هل تلافت الولايات المتحدة الركود أم أنها لم تواجهه بعد؟

| عواصم - بلومبيرغ، فوربس

نظرًا‭ ‬للنزعة‭ ‬البشرية‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬الأسواق‭ ‬وتميل‭ ‬للاندفاع‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الخطر،‭ ‬فإن‭ ‬المخاوف‭ ‬من‭ ‬الركود‭ ‬الحاد‭ ‬خلال‭ ‬الصيف‭ ‬الماضي،‭ ‬جعلت‭ ‬البيانات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬الإيجابية‭ ‬الصادرة‭ ‬مؤخرًا‭ ‬مثل‭ ‬تقرير‭ ‬الوظائف‭ ‬تبدو‭ ‬كمؤشر‭ ‬على‭ ‬تجاوز‭ ‬انكماش‭ ‬وقع‭ ‬بالفعل‭ ‬وليست‭ ‬علامة‭ ‬تحد‭ ‬من‭ ‬الخطر‭ ‬المحتمل‭.‬

وفقًا‭ ‬لـ”جوجل‭ ‬تريندس”،‭ ‬فإن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬“ركود”‭ ‬خلال‭ ‬منتصف‭ ‬الصيف‭ ‬الماضي‭ ‬بلغ‭ ‬فجأة‭ ‬أعلى‭ ‬مستوياته‭ ‬منذ‭ ‬الركود‭ ‬“الحقيقي”‭ ‬الأخير،‭ ‬وتزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬التوقعات‭ ‬السيئة‭ ‬بشأن‭ ‬المحادثات‭ ‬التجارية‭ ‬وانقلاب‭ ‬منحنى‭ ‬العائد،‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬المستثمرين‭ ‬للاستعداد‭ ‬للأسوأ‭.‬

‭ ‬ما‭ ‬أشبه‭ ‬اليوم‭ ‬بـ2008

‭ ‬بالتدقيق‭ ‬في‭ ‬بيانات‭ ‬“جوجل‭ ‬تريندس”،‭ ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬آخر‭ ‬مرة‭ ‬وصل‭ ‬فيها‭ ‬التشاؤم‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬المرتفع‭ ‬ثم‭ ‬انهار،‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬وأعقب‭ ‬هذا‭ ‬التغير‭ ‬في‭ ‬المعنويات،‭ ‬أسوأ‭ ‬ركود‭ ‬يتذكره‭ ‬الأميركيون‭ ‬الحاليون‭.‬

‭ ‬وما‭ ‬يزيد‭ ‬المشهد‭ ‬سوءًا‭ ‬أنه‭ ‬بوضع‭ ‬بيانات‭ ‬“جوجل‭ ‬تريندس”‭ ‬على‭ ‬الرسم‭ ‬البياني،‭ ‬يظهر‭ ‬أن‭ ‬نمط‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬كلمة‭ ‬الركود‭ ‬خلال‭ ‬الـ‭ ‬12‭ ‬شهرًا‭ ‬الماضية‭ ‬كان‭ ‬مماثلًا‭ ‬تمامًا‭ ‬لحركته‭ ‬خلال‭ ‬الـ‭ ‬12‭ ‬شهرًا‭ ‬اعتبارًا‭ ‬من‭ ‬مايو‭ ‬2007‭ (‬وهما‭ ‬الفترتان‭ ‬السابقتان‭ ‬لبلوغ‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬الركود‭ ‬ذروته‭).‬

وفي‭ ‬مايو‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬بعد‭ ‬بيع‭ ‬أعمال‭ ‬المصرف‭ ‬الاستثماري‭ ‬“بير‭ ‬ستيرنز”‭ ‬ومع‭ ‬انهيار‭ ‬سوق‭ ‬الائتمان‭ ‬المهيكل،‭ ‬هدأت‭ ‬مخاوف‭ ‬الناس‭ ‬بشأن‭ ‬مخاطر‭ ‬حدوث‭ ‬ركود‭ ‬كما‭ ‬فعلوا‭ ‬في‭ ‬الأشهر‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬موجة‭ ‬البيع‭ ‬الصيفية‭ ‬الماضية،‭ ‬وفي‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬انخفض‭ ‬اهتمام‭ ‬الباحثين‭ ‬عبر‭ ‬الإنترنت‭ ‬بالركود‭ ‬بنسبة‭ ‬80‭ %.‬

‭ ‬وفي‭ ‬الأسبوع‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬2008،‭ ‬قبل‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬بلوغ‭ ‬الأزمة‭ ‬ذروتها،‭ ‬بدا‭ ‬الأمر‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬الاقتصاد‭ ‬يمضي‭ ‬قدمًا‭ ‬رغم‭ ‬الصعوبات‭ ‬بمساعدة‭ ‬من‭ ‬سياسة‭ ‬التيسير‭ ‬التي‭ ‬اتبعها‭ ‬مجلس‭ ‬الاحتياطي‭ ‬الفيدرالي،‭ ‬وشعرت‭ ‬الأسواق‭ ‬بإمكانية‭ ‬تجنب‭ ‬الركود‭. ‬وتوقع‭ ‬المستثمرون‭ ‬بشكل‭ ‬صحيح‭ ‬تعرض‭ ‬القطاع‭ ‬المصرفي‭ ‬الأميركي‭ ‬للضغوط،‭ ‬لكنهم‭ ‬أخطأوا‭ ‬في‭ ‬الاعتقاد‭ ‬بأن‭ ‬أسواق‭ ‬السلع،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي،‭ ‬ستكون‭ ‬في‭ ‬مأمن‭ ‬من‭ ‬الانهيار‭. ‬وهناك‭ ‬أوجه‭ ‬تشابه‭ ‬أخرى‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬في‭ ‬2008‭ ‬واليوم،‭ ‬فقبل‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬هدأت‭ ‬التوترات‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬سبب‭ ‬حدوث‭ ‬عمليات‭ ‬بيع‭ ‬مفاجئة‭ ‬وعدوانية‭ ‬في‭ ‬أوروبا،‭ ‬وهو‭ ‬المتداول‭ ‬المحتال‭ ‬“جيروم‭ ‬كيرفيل”‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬خسارة‭ ‬“سوسيتيه‭ ‬جنرال”‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬في‭ ‬أيام‭.‬

وهذه‭ ‬المرة،‭ ‬أثار‭ ‬انقلاب‭ ‬منحنى‭ ‬العائد‭ ‬مخاوف‭ ‬المستثمرين‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬والذي‭ ‬جاء‭ ‬بعد‭ ‬موجة‭ ‬بيعية‭ ‬حادة‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬عام‭ ‬2018،‭ ‬لكن‭ ‬تحسنت‭ ‬البيانات‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬وتراجعت‭ ‬المخاوف‭ ‬بشأن‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬نسبيًا،‭ ‬وانحسر‭ ‬القلق‭ ‬بشأن‭ ‬“بريكست”‭.‬

الركود‭ ‬سيأتي‭.. ‬لكن؟‭!‬

‭ ‬وأظهر‭ ‬مسح‭ ‬“آي‭ ‬إس‭ ‬إم”‭ ‬لشهر‭ ‬نوفمبر،‭ ‬تراجع‭ ‬مؤشر‭ ‬أنشطة‭ ‬المصانع‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬48‭.‬1‭ ‬نقطة‭ ‬من‭ ‬48‭.‬3‭ ‬نقطة‭ (‬القراءة‭ ‬دون‭ ‬50‭ ‬تعني‭ ‬انكماش‭ ‬النشاط‭)‬،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬استمرار‭ ‬الضغوط‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬التصنيع‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬قالت‭ ‬وزارة‭ ‬العمل‭ ‬إن‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الأميركي‭ ‬أضاف‭ ‬266‭ ‬ألف‭ ‬وظيفة‭ ‬جديدة‭ ‬خلال‭ ‬نوفمبر،‭ ‬مما‭ ‬ساهم‭ ‬في‭ ‬انخفاض‭ ‬معدل‭ ‬البطالة‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬تاريخي‭ ‬عند‭ ‬3‭.‬5‭ %‬،‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬زاد‭ ‬من‭ ‬حيرة‭ ‬المستثمرين‭ ‬رغم‭ ‬كونه‭ ‬إيجابيًّا‭. ‬ومنذ‭ ‬الأزمة‭ ‬المالية‭ ‬العالمية،‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬الجميع‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬علامات‭ ‬على‭ ‬الهشاشة‭ ‬المالية،‭ ‬مثل‭ ‬فقاعات‭ ‬الأصول،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬تتشكل‭ ‬فقاعات‭ ‬مماثلة‭ ‬لما‭ ‬كانت‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬2008،‭ ‬ويرجح‭ ‬محللون‭ ‬أن‭ ‬عوامل‭ ‬الركود‭ ‬القادم‭ ‬لن‭ ‬تشمل‭ ‬أيًّا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المعهودة‭.‬

ويقول‭ ‬“يووا‭ ‬هيدريك‭ ‬وونغ”‭ ‬المحاضر‭ ‬بجامعة‭ ‬سنغافورة‭ ‬الوطنية‭ ‬وكلية‭ ‬“لي‭ ‬كوان‭ ‬يو”‭ ‬للسياسة‭ ‬العامة‭: ‬العالم‭ ‬اليوم‭ ‬غارق‭ ‬في‭ ‬عدم‭ ‬اليقين‭ ‬بفعل‭ ‬الحرب‭ ‬التجارية‭ ‬و”بريكست”‭ ‬وضعف‭ ‬النمو‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬والتوترات‭ ‬الجيوسياسية،‭ ‬والأهم‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الليبرالي‭ ‬يحتضر‭.‬

وهناك‭ ‬اتجاهان‭ ‬يؤديان‭ ‬إلى‭ ‬نهاية‭ ‬النظام‭ ‬العالمي،‭ ‬أولهما‭ ‬تراجع‭ ‬هيمنة‭ ‬الغرب‭ ‬الاقتصادية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لبقية‭ ‬العالم‭ ‬والصين‭ ‬خاصة،‭ ‬والثاني‭ ‬هو‭ ‬صعود‭ ‬الشعبوية‭ ‬في‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الغربية،‭ ‬والتي‭ ‬تعد‭ ‬أخطر‭ ‬تحد‭ ‬لشرعية‭ ‬النظام‭ ‬الليبرالي‭.‬

وأُضعفت‭ ‬الاقتصادات‭ ‬المتقدمة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خطير‭ ‬بفعل‭ ‬أسعار‭ ‬الفائدة‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬الصفر‭ ‬والمستمرة‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭ ‬طويلة،‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬عرضة‭ ‬للصدمات‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة،‭ ‬وفقًا‭ ‬لـ”وونغ”‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬إن‭ ‬الركود‭ ‬القادم‭ ‬سيأتي‭ ‬بغتة‭ ‬ودون‭ ‬مقدمات‭.‬

ويضيف‭ ‬“وونغ”‭: ‬أسعار‭ ‬الفائدة‭ ‬الحالية‭ ‬تشوه‭ ‬تكلفة‭ ‬المال،‭ ‬والتي‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إنها‭ ‬المؤشر‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬في‭ ‬اقتصاد‭ ‬السوق،‭ ‬هذه‭ ‬المعدلات‭ ‬تسمم‭ ‬بيئة‭ ‬الأعمال‭ ‬التجارية‭ ‬وتسمح‭ ‬للشركات‭ ‬سيئة‭ ‬الإدارة‭ ‬بأن‭ ‬تبقى‭ ‬على‭ ‬قيد‭ ‬الحياة،‭ ‬وهو‭ ‬أمر‭ ‬يشوه‭ ‬بدوره‭ ‬عمل‭ ‬الاقتصاد‭ ‬ويمتص‭ ‬أرباح‭ ‬الشركات‭ ‬الأكثر‭ ‬نجاحًا‭ ‬ويحد‭ ‬من‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التوسع‭.‬