الكلمة ليست مجرد أصوات تُنطق أو حروف تُكتب، بل هي أداة قوية تخترق الحواجز لتصل إلى أعماق النفس البشرية؛ فتكمُن خطورتها في قدرتها على إنقاذ روحٍ من ظلام اليأس بكلمة طيبة، أو تحطيم قلبٍ بكلمة جارحة، كرصاصة تنطلق بلا عودة، تاركةً آثارًا قد تمتدُّ إلى المجتمع بأسره؛ فبكلمة تُبنى الأمم، وبكلمة أُهدِمت القيم، وبكلمة تُشعل الحروب أو تُطفئ النزاعات، ولذلك أولى الإسلام للكلمة مكانةً عظيمة، وجعلها مسؤوليةً يُحاسَب عليها المرء يوم القيامة، كما قال تعالى: ﵟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﵞ، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أورع الأمثلة في اختيار الكلمات حينما قال:( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يرفع اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ)، وهذا يبيّن بوضوح أن كلمةً واحدةً قد تكون الفارق بين النجاة والهلاك، ودليلاً على أن اللسانَ أعمقُ أثرًا من السنان.
وفي عصرنا الراهن، حيث تعددت وسائل النشر، وتنوعت منصات التواصل الاجتماعي، باتت الكلمة تنتشر في ثوانٍ كالوباء، فتتحول الإشاعة إلى أزمة يصعب احتواؤها، قد تنهار سمعةٌ في لحظات، أو تندلع فتنةٌ في مجتمع، أو يهتزّ سوقٌ بأكمله. لقد أصبح التنمّر الإلكتروني سببًا في دفع ضحاياه إلى حافة اليأس، وتحول الخطاب التحريضي إلى شرارة تُشعل الصراعات، فيما تلقي الأخبار الكاذبة بظلالها الثقيلة على الأمن والاستقرار، وهنا تكمُن المفارقة: فالكلمة التي كانت يومًا تتداول شفهيًا بتأثير محدود، صارت اليوم سلاحًا رقميًا نافذًا يطال ملايين العقول في لحظة، مما يستدعي منا وعيًا مضاعفًا بمضامينها، وعواقبها.
إن مسؤوليتنا تجاه الكلمة هي مسؤولية عظيمة تتطلب منا إدراكًا عميقًا لتأثيرها البالغ في بناء المجتمعات وتشكيل الوعي الإنساني مما يفرض على حامليها تبعةً أخلاقيةً عاليةً في توظيفها بحكمةٍ وروية؛ فليكن مقصد الكاتب، أو المتحدث أن يبني جسور الفهم، لا أن يهدم قِيم التواصل، وأن يكون النقد مرآة تُظهر العيوب لتُصلحها لا سيفًا يُشهر لجرح الكرامات، أو اصطياد الهفوات. إن حرية الكلمة لا تعني أن يُطلق الإنسان لسانه، أو قلمه في نشر الأكاذيب، أو في تشويه صورة الآخرين، أو في إذكاء الفتن والفرقة بين الأفراد والمجتمعات؛ فالكلمة مسؤولية، وعلى من يملكها أن يُتقن استخدامها بحذر وحكمة، كي تكون مصدر خير وفائدة لا مصدر ضرر وهدم.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |