حنين التربة الوطنية ومواطن الجمال والتاريخ الغني الضخم

معرض “على رافديك أتلو رسائل بابل” لفريال الأعظمي

| أسامة الماجد

إن‭ ‬شرقنا‭ ‬العربي‭ ‬القديم،‭ ‬الذي‭ ‬يعتبر‭ ‬مهدا‭ ‬لنشوء‭ ‬وتطور‭ ‬واندثار‭ ‬أهم‭ ‬الحضارات‭ ‬البشرية‭ ‬الأولى،‭ ‬كان‭ ‬بلا‭ ‬منازع‭ ‬مرتعا‭ ‬لتطور‭ ‬عظيم‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مجالات‭ ‬الحياة،‭ ‬وسيدا‭ ‬حقيقيا‭ ‬لكل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬يتصل‭ ‬بالفنون‭ ‬المعمارية‭ ‬والجدارية،‭ ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬أرضنا‭ ‬العربية‭ ‬تطور‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الأنواع‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬وأشكال‭ ‬تعاونها‭ ‬وتضافرها‭ ‬في‭ ‬محاولات‭ ‬الدمج‭ ‬الفني‭ ‬الواعي‭ ‬الحاصل‭ ‬من‭ ‬تركيب‭ ‬هذه‭ ‬الفنون‭ ‬مع‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬وحدات‭ ‬فنية‭ ‬متكاملة‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬نشأت‭ ‬وتطورت‭ ‬عبر‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬حضارات‭ ‬الشرق‭ ‬القديم،‭ ‬خاصة‭ ‬على‭ ‬أيدي‭ ‬السومريين‭ ‬والأكاديين‭ ‬والبالبلين‭ ‬والاموريين‭ ‬والاشوريين‭ ‬والمصريين‭ ‬القدماء‭. ‬

في‭ ‬معرض‭ ‬الفنانة‭ ‬فريال‭ ‬الأعظمي‭ ‬بدار‭ ‬البارح‭ ‬والذي‭ ‬أطلقت‭ ‬عليه‭ ‬“على‭ ‬رافديك‭ ‬أتلو‭ ‬رسائل‭ ‬بابل”‭ ‬والمقام‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬من‭ ‬3‭- ‬18‭ ‬ابريل‭ ‬الجاري‭ ‬عودة‭ ‬للتراث‭ ‬والتشكيل‭ ‬العراقي‭ ‬العظيم،‭ ‬رسوم‭ ‬وصور‭ ‬جدارية‭ ‬تدل‭ ‬دلالة‭ ‬قاطعة‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬العراق‭ ‬الغني‭ ‬الضخم،‭ ‬ودوره‭ ‬الهام‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬فلوحات‭ ‬الاعظمي‭ ‬تفيض‭ ‬حيوية‭ ‬وفيها‭ ‬كل‭ ‬معاني‭ ‬الأصالة‭ ‬والخبرة‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬الألوان‭ ‬والتعبير‭ ‬عن‭ ‬الموضوع‭ ‬تعبيرا‭ ‬صادقا‭. ‬

عندما‭ ‬تقف‭ ‬أمام‭ ‬أي‭ ‬لوحة‭ ‬تشعر‭ ‬بأن‭ ‬روح‭ ‬بابل‭ ‬وجمالها‭ ‬وثراء‭ ‬ألوانها‭ ‬تحلق‭ ‬فوق‭ ‬رأسك،‭ ‬ألوان‭ ‬وخطوط‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬أحاسيس‭ ‬ومشاعر‭ ‬تلهب‭ ‬الأعماق‭. ‬حنين‭ ‬التربة‭ ‬الوطنية‭ ‬ومواطن‭ ‬الجمال‭ ‬والتاريخ‭. ‬لقد‭ ‬تجولت‭ ‬في‭ ‬المعرض‭ ‬بمعية‭ ‬الزميل‭ ‬المصور‭ ‬رسول‭ ‬الحجيري‭ ‬ودهشت‭ ‬بأسلوب‭ ‬الفنانة‭ ‬الاعظمي‭ ‬العجيب‭ ‬خاصة‭ ‬وان‭ ‬الفنان‭ ‬يبقى‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬تراث‭ ‬وطنه‭ ‬في‭ ‬لوحاته،‭ ‬فلم‭ ‬تترك‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬التراثية‭ ‬العراقية‭ ‬الجميلة‭ ‬إلا‭ ‬وعبرت‭ ‬عنها‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬اللوحات‭ ‬المدروسة‭.‬

يمكن‭ ‬ان‭ ‬نخلص‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬ان‭ ‬المعرض‭ ‬والذي‭ ‬جاء‭ ‬حسب‭ ‬تعبير‭ ‬الاعظمي‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬حزنها‭ ‬العميق‭ ‬وغضبها‭ ‬من‭ ‬نهب‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية‭ ‬العراقية‭ ‬بعد‭ ‬الغزو‭ ‬الأميركي‭ ‬لوطنها‭ ‬الأصل‭ ‬العراق‭ ‬وحقق‭ ‬من‭ ‬النجاح‭ ‬الكثير‭ ‬واجتذب‭ ‬جمهورا‭ ‬من‭ ‬الزوار‭ ‬الذين‭ ‬أعجبوا‭ ‬باللوحات‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬المعرض‭ ‬تعيد‭ ‬الاعظمي‭ ‬زيارة‭ ‬معرضها‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬أقيم‭ ‬أيضا‭ ‬بدار‭ ‬البارح‭ ‬للفنون‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬2006‭ ‬وبنفس‭ ‬الاسم‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المفهوم‭ ‬والشكل‭ ‬لتوثيق‭ ‬الكيفية‭ ‬التي‭ ‬نمت‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬تلك‭ ‬الإيقاعات‭ ‬وتغيرت‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭.‬

الاعظمي‭ ‬تصف‭ ‬زيارتها‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬معرض‭: ‬اشعر‭ ‬بمثل‭ ‬شعور‭ ‬آشور‭ ‬بانيبال،‭ ‬القابع‭ ‬في‭ ‬المتحف‭ ‬البريطاني‭ ‬منذ‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬فبينما‭ ‬كانت‭ ‬تتجول‭ ‬وسط‭ ‬المعروضات،‭ ‬كان‭ ‬يغمرها‭ ‬إحساس‭ ‬بالخسران‭ ‬بسبب‭ ‬اضطرارها‭ ‬إلى‭ ‬رؤية‭ ‬تلك‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬بعيد‭ ‬عن‭ ‬بلدها،‭ ‬وبعد‭ ‬تفكير‭ ‬عميق‭ ‬استبدلت‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬بارتياح‭ ‬لأن‭ ‬القطع‭ ‬الأثرية‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬مأمن‭ ‬وتم‭ ‬المحافظة‭ ‬عليها‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭ ‬وان‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬ارض‭ ‬أجنبية‭. ‬ألهمتها‭ ‬عملية‭ ‬التأمل‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬معرضها‭ ‬لعام‭ ‬2006‭ ‬“على‭ ‬رافديك‭ ‬أتلو‭ ‬رسائل‭ ‬بابل”‭ ‬حيث‭ ‬أعادت‭ ‬صياغة‭ ‬القطع‭ ‬التي‭ ‬أنتجتها‭ ‬آنذاك‭ ‬باستخدامها‭ ‬كأساس‭ ‬لأعمال‭ ‬جديدة‭ ‬مستمدة‭ ‬من‭ ‬أعمالها‭ ‬القديمة‭ ‬وهذه‭ ‬المرة‭ ‬من‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬أكثر‭ ‬نضجا‭ ‬وأكثر‭ ‬انعكاسا‭ ‬وتقدما‭. ‬ومع‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بالصور‭ ‬القديمة‭ ‬كقاعدة،‭ ‬تقوم‭ ‬الاعظمي‭ ‬بتحديث‭ ‬الألوان‭ ‬وتزيين‭ ‬الأسطح‭ ‬واستخدام‭ ‬أوراق‭ ‬وقوام‭ ‬ذهبي،‭ ‬لتصنع‭ ‬مفاهيما‭ ‬جديدة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المفاهيم‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لبدء‭ ‬عملية‭ ‬التعافي‭ ‬من‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬بسبب‭ ‬فقدان‭ ‬رموزها‭ ‬الثقافية‭.‬

فريال‭ ‬الاعظمي‭ ‬فنانة‭ ‬عراقية‭ ‬بريطانية‭ ‬ولدت‭ ‬في‭ ‬بغداد،‭ ‬وتستوحي‭ ‬أعمالها‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬العراق‭ ‬الغني‭ ‬والرغبة‭ ‬في‭ ‬توثيق‭ ‬ذلك‭ ‬الثراء‭ ‬والحفاظ‭ ‬عليه‭ ‬للأجيال‭ ‬القادمة‭.‬