مخرجون يتعمّدون إظهار شخصيته بعيوب كثيرة

المثقف على الشاشة... صورة هزيلة غير منصفة

| الروائية فتحية ناصر

يتناقل‭ ‬الناس‭ ‬فكرة‭ ‬عجيبة‭ ‬حول‭ ‬الإنسان‭ ‬المثقّف،‭ ‬تفيد‭ ‬بأنه‭ ‬شخص‭ ‬غريب‭ ‬الأطوار،‭ ‬يرتدي‭ ‬ملابس‭ ‬غريبة،‭ ‬ويتكلم‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬بطريقة‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬زمان‭ ‬غير‭ ‬زماننا‭ (‬إما‭ ‬الماضي‭ ‬البعيد‭ ‬لأنه‭ ‬أكثر‭ ‬أصالة‭ ‬أو‭ ‬المستقبل‭ ‬الذي‭ ‬يراه‭ ‬وحده‭). ‬وأتساءل‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬الفكرة‭ ‬انطلقت‭ ‬أولاً‭ ‬بحسن‭ ‬نية‭ - ‬مثلاً‭ - ‬وبقصد‭ ‬إيجابي،‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬أن‭ ‬المثقف‭ ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬متمّيز‭ ‬عن‭ ‬غيره؛‭ ‬ومع‭ ‬التكرار‭ ‬تحولت‭ ‬لمزحة‭ ‬سمجة،‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬ترسيخ‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬الساخرة‭ ‬من‭ ‬المثقف‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬الناس؟‭. ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬تنال‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬وتحط‭ ‬من‭ ‬قدره‭ ‬وتجعل‭ ‬آراءه‭ ‬بلا‭ ‬قيمة‭. ‬

‭ ‬ففي‭ ‬أحد‭ ‬الأفلام،‭ ‬نرى‭ ‬الشاعر‭ ‬يبيع‭ ‬أشعاره‭ (‬التافهة‭ ‬أصلاً‭) ‬بمبالغ‭ ‬تافهة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬يأكل،‭ ‬وفي‭ ‬غيره‭ ‬نراه‭ ‬“يسترزق”‭ ‬من‭ ‬كتابة‭ ‬أشعار‭ ‬الأفراح‭ ‬والنعي‭ ‬وتهاني‭ ‬الميلاد‭. ‬أما‭ ‬إن‭ ‬ظهرت‭ ‬صورة‭ ‬المثقف‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬جدية‭ ‬فستجدها‭ ‬إما‭ ‬شخصية‭ ‬منعزلة‭ ‬مثيرة‭ ‬للشفقة،‭ ‬أو‭ ‬مصابة‭ ‬بعقد‭ ‬نفسية‭ ‬وجنون‭ ‬العظمة،‭ ‬أو‭ ‬مدمنة،‭ ‬أو‭ ‬مكتئبة‭ ‬لدرجة‭ ‬عدم‭ ‬الاهتمام‭ ‬بنظافتها‭ ‬الشخصية،‭ ‬أو‭ ‬منافقة‭ ‬متملقة‭ ‬لأصحاب‭ ‬النفوذ‭. ‬

