وَخْـزَةُ حُب

حين يُضرب الضارب والمضروب!

| د. زهرة حرم

لا‭ ‬تكن‭ ‬طرفا‭ ‬في‭ ‬مشكلة‭ ‬أو‭ ‬عراك‭ ‬أو‭ (‬هوشة‭)‬؛‭ ‬عبارة‭ ‬كان‭ ‬يرددها‭ ‬والدي،‭ ‬وأجزمُ‭ ‬أن‭ ‬كثيرًا‭ ‬منكم‭ ‬وُجهت‭ ‬له،‭ ‬وفهم‭ ‬مغزاها،‭ ‬وأصبح‭ ‬يتناقلها،‭ ‬فحين‭ ‬كنا‭ ‬صغارًا،‭ ‬وبعد‭ ‬عراك‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬إخوتي‭ ‬أو‭ ‬جارة‭ ‬قريبة؛‭ ‬كنت‭ ‬أتهافت‭ ‬إلى‭ ‬والدي‭ ‬للشكوى،‭ ‬ظنًا‭ ‬مني‭ ‬أنه‭ ‬سيقف‭ ‬في‭ ‬صفي،‭ ‬وسيقتص‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬غريمي‭ ‬أو‭ ‬خصمي‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬طفولية‭! ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬العكس‭ ‬تمامًا؛‭ ‬إذ‭ ‬يباغتني‭ ‬بالتذمر‭ ‬من‭ ‬فعلي،‭ ‬ويُوبّخني‭ ‬شر‭ ‬توبيخ،‭ ‬مُرددًا‭ ‬على‭ ‬مسامعي،‭ ‬في‭ ‬سؤال‭ ‬استنكاري‭: (‬ليش‭ ‬داخلة‭ ‬طرف‭ ‬في‭ ‬الموضوع؟‭ ‬تستاهلين‭ ‬اللي‭ ‬يصيدك‭!).‬

كان‭ ‬عقلي‭ ‬الصغير‭ ‬غير‭ ‬مُستوعبٍ‭ ‬للحدث‭ ‬الانقلابي‭ ‬الذي‭ ‬صعقني،‭ ‬وكيف‭ ‬انقلب‭ ‬أقرب‭ ‬الناس‭ ‬ضدي،‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يسعفني‭ ‬أو‭ ‬يرفع‭ ‬ظُلامتي‭ ‬إلى‭ ‬أهل‭ ‬خصومي؛‭ ‬لأنال‭ ‬حقي‭ ‬الذي‭ ‬هُدر‭ ‬–‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬آنذاك‭ ‬–‭ ‬مرتين‭ ‬متتاليتن؛‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬هزيمتي‭ ‬في‭ ‬المعركة،‭ ‬ومرة‭ ‬بسبب‭ ‬تخليه‭ ‬عني،‭ ‬ومهاجمته‭ ‬سلوكي‭! ‬هذا‭ ‬طبعًا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يتسارع‭ ‬بعض‭ ‬الآباء‭ ‬والأمهات‭ ‬–‭ ‬في‭ ‬مشهد‭ ‬مُشابه‭ - ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬أغلظ‭ ‬الشكاوى،‭ ‬ورمي‭ ‬أقوى‭ ‬السباب‭ ‬والشتائم؛‭ ‬ما‭ ‬إنْ‭ ‬يتراكض‭ ‬إليهم‭ ‬أحد‭ ‬أطفالهم‭ ‬بدمعةٍ‭ ‬جافة‭ ‬على‭ ‬الخد؛‭ ‬يشتكي‭ ‬فيها‭ ‬تطاول‭ ‬أحدهم‭ ‬عليه‭! ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬يهمهم‭ ‬تقصي‭ ‬المسألة‭ ‬أو‭ ‬جوانب‭ ‬الموضوع؛‭ ‬يُهرعون‭ ‬إلى‭ ‬نُصرة‭ ‬ولدهم‭ ‬ظالمًا‭ ‬أو‭ ‬مظلومًا‭!‬

هذا‭ ‬موقف‭ ‬كبير‭ ‬عليّ،‭ ‬ولم‭ ‬أعِهِ‭ ‬بالفعل‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬مواقف‭ ‬متكررة؛‭ ‬إذْ‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬ألجأ‭ ‬إلى‭ ‬والدي‭ ‬بعد‭ ‬أية‭ ‬معركة‭ ‬تحصل،‭ ‬أيًا‭ ‬تكن‭ ‬النتائج،‭ ‬وأيًا‭ ‬تكن‭ ‬الخسائر‭! ‬وبالتدريج‭ ‬أصبحت‭ ‬أبتعد‭ ‬عن‭ ‬مواقف‭ ‬الصراعات،‭ ‬وأتجنب‭ ‬مواطن‭ ‬الشبهات،‭ ‬وأصبحت‭ ‬أُحمِّل‭ ‬نفسي‭ ‬مسؤولية‭ ‬خوض‭ ‬أية‭ (‬قضية‭)‬،‭ ‬مراعية‭ ‬تبعاتها‭ ‬النفسية‭ ‬والمادية،‭ ‬ومُنتبهة‭ ‬متيقظة‭ ‬لعواقبها؛‭ ‬كيف‭ ‬ستبدو،‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬الصُدف‭ ‬أو‭ ‬الحظوظ‭! ‬وبغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬والدي‭ ‬القاسي‭ ‬–‭ ‬حينها‭ ‬–‭ ‬وهل‭ ‬هو‭ ‬صائب‭ ‬أو‭ ‬خاطئ؛‭ ‬فقد‭ ‬علمني‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬قبل‭ ‬أنْ‭ ‬أطرق‭ ‬أبواب‭ ‬الآخرين‭.‬

في‭ ‬حياتنا‭ ‬اليومية،‭ ‬وخارج‭ ‬نطاق‭ ‬الطفولة‭ ‬وبراءتها،‭ ‬أو‭ ‬مشاكسات‭ ‬المراهقة‭ ‬وحساسياتها‭. ‬كم‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬عجز‭ ‬عنه‭ ‬الكبير‭ ‬منا،‭ ‬لا‭ ‬لشيء،‭ ‬سوى‭ ‬حشر‭ ‬أنفه‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬أو‭ ‬مشكلات،‭ ‬ليست‭ ‬من‭ ‬اختصاصه،‭ ‬ولا‭ ‬تعنيه،‭ ‬أو‭ ‬لعله‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬نفسه‭ ‬طرفًا‭ ‬أساسيًا‭ ‬فيها،‭ ‬وأساء‭ ‬البحث‭ ‬أو‭ ‬الدراسة،‭ ‬وغاب‭ ‬عنه‭ ‬بُعد‭ ‬النظر؛‭ ‬بسبب‭ ‬حماسة‭ ‬زائفة‭ ‬أو‭ ‬انفعال‭ ‬ما؛‭ ‬فكان‭ ‬خروجه‭ ‬منها‭ ‬أمرًا‭ ‬صعبًا‭ ‬وشائكًا،‭ ‬كمَنْ‭ ‬دسَّ‭ ‬رأسه‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬إعصار،‭ ‬وأغفل‭ ‬أن‭ ‬انتزاعه‭ ‬منها،‭ ‬دونه‭ ‬قطع‭ ‬الرقاب‭!‬

لا‭ ‬تكن‭ ‬طرفا‭ ‬في‭ ‬مشكلة‭! ‬ليس‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬حكمة‭ ‬قِيلت،‭ ‬والعاقل‭ ‬مَنْ‭ ‬تصله‭ ‬الرسالة‭ ‬واضحة‭ ‬جليّة؛‭ ‬فيعمل‭ ‬بها‭. ‬أما‭ ‬الجاهل؛‭ ‬فتغذيه‭ ‬الزوابع‭ ‬ويعتاش‭ ‬على‭ ‬توابعها،‭ ‬ويُدفن‭ ‬تحت‭ ‬أنقاضها‭!.‬