره،‭ ‬وهي‭ ‬رئاسة‭ ‬الدين‭ ‬والدنيا،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فله‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬للإمام‭ ‬من‭ ‬وظائف‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يشاركه‭ ‬مختصاته‭ ‬وبشرط‭ ‬وجود‭ ‬المصلحة‭ ‬في‭ ‬فعله،‭ ‬والتي‭ ‬منها‭ ‬السعي‭ ‬لإقامة‭ ‬الحكم‭ ‬الإسلامي‭ ‬وسيادته‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬حقيقته‭ ‬الأصيلة‭ ‬والمحافظة‭ ‬على‭ ‬المصالح‭ ‬العامة‭ ‬سياسياً‭ ‬وأخلاقياً‭ ‬وثقافياً‭ ‬واقتصادياً‭ ‬واجتماعياً‭ ‬وما‭ ‬شاكل‭ ‬ذلك،‭ ‬ومنها‭ ‬الأمر‭ ‬بالمعروف‭ ‬والنهي‭ ‬عن‭ ‬المنكر‭ ‬بالقيام‭ ‬دون‭ ‬تسرب‭ ‬الفساد‭ ‬إلى‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسلامي،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬خطراً‭ ‬يهدد‭ ‬كيان‭ ‬الإسلام،‭ ‬أم‭ ‬يطيح‭ ‬بسلامة‭ ‬الأخلاق‭ ‬العامة‭ ‬والقيام‭ ‬ببث‭ ‬الدعوة‭ ‬خارجياً‭ ‬وداخلياً‭ ‬بالسعي‭ ‬وراء‭ ‬تنشيط‭ ‬الوعي‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬المسلمين،‭ ‬ومنها‭ ‬سد‭ ‬الثغور‭ ‬والأمر‭ ‬بالجهاد‭ ‬والدفاع‭ ‬وعقد‭ ‬الصلح‭ ‬وقبول‭ ‬الهدنة‭ ‬وتقسيم‭ ‬الغنائم،‭ ‬ومنها‭ ‬أخذ‭ ‬الزكوات‭ ‬والأخماس‭ ‬وتولية‭ ‬أمر‭ ‬القصّر‭ ‬والغيّب‭ ‬والأوقاف‭ ‬العامة‭ ‬وتجهيز‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬وليّ‭ ‬له‭ ‬ووراثة‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬وارث‭ ‬له،‭ ‬ومنها‭ ‬إقامة‭ ‬الجمعة‭ ‬والجماعات‭ ‬وتعيين‭ ‬أئمتها‭. ‬

ومنها‭ ‬تعيين‭ ‬قضاة‭ ‬العدل‭ ‬والمراقبة‭ ‬على‭ ‬أعمالهم‭ ‬بإجراء‭ ‬الحدود،‭ ‬ومنها‭ ‬التصدي‭ ‬لإصدار‭ ‬أحكام‭ (‬تعرف‭ ‬بالأحكام‭ ‬السلطانية‭ ‬أو‭ ‬الولائية‭) ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬ضرورية‭ ‬حفاظاً‭ ‬على‭ ‬منافع‭ ‬المسلمين،‭ ‬ومنها‭ ‬القضاء‭ ‬والإفتاء‭ ‬والتصدي‭ ‬للأمور‭ ‬الحسبية‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬ولايته‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأمور،‭ (‬السيد‭ ‬أبو‭ ‬الحسن‭ ‬الموسوي‭ ‬الغريفي،‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬مفهوماً‭ ‬ودليلاً‭). ‬وقام‭ ‬الخميني‭ ‬بإدراج‭ ‬مبدأ‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭ ‬في‭ ‬الدستور‭ ‬الإيراني،‭ ‬ما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬دمج‭ ‬أكبر‭ ‬سلطة‭ ‬سياسية‭ ‬ودينية‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬فقيه‭ ‬شيعي‭ ‬وهو‭ ‬الخميني‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬أنشأ‭ ‬بموجب‭ ‬المادة‭ ‬107‭ ‬في‭ ‬دستور‭ ‬العام‭ ‬1979م‭ ‬مؤسسة‭ ‬تتجاوز‭ ‬سلطاتها‭ ‬بكثير،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ممنوحة‭ ‬للشاه‭ ‬بموجب‭ ‬دستور‭ ‬1906م،‭ ‬وتؤسس‭ ‬المادة‭ ‬110‭ ‬من‭ ‬الدستور‭ ‬صلاحيات‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه‭ ‬وحقوقه،‭ ‬وتفوضه‭ ‬بالعمل‭ ‬كقائد‭ ‬عام‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬بأفرعها‭ ‬وإعلان‭ ‬الحرب‭ ‬والسلم،‭ ‬وتعبئة‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة،‭ ‬وتعيين‭ ‬وعزل‭ ‬الأفراد‭ ‬في‭ ‬الدولة،‭ ‬ومنهم‭ ‬نصف‭ ‬أعضاء‭ ‬“مجلس‭ ‬صيانة‭ ‬الدستور”،‭ ‬ورئيس‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية،‭ ‬ورئيس‭ ‬مؤسسة‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزيون،‭ ‬والقائد‭ ‬الأعلى‭ ‬لقوات‭ ‬الحرس‭ ‬الثوري‭ ‬الإسلامي،‭ ‬والقيادات‭ ‬العليا‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬وقوى‭ ‬الأمن‭. ‬

وبهذا‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه‭ ‬يسيطر‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬مفاصل‭ ‬الدولة،‭ ‬وحتى‭ ‬بعض‭ ‬أشكال‭ ‬الديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬أوجدها‭ ‬كالانتخابات‭ ‬والمجالس‭ ‬وغيرها‭ ‬نراها‭ ‬عند‭ ‬التدقيق‭ ‬تتصل‭ ‬خيوطها‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬بيد‭ ‬الولي‭ ‬الفقيه،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬مرشح‭ ‬لمجلس‭ ‬الشورى‭ ‬أو‭ ‬الرئاسة‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬بعملية‭ ‬“فلترة”‭ ‬دقيقة‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬أو‭ ‬مجالس‭ ‬عدة‭ ‬تنتهي‭ ‬إليه‭. ‬وقد‭ ‬استمرت‭ ‬دولة‭ ‬“ولاية‭ ‬الفقيه”‭ ‬بمؤسسات‭ ‬الثورة‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬الخميني‭ ‬وراح‭ ‬يثبتها‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أجهزة‭ ‬الدولة،‭ ‬والتي‭ ‬ارتبطت‭ ‬بأيديولوجية‭ ‬الثورة‭ ‬بشكل‭ ‬أكبر‭ ‬نسبياً‭ ‬من‭ ‬ارتباطها‭ ‬الإداري،‭ ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬تم‭ ‬تأسيس‭ ‬الحرس‭ ‬الثوري‭ ‬كقوة‭ ‬مسلحة‭ ‬طغت‭ ‬في‭ ‬دورها‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬الجيش‭ ‬النظامي‭. ‬وكذلك‭ ‬التوازن‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬حفظه‭ ‬بدقة‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الإيرانية‭ ‬المختلفة‭ ‬كرجل‭ ‬الشارع‭ ‬ورجل‭ ‬البازار‭ ‬ورجل‭ ‬الدين‭. ‬

كما‭ ‬قام‭ ‬النظام‭ ‬بإيجاد‭ ‬كوادر‭ ‬فاعلة‭ ‬من‭ ‬الصفوف‭ ‬الثانية‭ ‬والثالثة،‭ ‬لدفع‭ ‬عملية‭ ‬الإحلال‭ ‬والتجديد‭ ‬في‭ ‬مفاصل‭ ‬الدولة‭ ‬نحو‭ ‬البناء‭ ‬الأيديولوجي‭ ‬المستهدف،‭ ‬وهذا‭ ‬نجح‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬خصوصا‭ ‬في‭ ‬القطاعات‭ ‬العسكرية‭ ‬والتعليمية‭. ‬وهكذا‭ ‬صمد‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬الشيعي‭ ‬للإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬بدولته‭ ‬الثيوقراطية‭ ‬في‭ ‬وسائلها‭ ‬ومضامينها‭ ‬وخطابها،‭ ‬واستمرت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬بإيجاد‭ ‬ضداً‭ ‬تعيش‭ ‬عليه،‭ ‬تارة‭ ‬الشيوعية‭ ‬العالمية،‭ ‬وأخرى‭ ‬الامبريالية‭ ‬الأمريكية،‭ ‬وثالثة‭ ‬التحديات‭ ‬القومية‭ ‬والطائفية‭ ‬والسياسية‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية،‭ ‬فقد‭ ‬كون‭ ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬لنفسه‭ ‬دوائر‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الحصانات‭ ‬وظفت‭ ‬الدين‭ ‬والقوة‭ ‬العسكرية‭ ‬والتعليم‭ ‬والثقافة‭ ‬العامة‭ ‬والانتخابات‭ ‬وجميع‭ ‬المؤسسات‭ ‬والفعاليات،‭ ‬لحماية‭ ‬ولاية‭ ‬الفقيه‭. ‬فكانت‭ ‬جاهزة‭ ‬كلما‭ ‬تحرك‭ ‬الشارع‭ ‬بأن‭ ‬تقمعه‭ ‬بقسوة‭ ‬وبطش‭ ‬وبسرعة‭ ‬فائقة،‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬تردد‭ ‬أو‭ ‬خوف،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬التحركات‭ ‬للشارع‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ضد‭ ‬النظام‭ ‬نفسه‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لأسباب‭ ‬إصلاحية‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬البلاد‭ ‬أو‭ ‬اقتصادية‭ ‬وحياتية،‭ (‬راجع‭ ‬أيضاً‭: ‬عمار‭ ‬السواد،‭ ‬تجارب‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬الأربع‭).‬

العراق‭ ‬بلد‭ ‬التمهيد‭ ‬وفرنسا‭ ‬بلد‭ ‬الانطلاقكان‭ ‬النجف‭ ‬أنسب‭ ‬مكان‭ ‬ممكن‭ ‬ليمارس‭ ‬فيه‭ ‬الخميني‭ ‬نشاطه‭ ‬السياسي‭ ‬تحت‭ ‬الغطاء‭ ‬الديني،‭ ‬والسبب‭ ‬أنه‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬طلاب‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬المجتمعات‭ ‬الشيعية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وأهمهم‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬كان‭ ‬الإيرانيون‭ ‬بالطبع،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الاستهداف‭ ‬توسع‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬إلى‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬مجتمعات‭ ‬شيعية‭ ‬وأولهم‭ ‬العراق‭ ‬نفسه‭!‬

كانت‭ ‬حركة‭ ‬الخميني‭ ‬حذرة‭ ‬جداً‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬مجيء‭ ‬حكم‭ ‬البعث‭ ‬وخلافه‭ ‬مع‭ ‬الشاه‭ ‬على‭ ‬خلفية‭ ‬دعمه‭ ‬للأكراد،‭ ‬أصبحت‭ ‬الحكومة‭ ‬العراقية‭ ‬تدعم‭ ‬الخميني‭ ‬وتحميه‭. ‬فنظام‭ ‬البعث‭ ‬كان‭ ‬يستقبل‭ ‬أتباع‭ ‬الخميني‭ ‬من‭ ‬الإيرانيين،‭ ‬وخصص‭ ‬إذاعة‭ ‬بالفارسية‭ ‬ليبث‭ ‬منها‭ ‬أفكاره‭ ‬عبر‭ ‬برنامج‭ ‬“النهضة‭ ‬الروحية”‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يقدمه‭ ‬محمود‭ ‬دعائي،‭ ‬كما‭ ‬منح‭ ‬العراق‭ ‬تسهيلات‭ ‬وجوازات‭ ‬سفر‭ ‬لخاصة‭ ‬الخميني‭ ‬من‭ ‬الإيرانيين،‭ ‬وغض‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬التدريبات‭ ‬العسكرية‭ ‬بإشراف‭ ‬يزدي‭ ‬زاده‭. ‬

إلا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬استفحل‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بالنسبة‭ ‬لحكومة‭ ‬الشاه،‭ ‬وزادت‭ ‬الضغوطات‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬لإبعاده‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬كان‭ ‬الغرب‭ ‬عموماً‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬لقناعة‭ ‬بأن‭ ‬الشاه‭ ‬آيل‭ ‬للسقوط‭ ‬قريباً‭ ‬بسبب‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المؤشرات‭ ‬والتقارير‭ ‬الاستخبارية،‭ ‬وكان‭ ‬المرشح‭ ‬الديمقراطي‭ ‬“جيمي‭ ‬كارتر”‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬لرئاسة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وسط‭ ‬انتقادات‭ ‬حادة‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬الأميركي‭ ‬للسياسات‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬والدعم‭ ‬غير‭ ‬المحدود‭ ‬من‭ ‬الرئيس‭ ‬الجمهوري‭ ‬السابق‭ ‬غيرالد‭ ‬فورد‭ ‬لشاه‭ ‬إيران‭ ‬وسياساته‭ ‬القمعية،‭ ‬وفضائح‭ ‬بشأن‭ ‬دعم‭ ‬الشاه‭ ‬بالملايين‭ ‬لحملة‭ ‬فورد‭ ‬الانتخابية‭ ‬عبر‭ ‬السفارة‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭. ‬

 

خالد عبدالعزيز النزر

كاتب‭ ‬وباحث‭ ‬سعودي