التظاهرات ومعضلة التنمية في العالم العربي (1)

| سالم الكتبي

في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬أرجاء‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬بات‭ ‬مشهد‭ ‬التظاهرات‭ ‬والاحتجاجات‭ ‬الشعبية‭ ‬مألوفاً،‭ ‬يراوح‭ ‬بين‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬العنف‭ ‬والغضب‭ ‬تارة،‭ ‬وبين‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الرأي‭ ‬عبر‭ ‬أدوات‭ ‬سلمية‭ ‬بل‭ ‬واحتفالية‭ (‬كما‭ ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬اللبنانية‭) ‬تارة‭ ‬أخرى،‭ ‬وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬تبقى‭ ‬أسباب‭ ‬الاحتجاج‭ ‬والغضب‭ ‬الشعبي‭ ‬بين‭ ‬عوامل‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬متشابهة‭ ‬أولها‭ ‬فشل‭ ‬الساسة‭ ‬الطائفيين‭ ‬والسياسات‭ ‬الطائفية‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الدول‭ ‬وتوفير‭ ‬أسباب‭ ‬الحياة‭ ‬الكريمة‭ ‬لهذه‭ ‬الشعوب،‭ ‬وثانيها‭ ‬ضعف‭ ‬التنمية‭ ‬وانتشار‭ ‬الفساد‭ ‬والمحسوبية‭ ‬وسوء‭ ‬الإدارة‭ ‬وربما‭ ‬غيابها‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تشهد‭ ‬موجات‭ ‬الغضب‭ ‬والاحتجاج‭.‬

كقاعدة‭ ‬عامة‭ ‬لا‭ ‬تختلف‭ ‬فيها‭ ‬الشعوب‭ ‬مهما‭ ‬اختلفت‭ ‬الجغرافيا‭ ‬وتباعدت‭ ‬المسافات،‭ ‬الناس‭ ‬تحتاج‭ ‬دائماً‭ ‬إلى‭ ‬سياسات‭ ‬اجتماعية‭ ‬واقتصادية‭ ‬تضمن‭ ‬لها‭ ‬حدا‭ ‬مناسبا‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬الكريم،‭ ‬فالأساس‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الشعوب‭ ‬هو‭ ‬الممارسات‭ ‬السياسية‭ ‬ذات‭ ‬الصلة‭ ‬المباشرة‭ ‬والأثر‭ ‬الإيجابي‭ ‬على‭ ‬حياتهم‭ ‬اليومية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فالانتخابات‭ ‬والحريات‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬الديمقراطية‭ ‬ليست‭ ‬كافية‭ ‬لتهدئة‭ ‬غضب‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬وسيلة‭ ‬أو‭ ‬مدخلاً‭ ‬للتنمية‭ ‬والازدهار‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬فلا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تنظيم‭ ‬انتخابات‭ ‬أو‭ ‬توافر‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬ستكون‭ ‬ضمانة‭ ‬أو‭ ‬“مصلا”‭ ‬ضد‭ ‬الغضب‭ ‬والاحتجاج‭ ‬الشعبي،‭ ‬فهذه‭ ‬كلها‭ ‬لا‭ ‬تحول‭ ‬دون‭ ‬انفجار‭ ‬الغضب‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬لم‭ ‬تتوافر‭ ‬بالأخير‭ ‬للشباب‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬والدخل‭ ‬المناسب‭ ‬ويشعر‭ ‬الجميع‭ ‬بوجود‭ ‬دور‭ ‬تنموي‭ ‬حقيقي‭ ‬للدولة‭.‬

هناك‭ ‬أيضاً‭ ‬قواسم‭ ‬مشتركة‭ ‬بين‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬التي‭ ‬تجتاح‭ ‬مناطق‭ ‬شتى‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الراهنة،‭ ‬منها‭ ‬تآكل‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى‭ ‬وانحدارها‭ ‬بسبب‭ ‬عوامل‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬لآخر،‭ ‬لكنها‭ ‬تؤدي‭ ‬النتيجة‭ ‬ذاتها،‭ ‬وهذه‭ ‬الطبقة‭ ‬هي‭ ‬الركيزة‭ ‬الأساسية‭ ‬للمجتمعات‭ ‬وتراجع‭ ‬دورها‭ ‬واضمحلاله‭ ‬يعني‭ ‬اتساع‭ ‬الفجوة‭ ‬الطبقية‭ ‬بما‭ ‬يعنيه‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬نذر‭ ‬الغضب‭ ‬وانحسار‭ ‬مناعة‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬عوامل‭ ‬التفكك‭ ‬والانهيار‭.‬

في‭ ‬الحالتين‭ ‬العراقية‭ ‬واللبنانية‭ ‬تحديداً،‭ ‬ظهرت‭ ‬أجيال‭ ‬جديدة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬غضبها‭ ‬من‭ ‬السياسات‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬تطغى‭ ‬على‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬هذين‭ ‬البلدين‭ ‬العربيين،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الشارع‭ ‬يلقي‭ ‬بالاً‭ ‬لدعوات‭ ‬التهدئة‭ ‬التي‭ ‬يصدرها‭ ‬الساسة‭ ‬الطائفيون،‭ ‬وبات‭ ‬تأثير‭ ‬الفقر‭ ‬والبطالة‭ ‬أقوى‭ ‬من‭ ‬تأثير‭ ‬دغدغة‭ ‬المشاعر‭ ‬والعواطف‭ ‬والسلطة‭ ‬الطائفية‭ ‬التي‭ ‬توجه‭ ‬دفة‭ ‬القرار‭.‬

السياسات‭ ‬الطائفية‭ ‬لم‭ ‬تثمر‭ ‬سوى‭ ‬الفشل‭ ‬وغياب‭ ‬هوية‭ ‬الدول‭ ‬بل‭ ‬ومقوماتها‭ ‬الرئيسية،‭ ‬فنجد‭ ‬ملالي‭ ‬إيران‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬يتحدثون‭ ‬عن‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬عريق‭ ‬كالعراق‭ ‬وكأنه‭ ‬محافظة‭ ‬من‭ ‬المحافظات‭ ‬الإيرانية‭ ‬التي‭ ‬يسمح‭ ‬لهم‭ ‬فيها‭ ‬بملاحقة‭ ‬أعدائهم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مراعاة‭ ‬لوجود‭ ‬حكومات‭ ‬وساسة‭ ‬ومؤسسات‭ ‬تدير‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭!‬

لا‭ ‬يمكن‭ ‬لشعوب‭ ‬بأكملها‭ ‬أن‭ ‬ترتهن‭ ‬واقعها‭ ‬ومستقبلها‭ ‬لميلشيات‭ ‬تابعة‭ ‬لدول‭ ‬أخرى،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬الأساس‭ ‬لميلشيات‭ ‬أن‭ ‬تأسر‭ ‬هذه‭ ‬الشعوب‭ ‬وترهنها‭ ‬لأجندتها‭ ‬التي‭ ‬تنفذ‭ ‬تعليمات‭ ‬عابرة‭ ‬للحدود‭ ‬والسيادة‭ ‬الوطنية،‭ ‬فهذه‭ ‬أمور‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لملايين‭ ‬الشباب‭ ‬ممن‭ ‬يتطلعون‭ ‬إلى‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬فرص‭ ‬عمل‭ ‬والتطلع‭ ‬للمستقبل،‭ ‬القبول‭ ‬بها‭. ‬“إيلاف”‭.‬