يُعد مبدأ المشروعية أساساً لقيام الدولة القانونية، ويقتضي هذا المبدأ أن تلتزم الإدارة في تصرفاتها بحدود السلطة التي منحها لها القانون، ومن أبرز صور الإخلال بمبدأ المشروعية ما يُعرف بالتعسف في استعمال السلطة، والذي يظهر من خلال الانحراف بالسلطة، كوجه من أوجه عدم المشروعية التي تُعيب القرار الإداري وتؤدي إلى إلغائه، وقد تناول الفقه والقضاء هذا المفهوم بالتفصيل، وأولاه القضاء الإداري المصري – وخاصة مجلس الدولة – أهمية بالغة في سبيل حماية الحقوق والحريات.
أولاً: ماهية الإنحراف بالسلطة
يقصد بالانحراف بالسلطة أن تستعمل الجهة الإدارية سلطتها التقديرية في إصدار قرار إداري بقصد تحقيق غرض غير مشروع، أو غرض غير الذي من أجله منحها المشرّع تلك السلطة ،فالسلطة الإدارية لا تُمارس لمصلحة شخصية أو سياسية أو انتقامية، وإنما لخدمة الصالح العام وفقاً للهدف الذي حدده القانون.
وقد استقر القضاء الإداري المصري على أن : الانحراف بالسلطة يقوم متى ثبت أن الإدارة قد أصدرت قرارها بقصد تحقيق غرض لا يتفق مع المصلحة العامة .
ولم يرد في القانون المصري تعريف صريح للانحراف بالسلطة، إلا أن القضاء الإداري شكّل هذا المفهوم من خلال اجتهاده في تطبيق المادة 10 من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972، والتي تخوّل محاكم مجلس الدولة سلطة إلغاء القرارات الإدارية المشوبة بعيب إساءة استعمال السلطة.
وقد استقر الفقه والقضاء المصري على أن الانحراف بالسلطة يُعد من العيوب القصدية التي تتعلق بالنية والهدف، ويتعيّن على الطاعن إثباتها من خلال قرائن قوية وظروف وملابسات القرار.
ثانياً: صور الانحراف بالسلطة في التطبيق العملي
تتعدد صور الانحراف بالسلطة في الواقع العملي، ومن أبرزها :
1- القرار الانتقامي: كأن تُوقّع جزاءات تأديبية على موظف بسبب خلافات شخصية لا علاقة لها بالعمل.
2- القرار لتحقيق مكاسب خاصة: مثل تخصيص أراض أو منح تراخيص لأقارب المسؤولين لتحقيق نفع خاص.
3- التحايل على القانون: مثل إصدار قرارات ظاهرها الالتزام بالقانون، لكن باطنها يقصد الالتفاف عليه أو التحايل على حكم قضائي.
ثالثاً : عبء الإثبات في دعوى الإلغاء
يُعد إثبات عيب الانحراف بالسلطة من أصعب أوجه الطعن، لأنه يتعلق بالبواعث النفسية للإدارة، وهي أمور باطنية لا تُعلن عنها الإدارة صراحة، ولهذا يتعين على الطاعن أن يستند إلى قرائن قوية كالمستندات، وتسلسل الأحداث، وتعارض القرار مع السوابق، وشهادة الشهود .
وقد أرست المحكمة الإدارية العليا مبدأ أن " الانحراف بالسلطة يُفترض في القرارات التي تصدر لتحقيق أغراض شخصية أو لمجرد الانتقام وأنه لا يشترط أن يعترف مصدر القرار بغرضه غير المشروع، بل يكفي أن تُستشف هذه النية من ملابسات القرار" .
ويتميز القضاء الإداري المصري باتساع سلطته في مراقبة نوايا الإدارة وغاياتها، ويمنح القاضي الإداري سلطة فاحصة للتدقيق في ملابسات القرار وظروفه، وقد جاء في العديد من أحكام المحكمة الإدارية العليا تأكيد على أن : انحراف الجهة الإدارية عن غاية المصلحة العامة يعد عيباً جوهرياً يبطِل القرار الإداري .
لذا فإن القضاء الإداري يتعامل بحذر مع هذا العيب، خشية أن يتحول إلى أداة لعرقلة الإدارة، إلا أنه يتدخل بقوة كلما توافرت القرائن الجدية على الانحراف.
رابعاً: الأثر القانوني للانحراف بالسلطة
إذا ثبت للمحكمة أن القرار مشوب بعيب الانحراف، فإنها تقضي بإلغائه بأثر رجعي، ويُعد كأن لم يكن منذ صدوره، مع ترتيب الآثار المترتبة على ذلك الإلغاء، بما في ذلك إعادة الوضع إلى ما كان عليه، والتعويض إن ثبت ضرر مباشر.
إن عيب الانحراف بالسلطة يمثل خط الدفاع الأخير في مواجهة تعسف الإدارة، ويؤكد أن السلطة لا تُمارَس بإطلاق، بل تخضع لرقابة صارمة من القضاء لحماية الحقوق وصيانة مبدأ المشروعية. ومن هنا، تتجلى أهمية دراسة هذا العيب في فقه وقضاء الإلغاء، بما يكرّس دولة القانون والمؤسسات.
المستشار القانوني والمحامي بمحكمة النقض المصرية
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |