ذرائع

سباق الشهوات المضمرة

| غسان الشهابي

مرة أخرى تختبرنا الأحداث لنعرف أين نحن منها، فلا يوجد كالأحداث كاشف عن معادن البشر ليحكّ معادنهم، فتتبين المعادن النفيسة حقيقة، من تلك المطليّة باللامع منها، وسريعاً ما تنكشف القشرة الرقيقة التي كانت تزينه.هكذا بالتحديد وضعنا مع جريمة القتل التي حدثت على شارع نون هنا في البحرين الأسبوع الماضي. إذ بدأت الأخبار تهلّ في لحظات، وكان أول خرق للخصوصية إظهار رقم سيارة المجني عليها من دون أدنى إحساس بالمسؤولية، فلم تصلن شخصياً الصورة من شخص واحد، أو مجموعة بريدية واحدة، بل من عديد منهم، وأنا من أقل الناس ارتباطاً بالمجموعات التي لم تعد سوى “معلبات” يتراماها الناس بدءاً من التصبيحات، مروراً بالأدعية التي لا يقرأها مرسلها ولا مستقبلها، وأطنان الحكم والنصائح التي لم تجعلنا أكثر حساسية وفطنة، بل زادتنا عتهاً وتخلفاً، بل لم نر أنفسنا إلا وقد تقهقرنا إلى الوراء في الكثير من الأمور ومنها الذوق العام، بمعنى أن كل هذا الفيض المتبادل من أسباب المحبة والتقوى لم يكن أكثر من بهرجة لم تلامس شغاف القلب.الفاجعة الأعظم من اللوحة المعدنية للسيارة، هذا الكمّ الكبير جداً من القصص التي ظهرت في أقل من ساعة من وقوع الحادث، والتي نسجتها الأخيلة، وجرت فيها مسابقات مقيتة بلغت غايات البشاعة في استباحة الأعراض، وترويج القصص السمجة عن الطرفين، من دون أدنى تثبّت، وحتى لو ثبتت صحّة واحدة من القصص؛ فما الداعي لترويجها على هذا النحو الحماسي وكأن كل شخص يريد الادّعاء بأنه “أبو العرّيف”، ولا تفوته شاردة أو واردة، أو أن صِلاته بمصادر الأخبار لا غبار عليها. فاليوم، لا أحد يذكر أول من أرسل الخبر والصور، ولا أحد سيمنح نقاطاً لـ “جهينة” الذي أتى بالخبر الصحيح، فطبيعة الأخبار تغطي بعضها، ويُنسي الخبرُ الجديد الأخبار القديمة. لقد زاد الحادث يقينا بأن الاستخدام الخاطئ والاستعراضي للإعلام الاجتماعي، بات من أمراض العصر، إذ تحول إلى مسابقة شرسة تتجاوز الحواجز والأخلاقيات في سبيل أن يكون البعض “أوّل” من يأتي بالخبر، أيّاً ما كان هذا الخبر، ومن فاتته هذه الأولوية، فلا أقل من المشاركة في البث والتعميم والنشر المحموم قبل أن يسبقه أحد في بقية المواقع و”القروبات”.كما زاد الحادث الأخير الأدلّة دليلاً على أن قطاعاً عريضاً من المجتمع يمارس في الواقع غير ما يجاهر به، إذ يدّعي التديّن، ويُظهر السمات الخاصة بالطقوس، ولكنه لا يلتفت إلى “مكارم الأخلاق” التي بُعث الرسول (ص) ليتممها، ويندفع لأسباب نفسية جديرة بالتأمل، وراء تصديق وإشاعة أي خبر مهما كان ضعفه تحت مسوّغ “كما وصلني”، وهو يقرأ قول الرسول (ص):» كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع”، ولا يرتدع عن فعل ما نهي للتوّ عنه.