غاب عنا شخصا وجسدا وبقي فينا روحا وقيمة ومثلا خالدا

خالد البسام.. الرجل الموسوعي

| أسامة الماجد

تمر‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬الذكرى‭ ‬الرابعة‭ ‬لوفاة‭ ‬الصديق‭ ‬والزميل‭ ‬الرائع‭ ‬الباحث‭ ‬والمؤرخ‭ ‬خالد‭ ‬البسام،‭ ‬الذي‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬عالمنا‭ ‬في‭ ‬نوفمبر‭ ‬2015‭ ‬تاركا‭ ‬إرثا‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون‭ ‬بين‭ ‬يدي‭ ‬الأجيال‭ ‬الحاضرة‭. ‬عاش‭ ‬خالد‭ ‬البسام‭ ‬كما‭ ‬عرفته‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬للعلم‭ ‬والجد‭ ‬والعمل،‭ ‬حيث‭ ‬انكب‭ ‬عن‭ ‬دراسة‭ ‬التاريخ‭ ‬والتوثيق‭ ‬حتى‭ ‬نبغ‭ ‬فيها،‭ ‬وتألقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يبتدع‭ ‬فيها‭ ‬شيئا‭ ‬جديدا‭ ‬من‭ ‬روحه‭. ‬كان‭ ‬الراحل‭ ‬خالد‭ ‬البسام‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬القلائل‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬الذين‭ ‬يصح‭ ‬أن‭ ‬ندعوهم‭ ‬بالموسوعيين،‭ ‬إذ‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬موسوعة‭ ‬هائلة‭ ‬ولا‭ ‬معلمة‭ ‬عظيمة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬عالما‭ ‬مستقلا‭ ‬بالتاريخ،‭ ‬خلف‭ ‬للعلم‭ ‬والمكتبة‭ ‬البحرينية‭ ‬والخليجية‭ ‬من‭ ‬بعده،‭ ‬ثروة‭ ‬ضخمة‭ ‬ينوء‭ ‬الباحثون‭ ‬اليوم‭ ‬بحملها‭ ‬وتصنيفها،‭ ‬فالبسام‭ ‬لم‭ ‬يترك‭ ‬ناحية‭ ‬من‭ ‬نواحي‭ ‬التاريخ‭ ‬إلا‭ ‬وقد‭ ‬صال‭ ‬وجال‭ ‬في‭ ‬أروقتها‭. ‬

سافرت‭ ‬مع‭ ‬البسام‭ ‬في‭ ‬التسعينات‭ ‬حينما‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الزميلة‭ ‬“الأيام”‭ ‬إلى‭ ‬الكويت؛‭ ‬لحضور‭ ‬مهرجان‭ ‬القرين‭ ‬الثقافي،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬يأخذني‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬نطوف‭ ‬بها‭ ‬مكتبات‭ ‬الكويت‭ ‬الصغيرة‭ ‬والكبيرة،‭ ‬المعروفة‭ ‬وغير‭ ‬المعروفة،‭ ‬فلديه‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬ذاكرة‭ ‬قوية‭ ‬وعقلا‭ ‬خصبا،‭ ‬حيث‭ ‬أخذني‭ ‬إلى‭ ‬مكتبة،‭ ‬وكانت‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬دكان‭ ‬معزول‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬“لمباركية”‭. ‬وكان‭ ‬صاحبها‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬يناهز‭ ‬السبعين‭ ‬عاما،‭ ‬ولكنه‭ ‬ضليع‭ ‬بكل‭ ‬فرع‭ ‬من‭ ‬فروع‭ ‬العلم‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬منقطع‭ ‬النظير،‭ ‬دخلنا‭ ‬وأمام‭ ‬الخضم‭ ‬المتلاطم‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬العلوم‭ ‬والفلسفة‭ ‬والموسيقى‭ ‬والسياسة‭ ‬والتاريخ‭ ‬والفنون،‭ ‬دار‭ ‬البسام‭ ‬على‭ ‬الرفوف‭ ‬وكأنه‭ ‬يدور‭ ‬على‭ ‬بيوت‭ ‬كثيرة،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬بيت‭ ‬يأخذ‭ ‬صندوقا‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬منضدة‭ ‬بعضها‭ ‬فوق‭ ‬بعض،‭ ‬منها‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ،‭ ‬وكتب‭ ‬الرحلات‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬المشكلة‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬حمل‭ ‬“ثلاثة‭ ‬كراتين”‭ ‬إلى‭ ‬الفندق،‭ ‬وجاء‭ ‬الحل‭ ‬سريعا‭ ‬من‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬الذي‭ ‬اقترح‭ ‬علينا‭ ‬ترك‭ ‬الكراتين‭ ‬عنده‭ ‬وقبل‭ ‬السفر‭ ‬بيوم‭ ‬واحد‭ ‬نعود‭ ‬لأخذها،‭ ‬ووافق‭ ‬البسام‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬ومضينا‭. ‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬وتحديدا‭ ‬في‭ ‬المساء،‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬بجولة‭ ‬أخرى،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ..‬”بو‭ ‬حمد”‭ ..‬إذا‭ ‬خرجت‭ ‬معك‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬للمكتبات،‭ ‬فمن‭ ‬سيغطي‭ ‬ندوات‭ ‬المهرجان؟‭ ‬ضحك‭ ‬وقال‭ ‬بهدوئه‭ ‬المعروف‭... ‬براحتك‭.‬

ذلك‭ ‬هو‭ ‬خالد‭ ‬البسام‭ ‬الذي‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬ينهار‭ ‬الصرح‭ ‬الذي‭ ‬بناه‭ ‬وينطفئ‭ ‬ذلك‭ ‬المنار‭ ‬الذي‭ ‬أضاءه‭ ‬لنا،‭ ‬وسهر‭ ‬يحرسه‭ ‬ويحميه‭ ‬وينفخ‭ ‬من‭ ‬روحه‭ ‬ليظل‭ ‬مضيئا‭ ‬في‭ ‬الظلام‭ ‬وهوج‭ ‬الأعاصير‭. ‬البسام‭ ‬عاش‭ ‬مؤرخا‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الفريد‭ ‬وطيفه‭ ‬الرائد‭ ‬الملهم‭ ‬يطوف‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬الندوات‭ ‬والمجالس‭ ‬الأدبية،‭ ‬يبث‭ ‬فيهم‭ ‬جديدا‭ ‬من‭ ‬طاقته،‭ ‬فقد‭ ‬غاب‭ ‬عنا‭ ‬شخصا‭ ‬وجسدا،‭ ‬وبقي‭ ‬فينا‭ ‬روحا‭ ‬وقيمة‭ ‬ومعنى‭ ‬ومثلا‭ ‬خالدا‭ ‬لا‭ ‬يغيب‭. ‬فعلى‭ ‬الجيل‭ ‬الحاضر‭ ‬من‭ ‬يهوى‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬يقتبسوا‭ ‬من‭ ‬فيض‭ ‬حيويته،‭ ‬وينهلوا‭ ‬من‭ ‬نبع‭ ‬علمه،‭ ‬ويتزودوا‭ ‬من‭ ‬مدد‭ ‬توجيهه‭. ‬رحمك‭ ‬الله‭ ‬أيها‭ ‬الصديق‭ ‬المعلم‭.‬