العدد 6032
الأحد 20 أبريل 2025
الرحمة أولا: قيمة تربوية إنسانية من وحي القرآن الكريم
الإثنين 17 مارس 2025

تناول هذا المقال العلمي أهمية الرحمة كقيمة أخلاقية وتربوية في عملية التعليم والتعلم، مستندة إلى قول الله تعالى: "آتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" (الكهف: 65). وتم التطرق إلى المعاني التربوية للرحمة كمرحلة أساسية تسبق العملية التعليمية، وإبراز أثرها في نجاح العملية التعليمية وتعزيز العلاقة بين المعلم والمتعلم. كما سيتم طرح أمثلة تطبيقية من السنة النبوية وتجارب تربوية معاصرة تؤكد أهمية هذا المبدأ التعليمي القرآني.

يعتبر التعليم عملية مركبة تتداخل فيها الجوانب العلمية والنفسية والأخلاقية. ومن بين القيم التي تؤثر بشكل عميق في جودة هذه العملية هي قيمة الرحمة؛ فالرحمة لا تقتصر على البعد الديني فحسب، بل تمثل جوهرًا إنسانيًا يعزز الفهم المتبادل والتعاون بين المعلم والمتعلم. إذ إن المتعلم لا يستعد ولا يتفانى في التعلم إذا افتقد هذه السمة في بيئته التعليمية، والمعلم الذي يفتقر إلى هذه السمة يفتقر بدوره لمقومات الأهلية للقيام بدور المعلم المثالي. وفي هذا السياق، تأتي الآية الكريمة "آتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" لتشير إلى تسلسل منطقي بين الرحمة كخطوة أولى لفتح باب القلوب لتلقي العلم. وهذا يستدعي التطرق إلى عناصر أساسية تلقي الضوء على هذه المفاهيم في السياق التعليمي التعلمي.

أولاً: مفهوم الرحمة وأهميتها في التعليم
الرحمة هي شعور عاطفي ينطوي على العطف والرأفة بالآخرين، وهي قيمة تعزز من إنسانية الإنسان. (ابن منظور، 1994). وقد أشار القرآن الكريم إلى الرحمة بوصفها سمة لله عز وجل وسمة لأنبيائه. ويشمل مفهوم الرحمة في التعليم إظهار التفهم واللين في التعامل مع المتعلمين، وتقديم الدعم النفسي والمعنوي لهم.

الرحمة كبيئة محفزة للتعلم
محفزة للتعلم،يُعد التعامل الرحيم من أقوى الأدوات التي يمكن أن يستخدمها المعلم لخلق بيئة تعليمية إيجابية. عندما يشعر المتعلمون بأن معلمهم يتفهم احتياجاتهم، ويتعامل معهم برفق وتعاطف، يصبحون أكثر استعدادًا للمشاركة بفعالية في العملية التعليمية. فالرحمة تزيل الحواجز النفسية الناتجة عن القلق أو الخوف من الفشل، مما يتيح للمتعلمين الفرصة للتعلم بحرية والانفتاح على الأفكار الجديدة. (الندوي، 2006). علاوة على إسهامها في تقليل التوتر الذي قد يعاني منه المتعلم بسبب ضغوط الدروس أو التقييمات. عندما يُظهر المعلم تفهمًا للضغوط التي يمر بها الطلبة، ويعطيهم الفرصة للتعبير عن مخاوفهم أو استفساراتهم دون إصدار أحكام، فإن ذلك يعزز من ثقتهم بأنفسهم ويحفزهم على تحسين أدائهم. وهذا لا يعني أن يخل المعلم بالمهارات المستهدفة في المادة التعليمية. كما أن التعامل الرحيم يجعل البيئة التعليمية مكانًا آمنًا يشعر فيه المتعلمون بالأمان النفسي والعاطفي والاجتماعي. هذا الشعور بالأمان يحفز المتعلمين على الإبداع وتجربة أساليب جديدة في التفكير وحل المشكلات دون الخوف من ارتكاب الأخطاء. فالرحمة تشجع على النمو المتكامل من خلال التعلم من الأخطاء بدلاً من الشعور بالإحباط بسببها. ولا يقتصر دور الرحمة على المتعلمين فحسب، بل يتعدى إلى بناء العلاقات بينهم. عندما يُظهر المعلم الرحمة كنموذج يُحتذى به، فإنه يعزز القيم الإنسانية مثل التعاون والتسامح، مما يؤدي إلى خلق مجتمع تعليمي متماسك يدعم أفراده بعضهم بعضًا، ويقضي على التنمر المدرسي الذي عانى منه الكثير من الطلبة.

الفرق بين الرحمة والشفقة
من المهم التمييز بين الرحمة والشفقة عند الحديث عن القيم الإنسانية المؤثرة في العملية التعليمية. فالرحمة تعني فهم احتياجات المتعلم بشكل عميق، والعمل على مساعدته وتمكينه ليحقق أفضل ما لديه. الرحمة تحمل في طياتها الاحترام المتبادل، حيث يرى المعلم المتعلم كشخص قادر على التحسن والنمو، ولديه قدرات كامنة بحاجة إلى دعم المعلم لتمكينه من استثمارها، وليس كفرد عاجز بحاجة دائمة للمساعدة. هذا المنظور الإيجابي يجعل الرحمة دافعًا نحو تعزيز الثقة بالنفس لدى المتعلم، وإبراز إمكانياته وقدراته الكامنة. أما الشفقة، فعلى الرغم من أنها تنبع من نوايا طيبة، إلا أنها قد تكون ذات أثر سلبي على المتعلم، خاصة عند التعامل مع الطلبة ذوي الاحتياجات التعليمية المختلفة. فالشفقة قد تُشعر المتعلم بالضعف والعجز، حيث يُنظر إليه من خلالها كشخص محدود القدرات، مما يؤدي إلى تقويض ثقته بنفسه وقدرته على مواجهة التحديات. المعلم الذي يظهر الشفقة دون أن يقترن ذلك بالإيمان بقدرة المتعلم على التحسن قد يخلق بيئة تعليمية تعتمد على الاتكال بدلاً من التمكين، مما يضعف من روح المبادرة والاستقلالية لدى المتعلم. أما الرحمة، فهي عملية تعاونية تعترف باحتياجات المتعلم -وهذا لا يختلف فيه متعلم أيا كان- وتعمل على تلبيتها بطرق بنّاءة. فهي تعزز روح التحدي وتدعم السعي نحو التحسين المستمر. وهي تُبنى على الاحترام المتبادل والاعتراف بقدرة المتعلم على التحسن.

ثانيًا: تحليل الآية الكريمة
جاءت الآية الكريمة في سياق الحديث عن العبد الصالح الذي جمع بين الرحمة والعلم، وهو نموذج يجسد التكامل بين الجوانب الأخلاقية والمعرفية في بناء الشخصية المثالية. ويمكن استنباط العديد من المعاني التربوية العميقة التي تنعكس على سياق العملية التعليمية.

الرحمة قبل العلم
تقديم الرحمة على العلم في الآية الكريمة "آتَيْنَٰهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا" يشير إلى أن الرحمة تشكل الأساس الذي يُبنى عليه التعليم، فلا بد أن يكون المعلم متسمًا بهذه السمة لاستيفائه ضرورات المعلم المثالي وضمان نجاحه في العملية التعليمية. فالمعلم الرحيم يمتلك قدرة استثنائية على التأثير في المتعلم، حيث إن شعور المتعلم بالتقدير والاحترام يعزز من تفاعله مع العملية التعليمية ويحفزه على التعلم وتعزيز الاستيعاب والتفاعل الإيجابي (الغزالي، 1997). فالحواجز النفسية التي قد يواجهها المتعلم تضمحل في البيئة التي يسود فيها الرحمة، مما يجعله أكثر استعدادًا لتلقي المعرفة.

العلم هبة ربانية
تشير الآية إلى أن العلم، كما الرحمة، هو نعمة ربانية تُمنح بفضل الله. وهذا المعنى يتطلب شكر الله على هذه النعمة من خلال حسن استخدامها لنفع الآخرين. على المعلم أن يدرك أن العلم الذي يحمله ليس مجرد أداة لنقل المعرفة، بل هو أمانة تتطلب الإخلاص في الأداء والتواضع في التعامل مع المتعلمين ورحمتهم (القرضاوي، 2002). فالتواضع يجعل من المعلم قدوة مثالية يحتذى بها، ويُظهر للمتعلمين أن العلم مسئولية ونعمة ربانية تقتضي خدمة المجتمع والارتقاء به.

العلاقة التكاملية بين الرحمة والعلم
تُبرز الآية العلاقة التكاملية بين السمتين، مما يشير إلى أن كليهما ضروري لتحقيق أهداف التعليم. فالرحمة تهيئ البيئة النفسية المناسبة، والتي بدونها يتعذر التعلم -إن لم تكن مستحيلة-، والعلم يقدم المحتوى الذي يحتاجه المتعلم. فالمعلم المتسم بالرحمة يكون أكثر قدرة على فهم صعوبات المتعلمين ومراعاة اختلافاتهم الفردية، مما يعزز من فعالية العملية التعليمية (الندوى، 2006). كما تجعل من التعليم تجربة إنسانية شاملة، حيث يُنظر إلى المتعلم كشخص يحتاج إلى الرعاية والدعم المناسب بجانب المعرفة.

ثالثًا: التطبيقات العملية للرحمة في التعليم
الرحمة في السنة النبوية

تعد السنة النبوية زاخرة بالأمثلة التي تجسد مفهوم الرحمة كركيزة أساسية في العملية التعليمية. ويمكن استعراض أبرز هذه المواقف على النحو التالي.

تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأعرابي
في الموقف الشهير الذي بال فيه الأعرابي في المسجد، بدلاً من أن ينهره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "لا تزرموه، دعوه يكمل بوله، ثم صبوا عليه ذنوبًا من ماء" (البخاري، 2001، رقم 6128). بعد ذلك، بيّن له برفق أهمية المسجد وحرمة الإساءة إليه. يعكس هذا التصرف الحكيم والرحيم أهمية التعامل مع أخطاء المتعلمين برحابة صدر والتركيز على إصلاح الخطأ بأسلوب هادئ يترك أثرًا إيجابيًا في نفس المتعلم. وصدق أصدق الحاكمين عندما قال: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران: 159).

مراعاة الفروق الفردية
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراعي ظروف كل فرد، مقدرًا احتياجاته وقدراته، مما يبرز فهمًا عميقًا للفروق الفردية بين المتعلمين. فمن خلال الرحمة يتمكن المعلم من فهم قدرات المتعلمين المختلفة، مما يدعم أساليب التعليم المخصصة. على سبيل المثال، في حديثه عليه الصلاة والسلام مع معاذ بن جبل، قال له: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟..." (البخاري، 2001، رقم 7371) وبدأ بشرح مبسط يساعده على الفهم والاستيعاب، مراعيًا سنه واحتياجاته المعرفية والعاطفية والاجتماعية وغيرها.

الرحمة في التعليم الحديث
في ضوء الدراسات والنظريات التربوية الحديثة، تبرز الرحمة كعامل رئيسي في تحسين البيئة التعليمية وزيادة فعالية العملية التعليمية. ومن التطبيقات المعاصرة في السياق التعليمي ما يلي.

استخدام استراتيجيات تعليمية مخصصة
التعليم القائم على الفروق الفردية بين المتعلمين يمثل نموذجًا عمليًا لتطبيق الرحمة، حيث تُراعى احتياجات كل متعلم واهتماماته وقدراته واستعداداته من خلال استراتيجيات تعليمية حديثة تلبي احتياجات الجميع. على سبيل المثال، يمكن للمعلم استخدام أساليب متنوعة مثل التعلم باللعب والتعلم النشط والتعلم الذاتي لتلبية احتياجات المتعلمين المختلفة، مما يعزز ثقتهم بأنفسهم ويحفزهم على تحقيق أهدافهم (الخولي، 2010).

التغذية الراجعة الإيجابية
هي إحدى الأساليب الفعّالة التي تسهم في تعزيز تقدم المتعلمين وتحفيزهم على تحسين أدائهم دون الشعور بالإحباط. عندما يركز المعلم على الإشادة بالجهود المبذولة بدلاً من التركيز على الأخطاء، فإنه يخلق بيئة تعليمية مشجعة تدعم ثقة المتعلم بنفسه. تقدم التغذية الراجعة البناءة رؤية متوازنة تجمع بين الثناء على النقاط الإيجابية وتوجيه المتعلم نحو تحسين الجوانب الأخرى بطريقة لبقة ومحفزة. مثلاً، يمكن للمعلم أن يشير إلى النجاح في جانب معين مع تقديم اقتراحات محددة للتحسين، مثل قوله: "أحسنت في تنظيم الأفكار في هذه الفقرة، ويمكنك تحسين النقاش بإضافة أمثلة أكثر تنوعًا." هذا النهج يعزز دافعية التعلم، ويقلل من الرهبة تجاه العملية التعليمية ويجعل المتعلم أكثر استعدادًا لتلقي الملاحظات. علاوة على ذلك، إن تقديم التغذية الراجعة في الوقت المناسب، مع استخدام لغة إيجابية، يسهم في زيادة التفاعل الإيجابي بين المعلم والمتعلم. تشير الدراسات إلى أن هذه الاستراتيجيات تدعم عقلية النمو لدى المتعلم، مما يجعله أكثر مرونة في مواجهة التحديات وأكثر تفاؤلًا بشأن قدراته المستقبلية (حمزة، 2012؛ الندوي، 2006).

تعزيز القيم الأخلاقية
تلعب الرحمة دورًا محوريًا في بناء شخصية المتعلم وغرس القيم الأخلاقية لديه، حيث تمثل حجر أساس لتطوير علاقات إنسانية متينة داخل البيئة التعليمية وخارجها. عندما يظهر المعلم الرحمة في تعامله مع طلابه، فإنه يعزز قيم التعاون والتسامح، ويغرس غريزة الشعور بالتقدير المتبادل والاحترام. هذه القيم تجعل المتعلم أكثر قدرة على التفاعل الإيجابي مع الآخرين، وتساعده على بناء علاقات صحية داخل مجتمعه التعليمي والاجتماعي. فالبيئات التعليمية التي تُبنى على الرحمة والاحترام تعزز روح العمل الجماعي. علاوة على ذلك، فإن تعليم القيم الأخلاقية بطريقة عملية من خلال سلوكيات المعلم الرحيمة يجعل المتعلم يكتسب هذه القيم بشكل غير مباشر، مما يعزز من فعاليتها واستدامتها. على سبيل المثال، عندما يعامل المعلم جميع الطلبة بالعدل والرحمة، بغض النظر عن خلفياتهم الثقافية أو الاجتماعية أو العرقية أو الاقتصادية، فإنه يرسخ لديهم مفهوم قبول الآخر واحترام التنوع. وقد أظهرت الدراسات العلمية أن المؤسسات التعليمية التي تضع هذا الإجراء ضمن أولوياتها تُخرج أجيالًا قادرة على التفاعل البنّاء مع التنوع الثقافي والاجتماعي، وأكثر استعدادًا للتعامل مع تحديات الحياة المعاصرة (القرضاوي، 2002؛ حمزة، 2012؛ الندوي، 2006). وبالتالي، يمكن القول إن الرحمة ليست مجرد قيمة أخلاقية، بل هي أداة فعالة لتربية جيل واعٍ ومسؤول، قادر على قيادة مجتمعه نحو مستقبل أفضل.

رابعًا: أثر الرحمة في العملية التعليمية
تعزيز الثقة بين المعلم والمتعلم

تُعدّ الرحمة أداة فعّالة لبناء الثقة بين المعلم والمتعلم، حيث تسهم في خلق بيئة تعليمية آمنة يشعر فيها المتعلم بالقبول والتقدير، مما يعزّز من دافعيته نحو التعلم. فإذا كان المعلم يظهر تفهّمًا ورفقًا واهتمامًا باحتياجات المتعلم، يشعر بالتقدير والثقة بالنفس، مما يُعزّز من قدراته على الإنجاز والتميّز في التعلم. إنّ الثقة المتبادلة النابعة من الرحمة بين المعلم والمتعلم تُعتبر أساسًا لنجاح العملية التعليمية، بل هي عامل رئيسي لتكوين علاقة إيجابية تؤدي إلى تميّز التحصيل الدراسي وزيادة مشاركة الطلبة في الأنشطة التعليمية. كما أن المعلم الرحيم يوفر بيئة خالية من الخوف أو التهديد، حيث يطمئن المتعلم بأنه لن يُحكم عليه بقسوة إذا ارتكب الأخطاء، بل سيُوجّه بأسلوب بنّاء يساعده على التطور. هذه البيئة الداعمة تُشجّع المتعلم على التجربة والابتكار دون خشية من الفشل، مما يُعزّز من قدراته الإبداعية ومهاراته في حل المشكلات.
وتجدر الإشارة إلى أن فوائد الثقة لا تقتصر على المتعلم فحسب، بل تتعدى إلى المعلم، فتسهم في تحسين فهمه لطلبته، حيث يصبح أكثر قدرة على تحديد احتياجاتهم الفردية والعمل على تلبيتها. هذا التفاعل القائم على الثقة والمنبثق من الرحمة يعزّز جودة العملية التعليمية ويخلق تجربة تعلم إيجابية تعود بالنفع على الطرفين. وقد أشارت الدراسات إلى أن الطلبة الذين يتعلمون في بيئات قائمة على الثقة المنبثقة من الرحمة يظهرون مستويات أعلى من الانضباط الذاتي والإبداع والقدرة على العمل الجماعي، مما يجعلهم أكثر استعدادًا لمواجهة تحديات الحياة الأكاديمية والمهنية.

الحد من السلوكيات السلبية
عندما يشعر المتعلم بأن معلمه يتفهم احتياجاته ويراعي مشاعره وظروفه، تتراجع السلوكيات السلبية مثل العناد والإهمال أو التحدي المقصود للقواعد، لتحل محلها سلوكيات إيجابية تعزّز اندماجه في العملية التعليمية. الرحمة تلعب دورًا محوريًا في تهدئة التوترات داخل البيئة التعليمية، حيث يصبح المتعلم أكثر استعدادًا للاستماع والتعاون عندما يشعر بالأمان العاطفي والدعم النفسي. كما أن تعامل المعلم برحمة واحترام يُعزّز احترام المتعلم لقواعد الفصل الدراسي، لأنه يدرك أن هذه القواعد تهدف إلى مساعدته، وليس فقط لتقييده أو معاقبته. بالإضافة إلى ذلك، يُساهم هذا النهج الرحيم في بناء علاقة إيجابية بين المعلم والمتعلم، مما يقلل من احتمال وقوع المشكلات السلوكية، ويخلق بيئة تعليمية منتجة ومليئة بالاحترام المتبادل.

تحسين التحصيل الدراسي
تشير الدراسات التربوية إلى أن المتعلمين الذين يتلقون تعليمهم في بيئة تسودها الرحمة والتفاهم يحققون تحصيلًا دراسيًا أعلى مقارنة بأقرانهم الذين يدرسون في بيئات تعليمية قاسية أو مليئة بالضغوطات بمختلف أشكالها. فالرحمة تُساعد في تقليل التوتر النفسي الذي قد يتعرض له المتعلم نتيجة الضغوط الأكاديمية أو الشخصية، مما يجعله أكثر تركيزًا وقدرة على استيعاب المعلومات. عندما يشعر الطالب بأنه يُعامل برفق واحترام، يزداد حماسه للتعلم ويصبح أكثر استعدادًا للمشاركة بفعالية في الأنشطة التعليمية. كما تُعزّز الرحمة دافعية المتعلم، حيث يشعر أن معلمه يهتم بنجاحه وليس فقط بتقييمه أو محاسبته على الأخطاء. بالإضافة إلى ذلك، بيئة التعلم المنبثقة من الرحمة تدعم التفكير الإبداعي وحل المشكلات، مما ينعكس إيجابيًا على جودة التعلم ومخرجاته وعمق الفهم لدى الطلبة.

تطوير مهارات التعلم الذاتي
يلعب المعلم المتسم بالرحمة دورًا حيويًا في تحفيز الطلبة على التميز في توظيف آليات التعلم الذاتي، حيث يعزز لديهم الثقة بقدرتهم على اتخاذ قرارات تعليمية مستقلة. من خلال التشجيع المستمر والتعامل برفق مع أخطائهم وتوجيهها بشكل احترافي، يشعر المتعلمون بالأمان النفسي الذي يدفعهم إلى استكشاف مصادر المعرفة المختلفة دون خوف من الفشل، لأنهم مقتنعون بأن الفشل ليس عيبًا في العملية التعليمية، بل العيب في عدم استثمار الاحتمالات الكامنة. الرحمة تخلق بيئة تعليمية مرنة تُشجع التفكير النقدي والبحث المستقل، مما يساعد الطلبة على تحمل مسؤولية تعلمهم بشكل أكبر. كما أن البيئة التي يسود فيها الرحمة تحفز المتعلمين على مواجهة التحديات بروح إيجابية، واكتساب مهارات جديدة تعزز من استعدادهم للتعامل مع متغيرات الحياة ومتطلباتها المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن المعلم الرحيم يعمل على توجيه الطلبة بطريقة تحترم قدراتهم واحتياجاتهم الفردية، مما يسهم في بناء شخصية قادرة على التعلم المستمر والتعلم مدى الحياة في جميع مراحل حياتهم.

بناء جيل مسؤول ومتعاطف
تعليم الطلبة على أيدي معلمين يتحلون بالرحمة لا يقتصر أثره على تحسين أدائهم الأكاديمي فحسب، بل يمتد إلى تشكيل شخصياتهم ليصبحوا أفرادًا مسؤولين ومتعاطفين في المستقبل. فالرحمة التي يختبرها المتعلمون في بيئة الفصل الدراسي تعزز لديهم حس التفاهم والاحترام للآخرين، مما ينعكس إيجابيًا على سلوكياتهم داخل المجتمع. من خلال القدوة الحسنة التي يقدمها المعلم الرحيم، يتعلم الطلبة أهمية العدل والتسامح والتعاون في بناء علاقات صحية ومثمرة. كما أن هذه القيم تجعلهم أكثر استعدادًا لتحمل المسؤولية الاجتماعية، والمشاركة الفعّالة في حل المشكلات المجتمعية بطريقة بناءة. وبذلك، يُسهم التعليم القائم على الرحمة في تكوين جيل يحمل قيم الإنسانية في تعاملاته ويساهم في تعزيز التماسك المجتمعي وتحقيق الاستقرار والأمن والتنمية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الرحمة في التعليم لا تعني إهمال المعرفة الدقيقة أو التقليل من أهميتها، بل تمثل عاملاً مكملاً وضروريًا لها. فالمعلم الفعّال هو من يجمع بين إتقان المادة العلمية والقدرة على تقديمها بروح رحيمة تُراعي احتياجات المتعلمين وظروفهم الفردية. تضيف الرحمة بُعدًا إنسانيًا إلى المعرفة، مما يحول التعليم من مجرد عملية لنقل المعلومات إلى تجربة شاملة تغذي عقول المتعلمين وتُراعي مشاعرهم. وبهذا، لا يقتصر دور المعلم على كونه ناقلاً للمعرفة، بل يصبح موجهًا وداعمًا يُحفز الإبداع والاستقلالية في التفكير، محققًا توازنًا بين الجوانب الأكاديمية والإنسانية في العملية التعليمية.

الخاتمة
في ختام هذا المقال ، يجب التأكيد بأن الرحمة تشكل حجر الزاوية في العملية التعليمية التعلمية، سواء في العلاقة بين المعلم والمتعلم أو في تحفيز بيئة تعليمية إيجابية تدعم النمو الأكاديمي والنفسي للمتعلم. فالرحمة، كما ورد في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، تسبق العلم وتُمهد الطريق لاستيعابه، مما يتيح للمتعلمين التفاعل بثقة ويحفزهم على الإبداع. ويُظهر نتائج البحث أن الرحمة لا تقتصر على مساعدة المتعلم في تجاوز تحدياته فحسب، بل هي قوة دافعة لتحقيق التميز الأكاديمي والشخصي. ومن خلال تطبيق الرحمة في التعليم والتعلم، يمكن بناء جيل واعد ومتعاطف قادر على تحقيق النجاح في مختلف جوانب حياته.

 

أستاذ مساعد قسم الدراسات التربوية كلية البحرين للمعلمين، جامعة البحرين
 

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .