اغتيال طفل مبدع

قبل‭ ‬فترة‭ ‬مضت‭ ‬قضيت‭ ‬سهرة‭ ‬هادئة‭ ‬في‭ ‬مشاهدة‭ ‬الفيلم‭ ‬البريطاني‭ ‬الدرامي‭ (‬وداعًا‭ ‬كريستوفر‭ ‬روبن‭)‬،‭ ‬إذ‭ ‬يُسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الراحل‭ (‬آلان‭ ‬ألكسندر‭ ‬ميلن‭) ‬صاحب‭ ‬السلسلة‭ ‬الكرتونية‭ ‬الشهيرة‭ (‬ويني‭ ‬ذا‭ ‬بوه‭). ‬إلا‭ ‬أنَّ‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬مضمون‭ ‬الفيلم‭ ‬ارتكز‭ ‬على‭ ‬علاقة‭ ‬الكاتب‭ ‬بابنه‭ ‬الصغير‭ (‬كريستوفر‭) ‬الذي‭ ‬شكل‭ ‬محورًا‭ ‬أساسا‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬كتاباته‭ ‬لاسيما‭ ‬السلسلة‭ ‬الأشهر‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ (‬ويني‭ ‬ذا‭ ‬بوه‭).‬

غير‭ ‬أنَّ‭ ‬لكل‭ ‬نجاح‭ ‬ثمنا‭ ‬باهظا،‭ ‬خاصة‭ ‬إن‭ ‬بلغت‭ ‬الشهرة‭ ‬ذروتها،‭ ‬إذ‭ ‬تُصور‭ ‬لنا‭ ‬الأحداث‭ ‬الرئيسة‭ ‬مدى‭ ‬تأثير‭ ‬هذا‭ ‬النجاح‭ ‬الساحق‭ ‬على‭ ‬وحدة‭ ‬العائلة،‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬بوضوح‭ ‬كيف‭ ‬انقلبت‭ ‬حياة‭ ‬الصغير‭ ‬“كريستوفر”‭ ‬إلى‭ ‬معاناة‭ ‬طويلة‭ ‬استمرت‭ ‬إلى‭ ‬سنوات،‭ ‬ما‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬الشفقة،‭ ‬ويستدر‭ ‬عواطفنا‭ ‬لا‭ ‬إراديا‭ ‬بعدما‭ ‬فقد‭ ‬وافتقد‭ ‬طفولته‭ ‬المحببة‭ ‬في‭ ‬ربيع‭ ‬عمره‭ ‬كما‭ ‬يُقال؛‭ ‬نتيجة‭ ‬إشهار‭ ‬شخصيته‭ ‬إلكرتونية‭ ‬لدى‭ ‬عشاق‭ ‬السلسلة‭ ‬الذين‭ ‬بلغوا‭ ‬الآلاف‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭. ‬وكأنَّ‭ ‬صناع‭ ‬الفيلم‭ ‬عمدوا‭ ‬إلى‭ ‬إظهار‭ ‬الجانب‭ ‬السوداوي‭ ‬من‭ ‬حياة‭ ‬الكاتب،‭ ‬مستهدفين‭ ‬إبراز‭ ‬العبرة‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬العواقب‭ ‬الوخيمة‭ ‬المترتبة‭ ‬على‭ ‬النجاح‭ ‬الزائف‭ ‬لأي‭ ‬طفل‭ ‬بريء‭ ‬دفع‭ ‬ثمنه‭ ‬كرهًا‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬يجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نُوجه‭ ‬أقصى‭ ‬اهتمامنا‭ ‬إلى‭ ‬الطفل‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة‭ ‬بعد،‭ ‬وقبل‭ ‬خوض‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬سأطرح‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬هل‭ ‬إبداع‭ ‬الطفولة‭ ‬نعمة‭ ‬أم‭ ‬نقمة؟‭ ‬وما‭ ‬النتائج‭ ‬المترتبة‭ ‬إذا‭ ‬طرق‭ ‬الطفل‭ ‬الموهوب‭ ‬أبواب‭ ‬الشهرة؟‭ ‬

قبل‭ ‬الإجابة‭ ‬على‭ ‬السؤال‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬نُميز‭ ‬بين‭ ‬الإبداع‭ ‬الأصيل‭ ‬وصناعة‭ ‬الإبداع،‭ ‬أو‭ ‬الأجدر‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬تلفيق‭ ‬الإبداع‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬تزييفًا‭. ‬فالأول‭ ‬يتضمن‭ ‬كل‭ ‬موهبة‭ ‬أو‭ ‬فن‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬مكتسبا‭ ‬أم‭ ‬نابعا‭ ‬عن‭ ‬الفطرة،‭ ‬واعتباره‭ ‬ذا‭ ‬قيمة‭ ‬يثير‭ ‬الإعجاب‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬المتأمل،‭ ‬فيستحق‭ ‬الثناء‭ ‬والإشادة‭ ‬به‭.  ‬بينما‭ ‬الإبداع‭ ‬الزائف‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬فن‭ ‬ويفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الأصالة،‭ ‬فلا‭ ‬قيمة‭ ‬له‭ ‬إطلاقًا،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬إنجازا‭ ‬يستحق‭ ‬المديح،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬نجد‭ ‬صاحبه‭ ‬قد‭ ‬نال‭ ‬الشهرة‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬بلا‭ ‬إرادة‭ ‬منه،‭ ‬كحال‭ ‬بعض‭ ‬مشاهير‭ ‬برامج‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬نجد‭ ‬فئة‭ ‬منهم‭ ‬لم‭ ‬تقدم‭ ‬إبداعًا‭ ‬أصيلا‭ ‬يجذب‭ ‬إعجاب‭ ‬المشاهد‭ ‬الفطن‭. ‬وكما‭ ‬يبدو‭ ‬لواقعنا‭ ‬اليوم‭ ‬ظاهرة‭ ‬الشهرة‭ ‬المستحدثة‭ ‬هي‭ ‬السائدة‭ ‬اليوم‭ ‬ولا‭ ‬أود‭ ‬الإطناب‭ ‬فيها،‭ ‬فمقصد‭ ‬حديثي‭ ‬يستهدف‭ ‬الأطفال‭ ‬المبدعين‭ ‬والمشهورين‭ ‬منهم،‭ ‬فحين‭ ‬يخطر‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬لفظ‭ ‬“طفل”‭ ‬يُخيل‭ ‬إليَّ‭ ‬ذلك‭ ‬الكائن‭ ‬الصغير‭ ‬تعلو‭ ‬محياه‭ ‬مسحة‭ ‬من‭ ‬البراءة،‭ ‬فيما‭ ‬يتمتع‭ ‬برشاقة‭ ‬وخفة‭ ‬خاصة‭ ‬تُخوله‭ ‬لابتداع‭ ‬أصناف‭ ‬من‭ ‬الشقاوة‭ ‬والحركات‭ ‬المنذرة‭ ‬بالتهديد‭ ‬والتخريب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يطال‭ ‬سوى‭ ‬ممتلكات‭ ‬المنزل‭ ‬ومعها‭ ‬المقتنيات‭ ‬المعروضة،‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬نضطر‭ ‬غالبًا‭ ‬أن‭ ‬نخوض‭ ‬معركة‭ ‬شرسة‭ ‬مع‭ ‬عناده‭ ‬التقليدي‭ ‬الذي‭ ‬تنوب‭ ‬عنه‭ ‬صيحات‭ ‬الصراخ‭ ‬والصياح‭ ‬والإلحاح‭ ‬ثم‭ ‬البكاء‭ ‬الهادر،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬يغيبنَّ‭ ‬عن‭ ‬أسماعنا‭ ‬رنين‭ ‬ضحكاته‭ ‬الوادعة‭ ‬حيث‭ ‬تستطيبه‭ ‬نفوس‭ ‬الآباء‭.‬

فإن‭ ‬انتفت‭ ‬عنه‭ ‬هذه‭ ‬الصفات‭ ‬المذكورة‭ ‬ففي‭ ‬نموه‭ ‬العقلي‭ ‬علائم‭ ‬شك،‭ ‬وقد‭ ‬تنجم‭ ‬عوامل‭ ‬سلبية‭ ‬تحدُّ‭ ‬من‭ ‬النمو‭ ‬العقلي‭ ‬للطفل‭ ‬السليم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تَشل‭ ‬سلوكياته‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وهذا‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬يمثل‭ ‬خطورة‭ ‬تهدد‭ ‬حياته‭ ‬المستقبلية،‭ ‬بل‭ ‬وحتى‭ ‬العمرية،‭ ‬وما‭ ‬أكثر‭ ‬البراهين‭ ‬في‭ ‬واقعنا‭ ‬المعاصر‭ ‬المبتلى‭ ‬ببرامج‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬أنشئت‭ ‬مساحة‭ ‬مفتوحة‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها‭ ‬للشهرة‭ ‬الهابطة‭. ‬وكم‭ ‬من‭ ‬طفل‭ ‬غافل‭ ‬وقع‭ ‬ضحية‭ ‬مصائد‭ ‬الواقع‭ ‬الافتراضي‭ ‬دون‭ ‬حسيب‭ ‬ولا‭ ‬رقيب،‭ ‬بل‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬للأسرة‭ ‬اللاواعية‭ ‬دورًا‭ ‬رئيسا‭ ‬في‭ ‬زجِ‭ ‬أبنائها‭ ‬لدى‭ ‬غياهب‭ ‬سجون‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي‭ ‬الذي‭ ‬أجاز‭ ‬العرف‭ ‬تسميته‭ ‬بفضاء‭ ‬الواقع‭ ‬سالف‭ ‬الذكر،‭ ‬نعم‭ ‬هو‭ ‬عالم‭ ‬واسع‭ ‬لا‭ ‬محالة،‭ ‬لكن‭ ‬من‭ ‬يسيء‭ ‬اقتحامه‭ ‬سيتوه‭ ‬في‭ ‬محيطه‭ ‬المتشعب‭ ‬بلا‭ ‬نهاية‭.  ‬فماذا‭ ‬عن‭ ‬الطفل‭ ‬المبدع‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬الرشد‭ ‬بعد؟‭ ‬أي‭ ‬بؤس‭ ‬سيُخيم‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬المستأنسة‭ ‬لو‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬مشاهير‭ ‬المجتمع‭ ‬الافتراضي‭ ‬الذين‭ ‬آلوا‭ ‬مادة‭ ‬للتندر‭ ‬والهزء‭ ‬والإنكار،‭ ‬وإني‭ ‬لأستذكر‭ ‬مقطع‭ ‬تلك‭ ‬الطفلة‭ ‬الوديعة‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬رقصة‭ ‬عفوية‭ ‬على‭ ‬دندنة‭ ‬أخيها‭ ‬بعد‭ ‬عودتها‭ ‬من‭ ‬المدرسة،‭ ‬حتى‭ ‬انتشر‭ ‬المقطع‭ ‬كالنار‭ ‬في‭ ‬الهشيم،‭ ‬ولم‭ ‬تجد‭ ‬الطفلة‭ ‬نفسها‭ ‬إلا‭ ‬مثارًا‭ ‬للتداول‭ ‬بين‭ ‬أعين‭ ‬الناس‭ ‬وألسنتهم‭. ‬وفي‭ ‬مقطع‭ ‬آخر‭ ‬يتراءى‭ ‬لي‭ ‬وكأنها‭ ‬أُلزمت‭ ‬بالحضور‭ ‬لافتتاح‭ ‬أحد‭ ‬المحلات‭ ‬التجارية‭ ‬العريقة،‭ ‬إذ‭ ‬احتشد‭ ‬الجمهور‭ ‬والتموا‭ ‬عليها‭ ‬بهياج،‭ ‬فيما‭ ‬هي‭ ‬تبدو‭ ‬عبوسة‭ ‬الوجه،‭ ‬متجهمة‭ ‬الملامح،‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬راحة‭ ‬النفس‭ ‬وسكينتها،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬نرى‭ ‬أخيها‭ ‬يحثها‭ ‬على‭ ‬رسم‭ ‬ولو‭ ‬بسمة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬وجوه‭ ‬هؤلاء‭ ‬الغوغائيين‭ ‬وتسعدهم‭ ‬بحضورها‭ ‬الذي‭ ‬سيقت‭ ‬إليه‭ ‬كرهًا‭ ‬وبلا‭ ‬حيلة‭. ‬أخال‭ ‬صراحتي‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬طرحت‭ ‬لن‭ ‬يروق‭ ‬للبعض،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أستبعد‭ ‬أن‭ ‬تطالني‭ ‬تعليقات‭ ‬السخط‭ ‬وما‭ ‬يتبعها‭ ‬من‭ ‬إنكار،‭ ‬جراء‭ ‬فهم‭ ‬أصحابها‭ ‬لتوجهي‭ ‬الداعي‭ ‬لكبت‭ ‬المواهب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬طفل‭ ‬إن‭ ‬وُجدت‭ ‬كما‭ ‬يزعمون،‭ ‬وكأن‭ ‬أولاء‭ ‬لم‭ ‬يلتقطوا‭ ‬من‭ ‬الموضوع‭ ‬سوى‭ ‬قشوره،‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬يستوعبوا‭ ‬فحواه‭ ‬مطلقًا‭. ‬فمن‭ ‬نافلة‭ ‬القول‭ ‬أُوضح‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬واجبي‭ ‬الحث‭ ‬على‭ ‬الالتفات‭ ‬إلى‭ ‬الطفل‭ ‬المبدع،‭ ‬وأن‭ ‬نوليه‭ ‬الرعاية‭ ‬والاهتمام‭ ‬الوافي،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نسلب‭ ‬حقوقه‭ ‬التي‭ ‬أوجبها‭ ‬الشرع‭ ‬وقوانين‭ ‬المجتمع،‭ ‬ولا‭ ‬نحرمنَّه‭ ‬حريته‭ ‬الممنوحة‭ ‬لممارسة‭ ‬حياته‭ ‬الخاصة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬التسالي‭ ‬من‭ ‬الألعاب‭ ‬المناسبة‭ ‬ورفاهية‭ ‬الحركة‭. ‬والحذر‭ ‬كل‭ ‬الحذر‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬ضحية‭ ‬عبث‭ ‬البرامج‭ ‬الافتراضية،‭ ‬أو‭ ‬يُستغل‭ ‬بسوء‭ ‬لمطامع‭ ‬شهرة‭ ‬لا‭ ‬حيلة‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬ولا‭ ‬إرادة‭ ‬قد‭ ‬تغتال‭ ‬مرحلته‭ ‬المبكرة‭ ‬ثم‭ ‬طفولته‭ ‬المسالمة‭.‬

محمد‭ ‬الواعظ