‭ ‬يجادل‭ ‬المخرجون‭ ‬أحيانًا‭ ‬بأن‭ ‬الناس‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬على‭ ‬الشاشة‭ ‬من‭ ‬يشبهها،‭ ‬فكأن‭ ‬المثقف‭ ‬لا‭ ‬يشبه‭ ‬أحدًا‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭!. ‬ويخشى‭ ‬مخرجون‭ ‬آخرون‭ ‬أن‭ ‬“تستثقل”‭ ‬الناس‭ ‬شخصية‭ ‬المثقف‭ ‬إن‭ ‬ظهرت‭ ‬تتكلم‭ ‬بطلاقة‭ ‬مثالية،‭ ‬أو‭ ‬“لا‭ ‬تصدَّق”‭ ‬إن‭ ‬أظهرها‭ ‬بصورة‭ ‬الشخص‭ ‬العادي‭ ‬الذي‭ ‬يتكلم‭ ‬ببساطة‭ ‬مثل‭ ‬باقي‭ ‬الناس‭ ‬وكأنه‭ ‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬حل‭ ‬وسط‭. ‬وإن‭ ‬توصّلنا‭ ‬لحل‭ ‬يبقى‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نقنع‭ ‬“المنتج”‭ ‬أيضًا‭ ‬والذي‭ ‬هو‭ - ‬كأي‭ ‬تاجر‭ - ‬درس‭ ‬السوق‭ ‬قبل‭ ‬اختيار‭ ‬بضاعته،‭ ‬ويرى‭ ‬بأن‭ ‬شخصية‭ ‬المثقف‭ ‬غير‭ ‬جاذبة‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬للجمهور‭ ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬اقتنع‭ ‬فهو‭ ‬غالبًا‭ ‬لن‭ ‬يجازف‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يكسر‭ ‬الصورة‭ ‬النمطية‭ ‬المعتادة‭ ‬ويسعى‭ ‬لتغييرها‭. ‬ببساطة،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬وقُدِّم‭ ‬بات‭ ‬نجاحه‭ ‬مضمونًا‭ ‬أكثر،‭ ‬وباتت‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إقناع‭ ‬الناس‭ ‬بأنه‭ ‬الحقيقة،‭ ‬أكبر‭. ‬

‭ ‬وهكذا،‭ ‬تبقى‭ ‬أعمالنا‭ ‬إما‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬المثقف،‭ ‬أو‭ ‬تقدّم‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬هزيلة،‭ ‬غير‭ ‬منصفة،‭ ‬فهل‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬له‭ ‬وجود‭ ‬على‭ ‬الإطلاق؟‭!‬‭ ‬أليس‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬لتقديمه‭ ‬بصورة‭ ‬صحيحة،‭ ‬أو‭ ‬متنوعة‭ ‬على‭ ‬الأقل،‭ ‬مثلما‭ ‬نقدّم‭ ‬عدة‭ ‬أنماط‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬الأعمال‭ ‬وغيرهم؟‭ ‬ألا‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نحمل‭ ‬همومه‭ ‬على‭ ‬محمل‭ ‬الجد‭ ‬أو‭ ‬نظهر‭ ‬له‭ ‬صورة‭ ‬مشرفة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬صور‭ ‬كثيرة‭ ‬سلبية‭ ‬تنال‭ ‬منه‭ ‬وتبالغ‭ ‬بإظهار‭ ‬عيوبه؟‭ ‬

‭ ‬إننا‭ ‬جميعًا‭ - ‬كبشر‭ - ‬لا‭ ‬نخلو‭ ‬من‭ ‬عقد‭ ‬نفسية‭ ‬صغيرة،‭ ‬نتعايش‭ ‬معها‭ ‬وتترك‭ ‬بصماتها‭ ‬في‭ ‬شخصياتنا‭ ‬وطباعنا،‭ ‬وبعضها‭ ‬يزعج‭ ‬من‭ ‬حولنا‭ ‬أيضًا،‭ ‬ولكن‭ ‬المثقف‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬يحول‭ ‬أحزانه‭ ‬وهواجسه‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬فنية،‭ ‬وموسيقية‭ ‬وأدبية‭... ‬فيصنع‭ ‬منها‭ ‬جمالاً‭ ‬يشارك‭ ‬به‭ ‬الآخرين‭ ‬ويبقى‭ ‬للأبد‭. ‬وهذا‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مثار‭ ‬إعجاب‭ ‬ومبعث‭ ‬تقدير‭ ‬واحترام‭.. ‬أليس‭ ‬ذلك‭ - ‬في‭ ‬النهاية‭ - ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يؤذي‭ - ‬بعقده‭ - ‬الناس‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬البعض،‭ ‬أو‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬بأن‭ ‬تدمره؟