المقاهي والهوية:
بين دلال الرسلان، والقِرَشِيّة، والبغدادية، والحساوية، وبين فناجين القهوة: الهيف، والضيف، والكيف، والسيف — وبين رائحة البنّ والهيل، وسوالف المحماس، ودقّ النجر....يحلو الحديث عن القهوة والمقاهي، لا سيما تاريخ المقاهي الأدبية.
عنوان هذا المقال يستلهم فكرته من المصطلح الذي صاغه عالم الاجتماع راي أولدنبرغ في كتابه The Great Good Place، حين وصف المقاهي بأنها "المكان الثالث" — الفضاء المحايد المريح؛ لا هو منزلك بما فيه من مسؤوليات، ولا هو عملك بما فيه من ضغوط. بل هو مكان ثالث، حيث يمكنك قراءة كتابك المفضل، أو إنجاز عمل غير مكتمل، وأنت تحتسي قهوتك على مهل... وبكل "روقان".
أسرار القهوة ونشأة المقاهي :
تُعدّ القهوة المشروب الأكثر استهلاكًا في العالم بعد الماء، بحسب بعض الدراسات، ويُقدّر حجم اقتصادها عالميًا بـ 17 مليار دولار. هذا الرقم وحده كفيل بمنح القهوة هيبة وبروتوكولات؛ و "إتيكيت" و"سلُوم" توارثه الناس جيلًا بعد جيل. بل إن شرب القهوة ذاته تحكمه طقوس تُفهم بالإشارة أو بلفظة عابرة: لكل حركة معنى، ولكل فنجان مقام. وهناك من يُدوِّزِن قهوته كما يفعل الموسيقي بأوتاره؛ قرأتُ مرة أن بيتهوفن كان يُعدّ قهوته كل صباح من 60 حبّة بن بالضبط، لا أكثر ولا أقل، ويطحنها بنفسه ضمن روتينه الصباحيّ.
ورغم بساطة مقاديرها، تُحضَّر القهوة بأسلوب خاص؛ لكل بلد لمسته في إعدادها، بل قد يختلف طعمها من بيت إلى آخر في الحي نفسه! فضلًا عن اختلاف اللون بحسب درجة التحميص. وفي الخليج، نُفضّلها شقراء مُنكّهة بالهيل والزعفران والقرنفل، ويضيف بعضهم الشيبة أو الزنجبيل، وهناك من "يتفنن" فيضيف " الكوفي ميت".
وحين وصلت القهوة — بتحميصتها الخليجية — إلى قسنطينة، لم يستسغها العثمانيون، فعدّلوا درجة التحميص وابتكروا "القهوة التركية". وفي إيطاليا، ظهرت تركيبة "الإسبريسو"، بينما أضاف الأوروبيون الكاكاو إلى القهوة المستوردة من ميناء "المخا" اليمني، فسمّوها "الموكا" تيمنًا بالميناء.
هذا التنوع في الطعم والرائحة واللون — الذي يبدو بسيطًا لكنه بالغ العمق — أغرى القاصي والداني بتجربة هذا المشروب السحري، وكان دافعًا طبيعيًا لنشوء المقاهي... ذاك "المكان الثالث".
أول مقهى في العالم: البداية من قسطنطينة
تقول الأسطورة إن واليًا عثمانيًّا في اليمن كان مولعًا بالقهوة، فأدخلها إلى مطبخ قصر السلطان سليمان القانوني. ويشير المؤرخ بجوي إبراهيم أفندي في تاريخ بجوي إلى أن أول مقهى في أراضي الدولة العثمانية فُتح عام 1555م في قسطنطينة (إسطنبول اليوم)، على يد رجلين من الشام: حكم من حلب، وشمس من دمشق، في حي تاهتقاله. ومن هناك، بدأت المقاهي رحلتها الطويلة، وسرعان ما انتشرت سمعتها في سائر أرجاء العالم.
مقاهي "التيرتوليا" الإسبانية
في إسبانيا، لا تُعد المقاهي مجرّد محطات لتناول القهوة، بل فضاءات للحوار الثقافي والاجتماعي، تُجسّدها ظاهرة "التيرتوليا" التي نشأت في القرن السابع عشر. وهي لقاءات غير رسمية تجمع كتّابًا وشعراء وفنانين — بل أحيانًا خصومًا سياسيين — يتعرف إليهم الناس من الصحف التي يقرأونها: فالمحافظ يطالع ABC أو La Razón، أما اليساري فغالبًا ما تجده يقرأ El País أو Público.
ومن أشهر المقاهي التي كانت تُعقد فيها التيرتوليات: "خيخون" الذي افتُتح عام 1888، وكان ملاذًا لأعضاء "جيل 27" — مجموعة من الشعراء والمثقفين الإسبان تأثروا بالفلكلور الأندلسي والفلامنكو، أمثال فيديريكو غارسيا لوركا وبيدرو ساليناس.
باريس: مدينة المقاهي بلا منازع:
وصلت القهوة إلى فرنسا في القرن السابع عشر عبر ميناء مرسيليا، وصولا إلى بلاط الملك. افتُتح أول مقهى في باريس عام 1672، لكن المقهى لم يترسّخ كمؤسسة ثقافية حقيقية إلا مع ظهور مقهى بروكوب سنة 1685، الذي يُعدّ أقدم مقهى أدبي في باريس، بل أول فضاء فكري منظم في أوروبا بأسرها.
وفي القرن التاسع عشر، أصبح حي سان جيرمان القلب النابض للمقاهي الباريسية، واحتضن أسماءً مثل "ليه دو ماجو" و"دي فلور"، حيث كان يلتقي جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار وألبير كامو، جنبًا إلى جنب مع بيكاسو وفناني الحقبة.
لندن: "جامعات البنس الواحد":
في القرن السابع عشر، لعبت المقاهي اللندنية دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الثقافي الإنجليزي، حتى سُمّيت بـ"جامعات البنس الواحد" — لا لشيء إلا لأنك بدفع بنسٍ واحد، تشتري فنجان قهوة ومقعدًا يفتح أمامك عوالم من النقاشات المفتوحة، ومطالعة الصحف، والجدال في كل شيء من الفلسفة حتى التجارة.
في مقهى جريسيان، شوهد إسحاق نيوتن يُشرّح دولفينًا أمام رواد المقهى؛ وفي مقهى ويلز، دارت مناظرات فكرية محتدمة بين درايدن، وسويفت، وألكسندر بوب. ومن هذه المقاهي خرجت أفكار تحوّلت إلى مؤسسات عملاقة مثل بورصة لندن، سوق لويدز للتأمين، بل وحتى بدايات دور المزادات الكبرى مثل سوذبيز و كريستيز.
لكن هذا العصر الذهبي للمقاهي لم يدم طويلًا؛ فمع أواخر القرن الثامن عشر، بدأت الذائقة الاجتماعية تتغيّر، ومالت الطبقة الأرستقراطية إلى الانسحاب من المقهى العام، مفضّلةً عليه صالونات الشاي الفاخرة وغرف النوادي الخاصة.
قهاوي القاهرة والمارون غلاسيه:
يفضّل المصريون كلمة "قهوة" على "مقهى"، وأشهرها بلا منازع: قهوة الفيشاوي ومقهى ريش. وما إن يُذكر اسماهما حتى يتبادر إلى الذهن الروائي الذي نال عالميّته من محليّة "القهاوي": نجيب محفوظ. كانت "القهوة "حاضرة في أغلب أعماله، بل شكّلت الركيزة الأساسية في رواية قشتمر، التي تابعنا فيها تحوّلات مصر من الملكية إلى الجمهورية، ومن الاشتراكية إلى الانفتاح.
أما ريش، فلم يكن مجرد مقهى، بل مسرحًا مصغرًا للتاريخ الثقافي المصري؛ على "تياترو ريش" غنّت منيرة المهدية وأم كلثوم، وعلى "مرسح ريش" مثلت روز اليوسف. وهناك وُلدت أوّل شرارات زيجات أدبية لافتة، مثل أمل دنقل وعبلة الرويني، ومحمد عبد القدوس وروز اليوسف.
أما مقهى جروبي، الذي أسّسه السويسري جياكومو جروبي، فكان ملتقى الباشاوات والبهاوات والسياسيين وأرستقراطيي القاهرة. امتاز بتقديم الشوكولاتة الفاخرة و"المارون غلاسيه" مع فنجان القهوة.
ضجيج المقاهي المُحفّز:
قد يتساءل البعض: كيف يمكن لطالب أو كاتب أو شاعر أن يُبدع وسط ضجيج المقاهي، وحركة الجرسونات الدؤوبة بين الطاولات، وقرقعة الفناجين؟
والجواب، الذي قد يبدو صادمًا، هو أن الضوضاء المعتدلة —التي تميّز المقاهي المزدحمة — تُنشّط القدرات الإبداعية.
هذا ما يُعرف في علم النفس بـ"تأثير ضوضاء المقهى" (Café Noise Effect).
وينصح الخبراء بالقول: "بدلًا من الانعزال في غرفة هادئة أو مكتبة بحثًا عن حل، جرّب الجلوس في مقهى مزدحم نسبيًا؛ فقد تُحفَّز مناطق التفكير المجرد في الدماغ، مما يعزز الإبداع ويولّد أفكارًا جديدة."
واستنادًا إلى هذه الفكرة، ظهرت تطبيقات مثل Coffitivity، التي تحاكي أصوات المقاهي، وتُقدّم خيارات متعددة لاختيار صوت المقهى الذي يُحفّزك على التركيز والعمل بإلهام.
أمنية أخيرة: مكان ثالث يُشبهنا في البحرين :
ما أحوجنا في مملكتنا الحبيبة إلى "مكان ثالث" يُنعش الروح، ويحتفي بالفكر، ويمنح الطالب، والأديب، والعالِم، والرياضي، والشاب، والمتقاعد، مساحات آمنة ومُلهمة يتنفسون فيها بعيدًا عن ضغوط التسعيرة وضيق الخيارات.
نحن بحاجة إلى مقاهٍ أدبية تُقيم الأمسيات، وتُشجّع القراءة والحوار، وتُوفّر بيئة تفاعلية بين الأجيال؛ تلتقي فيها الطاقات الشابة بالحكمة المجربة، ويتجاور فيها الفكر بالرياضة، في أجواء تراعي الذوق والهوية — من ديكور المكان، إلى هندام النادل، إلى انتقاء الكتب، وحتى نوع القهوة.
مقاهٍ تنتشر في كل المحافظات، تُلحق بالمكتبات العامة، والنوادي الرياضية ، والمراكز الثقافية، تُجسّدها رعاية الدولة، مترجمةً بذلك إيمان القيادة الحكيمة بأن الاستثمار في الوعي لا يقل شأنًا عن أي مشروع تنموي آخر.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |