إن فكرة الإدارة قديمة كقدم الإنسان على وجه البسيطة. تدرجت نحو التطور متأثرة بالثورات العلمية والتكنولوجية والتقدم البشري. ولم يعد الأمر محصورًا في روتينيات يومية وفق قواعد وتعليمات معينة، بل أصبح متمحورًا حول المتعلم وإتاحة الفرص والإمكانات التي تعزز نموه معرفيًّا وبدنيًّا وروحيًّا واجتماعيًّا، وإعداده لتولي المسؤولية الحيوية حاضرًا ومستقبلاً بكفاية تستدعيها المستجدات المطردة (عطوي، 2014؛ الجبر، 2002). وبمعنى آخر، بناء الشخصية القيادية المتكاملة والمساهمة في مجالات عديدة لمصلحة المجتمع المحلي والإنسانية.
الإدارة، بما فيها المدرسية، هي العمود الفقري لنجاح جهود الكائن الحي. ومقصد الإدارة كما أشار إليها عطوي (2014) "تحسين العملية التعليمية والارتقاء بمستوى الأداء، وذلك عن طريق توعية العاملين في المؤسسة التعليمية بمسؤولياتهم وتوجيههم التوجيه التربوي السليم". فهي عبارة عن عملية تعاون وتنسيق لجميع الجهود والأنشطة، بما في ذلك التخطيط والتنظيم والمتابعة والتوجيه والتقويم، والتي تعتبر من مكونات المجتمع المدرسي الناجح من مدير وإداريين ومعلمين وأولياء أمور وطلبة لتحقيق نجاح المتعلمين. ولا تستقيم هذه العملية إلا بوعي مزاوليها بآليات تتواءم مع احتياجات المجتمع المستهدف. فالنجاح الحقيقي في منظومة الإدارة المدرسية يتمحور حول تحقيق أهداف المؤسسة التعليمية واحتياجات الكوادر العاملة فيها، وكل نجاح افتقر هذين العاملين فهو نجاح صوري قابل للاضمحلال.
توحيد احتياجات الكادر المدرسي وأهداف المؤسسة التعليمية في فكرة متعارف عليها كـ"سبب فوق الذات" قد نجح في العديد من الدراسات لتعزيز عملية التدريس وتحسين جودة العملية التعليمية بين المتعلمين .(Glickman et al., 2014)
أولا: الإدارة المدرسية الناجحة
إن الإدارة المدرسية بغض النظر عن حجمها وموقعها الجغرافي لا بد من أن تضع أهدافا محددة تضمن النجاحات المنشودة، والسير نحو الريادة، ومواكبة التطورات العلمية والمجتمعية المطردة. ولا تختلف المدارس الإدارية -بصرف النظر عن الفروقات البينية المنبثقة عن الرؤية الكونية/ الثقافية- على أن ضمان الفاعلية، وتحقيق الكفاية، وتعزيز الرضا الوظيفي وتحقيق التكامل/ الشمول له أهداف تضمن له النجاح في إدارة المؤسسة التعليمية. فالهدف هو الموجه والموضح للمسار، فكم من جهود جبارة باءت بالفشل؛ نتيجة ضبابية الأهداف المطروحة أو عدم فهمها فهمًا دقيقًا أو عدم تحديدها بدقة. وهناك العديد من الأمور التي تساعد الإدارة المدرسية على توحيد جهودها للتربع على عرش النجاح، منها ما يلي:
ضمان الفاعلية
تلعب الإدارة المدرسية الواعية دورًا محوريًّا في "تحقيق أهداف المنظمة التعليمية، وتحقيق الفاعلية لها، كما تساعد على التحسين من الإجراءات والأنشطة المقدمة وتعزيز عمليات التخطيط والتنظيم والتنفيذ لآليات العمل، وتعزّز من إنشاء وتقديم صورة جيدة للمنظمة التعليمية" (خاطر، 2019). ولتحقيق العمل المشترك لترجمة هذه الأهداف عمليًّا، يتحتم على الإدارة خلق بيئة تعليمية تتيح الفرصة للفئة المسؤولة مناقشة الأهداف مع الأطراف المعنية، والقناعة بضرورتها لتحسين الجودة التعليمية. وعلى الإدارة المحافظة على الفاعلية الدؤوب لضمان جودة الأداء في المؤسسة التعليمية.
تعزيز الكفاية
تعتبر الكفايات لبنات أساسية لتحقيق النجاح في أيما مؤسسة، ولا يستثنى من ذلك المؤسسات التعليمية. فلا بد من تسلح جميع العاملين في المدرسة بالكفايات المهنية المعنية لمزاولة مهامهم اليومية. والإدارة المدرسية الناجحة هي التي تسعى دوما إلى تسليح العاملين بكل ما هو مستجد في عالم الكفايات.
وتعول معظم المؤسسات التعليمية على الكفايات المهنية للرفع من جودة منظومتها والمخرجات التعليمية؛ وذلك للانخراط في مجتمع المعرفة، ومواكبة التحوّلات العالميّة، ومسايرة الزحف الكاسح للتكنولوجيّات الرقميّة. وقد تحولت المؤسسات بجميع أنواعها إلى ما يعرف اليوم بـ"مؤسسات تعلم"؛ أي: أنها لم تعد مكان تطبيق مهارات تم تعلمها في أورقة الفصول الدراسية، ولكن منصات تعلم واكتساب مهارات وكفايات مهنية جديدة.
وتؤهل الإدارة المدرسية النشطة كوادرها "من خلال إنجاز الأهداف المحدّدة بأقل التكاليف وبمدة زمنية محددة، كما تعمل على تحقيق الاستخدام الملائم والفعال للموارد المتاحة، كالكادر التعليمي والطلبة والموظفين، والاستثمار الأمثل للمرافق المتوفرة كالمباني والملاعب والمعدات" (خاطر، 2019).
تعزيز الرضا الوظيفي
يعتبر الرضا الوظيفي العمود الفقري للانتماء والولاء الوظيفي. وكما سبقت الإشارة إليه آنفا أنه يعتبر عمودًا ضروريًّا من أعمدة المؤسسة الناجحة. إذ يتعذر الاستثمار في طاقات وابتكارات وإبداعات العاملين إذا كانت نسبة الرضا الوظيفي لديهم متدنيًا. فالإدارة المدرسية الناجحة هي التي لا تألو جهدًا في خلق معطيات الرضا الوظيفي لدى الموظفين، والحد من الازدواجية في المهام المنوطة، وتعمل على تحسين عملية التواصل بين الموظفين والطلاب وبين جميع العاملين في المنظمة، كما تُسهم الإدارة في إيجاد بيئة ملائمة لبناء علاقات فعّالة ومثمرة بين العاملين.
ويشكل الرضا الوظيفي أحد أبرز العوامل المؤثرة في أداء الوظيفة الإدارية؛ لما يترتب عليه من نتائج مهمة وواعدة تتعلق بجودة الأداء الوظيفي لا سيما الجانب الإبداعي، وذلك من خلال تحقيق الاستقرار النفسي، إلى جانب انخفاض مستوى الإجازات والتغيب عن العمل، والتشبث بأعذار واهية، فضلاً عن انخفاض المشكلات والنزاعات بين الموظفين، وهذا ما ينعكس إيجابا على مخرجات الوظيفة الإدارية (بشير، 2015).
كما تجدر الإشارة إلى أن انعدام الرضا الوظيفي يشكل عقبة أساسية أمام جودة مخرجات الوظيفة الإدارية، وضعف الإبداع التنظيمي لدى المؤسسات بجميع أشكالها كمًّا ونوعًا، فتنشأ الخلافات الإدارية بين الإدارة وموظفيها دون مسوغات منطقية، إلى جانب ارتفاع مستويات التغيب والإجازات الاعتيادية أو المرضية المصطنعة وتسرب الموظفين، فضلاً عن الانتقال إلى وظيفة أخرى تحقق بيئة فضلى للموظف، مما يؤدى إلى ظاهرة التسيب الإداري والوظيفي.
تحقيق التكامل/ الشمول
لضمان نجاح العملية التربوية لا بد من أن يشعر جميع العاملين في المؤسسة التعليمية بروح الأسرة الواحدة، تتعاون فيما بينها، وتتكاتف لتحقيق المصلحة المشتركة. والإدارة المدرسية بدورها تقوم بتوفير جميع ما يحتاجه المعلم؛ ليتمكن من التفرغ الكامل لإثراء عمليات التعليم، وتقديم أفضل ما يمكنه تقديمه، من خلال إتاحة الحرية للمعلمين، وتزويدهم بالموارد المناسبة، والأدوات الضرورية، وتشجيعهم. ولا بد للإدارة من تعزيز وترويج الأنشطة الإيجابية، وكل ما من شأنه أن يرجع للمنظمة بالنفع.
ويعد تحقيق التكامل أحد أهم أهداف الإدارة المدرسية؛ إذ إن العاملين في مجال التعليم من الموظفين والإداريين والطلبة يدركون بأن الهدف الرئيس من العمل في هذا المجال هو من أجل تحقيق المصلحة العامة" (خاطر، 2019). والتكامل لا يقتصر على الكوادر المدرسية فحسب، ولكن ينسحب ذلك على الأسرة والمجتمع وكل من يمت بالصلة للمؤسسة التعليمية. وجدير بالذكر في هذه الأثناء أنه إذا ما كان هناك خلل أو إهمال من أي من الأطراف ذات الصلة -المدرسة، أو الأسرة، أو المجتمع- أو غيرها.
ثانيا: خصائص الإدارة المدرسية الناجحة:
الإدارة الناجحة تتسم بصفات تميز لا تغيب عن شمس أنشطتها اليومية. فالريادة في مجال التعليم لا تأتي من فراغ، وإنما نتيجة لخصائص انفردت بها مؤسسة تعليمية معينة دون غيرها. وعليه فإن الإدارة المدرسية الناجحة لا بد أن تنبثق سمعتها من ثنايا خصائص ثابتة تميزها عن غيرها، وتضمن لها البقاء في أعلى سلم الريادة التعليمية التعلمية. وهذه الخصائص كثيرة وأهمها:
وضوح الهدف: أن تكون أهداف الإدارة المدرسية واضحة ومحددة في ضوء الإمكانات المتاحة؛ حتى يسهل تطبيقها على أرض الواقع. ويتحتم أن تكون الأهداف "ذكية"، وبعبارة أخرى: يجب أن تكون في ضوء المحددات أدناه:
محددة: يجب أن تكون الأهداف واضحة ومحددة قدر الإمكان بخصوص ما تسعى الإدارة إلى تحقيقه؛ فكلما كانت الأهداف واضحة، زاد الفهم والمعرفة للخطوات اللازمة لتحقيقها، ويجب أن تكون الأهداف واضحة المعالم لجميع العاملين في المؤسسة التعليمية.
قابلة للقياس: يجب أن تكون الأهداف مصحوبة بمعايير واضحة ومحددة لقياس مدى نجاحها وتحقيقها للنتائج المرجوة. فتُعتبر عملية التقييم جزءًا أساسيًّا من دورة حياة الأهداف، إذ تبدأ قبل تطبيقها من خلال وضع مؤشرات أداء دقيقة تُظهر مدى تقدم العمل. وتستمر هذه العملية أثناء التنفيذ لضمان سير الأمور في الاتجاه الصحيح، كما تُستخدم بعد انتهاء التطبيق لتقييم النتائج النهائية. ويتيح هذا النهج المرونة اللازمة لإجراء التعديلات المطلوبة في الوقت المناسب، مما يُعزز فرص تحقيق الأهداف بشكل فعال، ووفقًا للتطلعات المحددة مسبقًا.
قابلة للتحقيق: من الضروري أن تستند الأهداف إلى حقائق ملموسة تتعلق بالقدرات والإمكانات المتوفرة، سواء كانت بشرية أو مادية أو تنظيمية. عندما تكون الأهداف واقعية وقابلة للتنفيذ في ضوء الموارد الحالية، فإن ذلك يسهم في تعزيز الثقة لدى الأفراد والمؤسسة ككل. كما أن تحقيق هذه الأهداف يصبح أكثر احتمالية إذا كانت متسقة مع الإمكانات الفعلية، مما يرفع الروح المعنوية ويشجع الجميع على بذل الجهود اللازمة لتحقيقها. إضافة إلى ذلك، فإن وضوح الرؤية حول إمكانية التنفيذ يساعد في الحفاظ على الحافز والتركيز، بما يدعم تحقيق رسالة المؤسسة التعليمية بكفاءة وفعالية.
واقعية: يجب أن تكون الأهداف واقعية بحيث يمكن تحقيقها على أرض الواقع مع مراعاة الإمكانات المتاحة. كما يجب النظر في مدى صلتها بأهداف المؤسسة التعليمية واحتياجات العاملين فيها. ويستحسن ديمومة التفكير فيها وإعادة الصياغة أو التعديل متى ما استدعت المعطيات ذلك.
داخل إطار زمني: يجب أن تُحدد الأهداف ضمن إطار زمني واضح ومحدد، فتَرْك الأهداف مفتوحة النهاية زمنيًّا قد يؤدي إلى التشتت وانخفاض الحافز لتحقيقها. فوجود جدول زمني محدد يسهم في ترتيب الأولويات بشكل منطقي، مما يساعد الأفراد والمؤسسات على التركيز على الإنجاز في الوقت المناسب. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر الإطار الزمني أداة قياس فعالة تُمكّن من تقييم مدى تقدم العمل ومدى كفاءة التنفيذ. فالتوقيت الدقيق يمنح الأهداف صفة الجدية ويعزز الالتزام بها، مما يسهم في تحقيق نتائج ملموسة وفعّالة في الوقت المناسب.
الإيجابية التفاعلية: تعد الإدارة المدرسية الإيجابية ركيزة أساسية لنجاح العمليات اليومية، إذ تعتمد على تبني مواقف تعزز الروح المعنوية، وترفع دوافع الإنجاز لدى العاملين والطلاب. فالإدارة التي تركز على الجوانب الإيجابية تُشجع بيئة عمل محفزة ومليئة بالطاقة البناءة، مما يُسهم في تعزيز التفاعل الإيجابي بين جميع الأطراف. كما أن الابتعاد عن المواقف السلبية التي قد تعرقل التقدم أو تؤثر سلبًا على الروح الجماعية يعد أمرًا ضروريًّا لضمان مصلحة المؤسسة ورفاهية العاملين فيها. فالقيادة التي تتبنى نهجًا إيجابيًا تضع الأساس لنجاح المدرسة في تحقيق أهدافها، كما تُشجع الإبداع والتعاون داخل المجتمع المدرسي.
اجتماعية: يتحتم على الإدارة المدرسية أن تكون اجتماعية تحتضن الجميع، ويسود فيها روح الأسرة الواحدة؛ حتى تتمكن من تحقيق أهدافها المنشودة. وأن تكون بيئة اجتماعية يغيب عن شمسها في جميع أنشطتها التسلط والاستبداد. والمشاركة المتكاملة القائمة على مبدأ الاحترام المتبادل ومبدأ الشورى في اتخاذ القرارات هي القيم السائدة التي لا تعترف بوجود امتيازات بين الرؤساء والمرؤوسين في بيئة اجتماعية نموذجية.
الإنسانية: يسود البعد الإنساني في جميع تعاملات الإدارة المدرسية، مقصيًا اعتبار اللون والعرق والجنس والحزبية لمزاولة المهام اليومية. وأن تضع سدًّا منيعًا بينها وبين المذاهب والمبادئ الفكرية التي تنتفي مع مبدأ العمل التربوي القائم على ترسيخ مبدأ الإنسانية والاحترام المتبادل (أحمد، 1991؛ عابدين، 2001).
القدرة على التنظيم: تعد القدرة على التنظيم الفعّال من أهم مقومات الإدارة المدرسية الناجحة، إذ تعتمد على تطبيق التقنيات العلمية الحديثة واستخدام وسائل الاتصال المتطورة، سواء كانت سلكية أو لاسلكية أو تقليدية. فالتنظيم الجيد يُمكّن المدرسة من تحقيق التكامل بين مختلف عناصر الهيكل التنظيمي، مما يضمن سير العمليات اليومية بسلاسة وكفاءة. إضافة إلى ذلك، فإن ربط الإدارة المدرسية بالمجتمعين المحلي والدولي يُعزز من فرص التعاون والتفاعل الإيجابي مع مختلف الأطراف، مما يثري البيئة التعليمية ويسهم في تبادل الخبرات. من خلال هذا النهج، تصبح المدرسة قادرة على تلبية الاحتياجات المتغيرة للطلبة والمجتمع، وتحقيق أهدافها بطريقة مستدامة ومؤثرة.
العصرنة: لمواكبة التطورات المتسارعة في عصر الثورة المعلوماتية والتقنية الحديثة، يجب أن تكون الإدارة المدرسية قادرة على تبني مفاهيم العصرنة في جميع جوانب عملها. ويتطلب ذلك توظيف التقنيات المتقدمة مثل الأنظمة الإلكترونية، والمنصات الرقمية، ووسائل التعليم التفاعلي، مما يُعزز الكفاءة والابتكار في العملية التعليمية. كما أن التفاعل مع المستجدات التقنية يتيح للإدارة تحسين عمليات التخطيط والتنظيم والتواصل داخل المدرسة وخارجها. ومع هذه الديناميكية المستمرة، تكتسب الإدارة القدرة على تطوير بيئة تعليمية متجددة تلبي تطلعات الجيل الجديد وتواكب التغيرات العالمية، مما يضمن جودة التعليم واستدامة التقدم.
القدرة على التطبيق: تعد القدرة على تطبيق الفلسفة التعليمية والمجتمعية بفاعلية إحدى الركائز الأساسية للإدارة المدرسية الناجحة. ويتحقق ذلك من خلال ترجمة الأهداف النظرية إلى ممارسات عملية تلبي احتياجات المجتمع، وتنسجم مع تطلعاته وآماله. وتعتمد هذه القدرة على فهم عميق للواقع المحلي، وتحليل دقيق لاحتياجات الأفراد والمؤسسات المحيطة. كما تستلزم وضع خطط تنفيذية مدروسة تتضمن خطوات واضحة وآليات محددة تضمن تحقيق النتائج المرجوة. ويمكن للإدارة المدرسية أن تستعين بالبرامج التربوية المبتكرة، والشراكات مع الجهات المجتمعية، والتوظيف الفعّال للموارد المتاحة لتلبية هذه الاحتياجات. ومن خلال هذا النهج، تصبح المدرسة قادرة على تحقيق أهدافها بشكل ملموس، مما يعزز دورها كمؤسسة تعليمية فعّالة تخدم المجتمع وتسهم في تطوره.
ثالثا: مقومات الإدارة المدرسية الناجحة
إن المؤسسات بجميع أنواعها، بما فيها التعليمية والاقتصادية والتجارية والقانونية والسياحية، الربحية منها وغير الربحية، بحاجة إلى مقومات تضمن لها الاستمرارية والديمومة لأداء رسالتها التي أنشئت من أجلها، ولا يستثنى من ذلك الإدارة المدرسية. فهي بمثابة عصب حياة للمؤسسة التعليمية. وقد تمخضت نتائج الدراسات والأبحاث العلمية عن العديد من المقومات لمنظومة الإدارة المدرسية الناجحة. وأبرز هذه المقومات ما يلى:
القدوة الحسنة: تُعد الإدارة المدرسية القدوة الأساسية للنجاح بتجسيد القيم الرفيعة، كالالتزام والتفاني، مما يعزز التأثير الإيجابي على الجميع داخل المجتمع المدرسي. ويتحقق ذلك من خلال تمسكها بالقيم الأخلاقية والدينية في سلوكها، مما يخلق بيئة نموذجية تسودها الفضيلة، حيث يُلهم تأثير القدوة المثالية الموظفين والطلبة وأولياء الأمور أكثر من القوانين والتعليمات.
الثقة المتبادلة: لا يمكن للإدارة المدرسية أن تترجم أي خطة على أرض الواقع إذا ما انعدمت الثقة المتبادلة بين الشركاء المعنيين في المؤسسة التعليمية؛ لأن ثقة العاملين والطلبة وجميع أفراد المؤسسة التعليمية بعضهم ببعض تعتبر دعامة أساسية وجوهرية من دعائم نجاح الإدارة المدرسية. فهي تمثل عاملاً مهمًّا لعلاقات اجتماعية ثابتة ومستقرة ومثمرة، ومن ثم فإنها تشكل العنصر الأساسي في الفاعلية والنجاح التنظيمي. فليس هناك منظمة تستطيع أن تتخذ لها مكانًا رياديًّا في بيئة الإنجازات من دون وجود ثقة متبادلة بين الأشخاص، وليس هناك قائد تنظيمي يستطيع إهمال عنصر الثقة المتبادلة في مزاولة المهام المؤسسية ويُدوَّن له النجاح.
إيجاد المناخ الصالح على أساس من الاستقرار والطمأنينة: تُعتبر مهمة خلق مناخ تنظيمي مستقر ومطمئن من أبرز مسؤوليات الإدارة المدرسية، إذ يسهم هذا المناخ في تحقيق بيئة عمل تتسم بالتفاهم والتعاون بعيدًا عن الخلافات والعنف. ويُعد هذا المناخ ضرورة أساسية كما أشار أبراهام ماسلو في هرم الاحتياجات الإنسانية، فشعور الأفراد بالأمان والاستقرار يُعزز تركيزهم وإنتاجيتهم. أما غياب هذا الإحساس فيؤدي إلى التشتت النفسي والفكري، مما ينعكس سلبًا على الأداء والسلوك الإيجابي. وآلية تحقيق ذلك تتطلب من الإدارة ترسيخ ثقافة تقوم على التراحم والتعاطف بين أفراد المجتمع المدرسي، مع تعزيز قنوات الاتصال الفعّال، وحل المشكلات بأسلوب بنّاء. وهذا النهج يُحفّز الإبداع بين العاملين، مما يُسهم في تحقيق أهداف المؤسسة التعليمية بكفاءة وفعالية (ماسلو، 1954).
التعرف على العاملين: يُعتبر التعرف على العاملين وفهم قدراتهم وإمكاناتهم أحد أهم عوامل نجاح الإدارة المدرسية؛ لأن تجاهل هذه المعرفة يؤدي إلى خلافات تعيق تحقيق أهداف المؤسسة. فالإدارة المدرسية الناجحة هي التي تبذل جهدًا في تحليل مهارات العاملين ومواهبهم، مع تخصيص المهام المناسبة لكل فرد بما يتماشى مع إمكاناته، مما يضمن الأداء الأمثل. وآلية التطبيق تشمل استخدام أدوات تقييم شاملة لتحديد نقاط القوة وفرص التطوير لدى العاملين، مع توفير التوجيه المستمر وتشجيع المتميزين لتحفيز الجميع على تحسين أدائهم. كما أن تطوير كفايات العاملين يُعزز من كفاءة المدرسة بوصفها مؤسسة مجتمعية تسعى لرفد المجتمع بجيل متميز ومؤهل. ومن خلال هذا التوجه، تصبح الإدارة قادرة على تحقيق التكامل بين العاملين، مما يُسهم في بناء بيئة مدرسية قوية تدعم تحقيق فلسفة النظام التعليمي والمجتمعي (أحمد، 2003).
توسيع الصلاحيات/ توزيع الاختصاصات: توسيع الصلاحيات/توزيع الاختصاصات: تخويل العاملين مسؤوليات وصلاحيات يعزز انتماءهم ويجعلهم شركاء في نجاح المدرسة. ولتحقيق ذلك، يجب على الإدارة تحديد المهام بوضوح، وتوفير التدريب اللازم، وبناء الثقة لتمكينهم من المشاركة في اتخاذ القرارات وحل المشكلات. وهذا النهج يطور المهارات الفردية، ويزيد من تماسك وإنتاجية المجتمع المدرسي.
أسلوب القيادة الرشيدة: يُعد أسلوب القيادة الرشيدة حجر الزاوية في نجاح الإدارة المدرسية؛ إذ يرتكز على مبادئ الديمقراطية، الحكم الذاتي، القيادة الجماعية، ومركزية التخطيط مع لامركزية التنفيذ، مع الابتعاد عن الأساليب الأوتوقراطية. ويعتمد هذا الأسلوب على تشجيع العاملين وإشراكهم في عملية اتخاذ القرارات، مما يعزز الابتكار وروح الاعتماد على النفس ويثير الهمم لتنشيط الفكر. وتتطلب آلية التطبيق العملي بناء بيئة عمل تشجع الحوار المفتوح والتواصل الفعّال بين الإدارة والعاملين، إلى جانب تطبيق القوانين بمسؤولية وشفافية تجعل الإدارة قدوة يحتذى بها (أحمد، 2003). كما يجب على القيادة ترسيخ ثقافة الثقة المتبادلة، فقد أشار جمعة (2019) إلى أن انعدام الثقة ينعكس سلبًا على أداء المؤسسة. ومن خلال هذا الأسلوب، تصبح الإدارة المدرسية نموذجًا قياديًّا يحقق توازنًا بين الالتزام بالقوانين وتحفيز الإبداع، مما يعزز كفاءة المؤسسة، ويضعها في طليعة المؤسسات التعليمية الناجحة.
التوصيات:
- توصى النتائج المؤسسة التعليمية بالترفع عما يعرف في الآونة الأخيرة بـ"الجهل المقنن"؛ أي: الاستمرار على النمطية واحتضانه، ولكن التسلح بكل ما هو جديد في مجال التعليم والتعلم، وإسناد المهام والمناصب إلى المتخصصين.
- وتوصى النتائج كذلك المؤسسات التعليمية بأن تولي اهتمامًا بالغًا بالرضا الوظيفي بين العاملين، والسعي قدر الإمكان لإشباع احتياجات كوادرها إذا ما أرادت أن تستثمر استثمارًا إيجابيًّا في الكفاءات الإبداعية الكامنة وغيرها.
- على الإدارة المدرسية أن تتأكد دومًا من أن الأهداف واضحة لجميع أفراد المجتمع المدرسي بما لا يضع مجالاً للشك أو التردد.
- كما توصلت النتائج إلى أن الإدارة الناجحة هي التي تؤسس وتترجم خصائص النجاح -من اجتماعية وإنسانية وإيجابية التفاعل ووضوح الأهداف والعصرنة والقدرة على التنظيم والقدرة على التطبيق- كأبجديات أنشطتها اليومية، ونهر قيم يشرب منه القاصي والداني على حد سواء.
- وأخيرًا، توصى النتائج بترسيخ مبادئ القدوة الحسنة والثقة المتبادلة وإيجاد المناخ الصالح والتعرف على العاملين وتوسيع الصلاحيات وأسلوب القيادة الرشيدة، كأسس محورية مستدامة لبناء الصرح التعليمي الرائد.
الخاتمة:
في ضوء ما ورد في المقال، يمكن القول بأن الإدارة المدرسية الناجحة تمثل أساس تحقيق التميز التعليمي؛ إذ ترتكز على رؤية شاملة ومتكاملة تسعى إلى بناء بيئة تعليمية محفزة، وتعزيز الكفاءات، والارتقاء بالرضا الوظيفي، وتوفير مناخ تعاوني يُشعر العاملين بروح الأسرة الواحدة. وأن نجاح الإدارة المدرسية يتطلب وضوح الأهداف وقابليتها للتنفيذ، إضافة إلى اعتماد قيم الثقة المتبادلة، والتنظيم الفعّال، والتحديث المستمر لمواكبة التطورات التقنية والتعليمية.
وتشمل الخصائص الجوهرية للإدارة المدرسية الناجحة: وضوح الأهداف، والإيجابية التفاعلية، والطابع الاجتماعي والإنساني، والقدرة على التنظيم، والقدوة الحسنة. كما تتطلب توفير بيئة مستقرة وآمنة تُعزز الإنتاجية، وتحقيق التوازن بين الصلاحيات والاختصاصات لضمان التكامل بين أفراد المؤسسة التعليمية.
وباختصار، الإدارة المدرسية الفعّالة ليست فقط وسيلة لتحقيق أهداف التعليم والتعلم، بل هي عنصر ديناميكي يُشكل الأساس المتين لتطوير الأفراد والمجتمع، متجاوزةً المفهوم التقليدي إلى نموذج قيادي ملهم يُركز على الاستدامة والتميز.
الكاتب: محمد برهان الدين موسى
أستاذ مساعد، قسم الدراسات التربوية
كلية البحرين للمعلمين، جامعة البحرين
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |