العدد 6002
الجمعة 21 مارس 2025
تراث قُصي بن كلاب: دار الندوة أول المجالس عند العرب؟
الأربعاء 12 مارس 2025

أقام الفتى قُصي بن كلاب (400-480م)  في الشام مع زوج والدته ربيعة بن حرام القضاعي فشاهد نظام قاعات التجمع البيزنطية ومن ثم  طلب من أخيه من الأم الفارس وسيد عموم قضاعة "رزاح بن ربيعة بن حرام" (نحو 410م - 500م):نجدته لاستعادة حكم قريش من خزاعة  فتمكن له الامر.

بعد أن تمكن قُصي بن كلاب من أن يكون شيخ عموم قبيلة قريش واجه العديد من التحديات، فلم تكن إعادة تجميع أفراد قبيلته تحت مسمى "قبيلة قريش" لإدارة شؤون الكعبة (بيت الله المعمور) سوى البداية (الأزرقي، 2003). بل أن تأسيس عُرْفٍ يعمل كقانون ضابط لإدارة شؤون قريش وتنظيم استقبال زوّار بيت الله الحرام يعد من أهم إنجازاته (البغدادي، 2010).

تأسيس دار الندوة وأهميتها السياسية والاجتماعية: ولضمان استمرار مشروعه، أسّس قُصي "دار الندوة" (السهيلي، 2009)، التي كانت بمثابة أول " مجلس رسمي" (City Hall) في تاريخ العرب، حيث قرر قُصي بن كلاب تدريب رواد مجلس دار الندوة على الانضباط ضمن قوانين قبلية، من خلال الحوار والاتفاق بين أعيان قريش في مكة (جواد علي 1974)، (Peters 1994)، (Dostal, n.d). اختار قُصي ابن كلاب موقعًا مركزيًا لدار الندوة بتشييدها على بُعد خطوات قليلة من الكعبة المكرمة (حمو 2010) (ابن-سعد 2001).

باختيار هذا الموقع البارز سيتمكن كل ذي بصيرة من أن يرى حِكْمَتَيْنِ من جعل قُصي ابن كلاب دار الندوة على مرمى نظر كل زائر من زوار بيت الله المعمور. أولهما، لكي يعلم جميع العرب أنّ الحوار والجدل للتوصل إلى قرار بشكل سلمي وبعيدًا عن القتال والحرب أمرًا مقدسًا تمامًا مثل قدسية الكعبة المشرّفة. ثانيهما، أراد قُصي من كل العرب عند عودهم إلى بلادهم من التحدث عن دار الندوة وأهدافها من أجل اقتباس فكرتها وتطبيقها بصيغة محليّةٍ في بلادهم. حيث شكّلت دارَ الندوةِ نقلةً نوعيةً في طريقة الحكم استحدثتها قريش عندما وفّرت مساحة لمشاركة النُخبة القرشية في صنع القرار بعيدًا عن احتكار قُصي ابن كلاب ذاته (Watt 1988).

دستور دار الندوة: المشاركة والنخبوية: وضع قُصي دستورًا لإدارة دار الندوة، حيث منح رؤساء عشائر قريش الأحد عشر حقّ المشاركة في نقاشات الدار بعد تجاوز سنّ الأربعين. وقد أسهم هذا المجلس في تطوير مهارات التفاوض واتخاذ القرار لدى الأعضاء، مما جعلهم تجارًا بارعين قادرين على التعامل مع ثقافات مختلفة مثل البيزنطيين والفرس واليهود والأقباط والصينيين (ابن عبد البر، 1992؛ البلاذري، 1996؛ السهيلي، 2009).

نقاط الضعف في نظام دار الندوة: رغم أهميتها، لم تخلُ دار الندوة من العيوب، وأبرزها:

الاحتكار الطبقي: اقتصرت عضوية المجلس على زعماء قريش فقط، مما حرم فئات أخرى من فرصة المشاركة في صناعة القرار.

الإقصاء على أساس النسب: لم يُسمح للمكيين من غير أصول قرشية بالانضمام، رغم احتمال وجود حكماء بينهم.

التمييز العمري: اشترط بلوغ الأربعين للعضوية، مما استبعد الشباب من التأثير في مجريات الأحداث.

بدائل التعبير عن الرأي في مكة: بالنسبة لمن لم يتمكنوا من دخول دار الندوة، فقد لجأوا إلى التعبير عن آرائهم في صحن الكعبة، حيث كانوا يجهرون بمواقفهم علنًا. ورغم أن هذا الأسلوب لم يكن بنفس قوة تأثير نقاشات دار الندوة، إلا أنه قد يلفت انتباه أحد الزعماء، الذي قد ينقل القضية إلى داخل المجلس للنظر فيها.

ترسيخ القيادة وتعزيز ريادة مكة الاقتصادية: رغم الطبيعة النخبوية لدار الندوة، إلا أن هذا التنظيم الإداري المتطور لإدارة مكة المكرمة شكّل نقلة نوعية غير مسبوقة في جزيرة العرب. فقد ساهمت هذه البنية السياسية المحكمة في تعزيز ريادة مكة كمركز ديني وتجاري، مما جعلها مقصدًا للسياح الدينيين القادمين من مختلف أنحاء الجزيرة العربية.

ومع ازدياد أعداد الحجاج والزوار، شهدت مكة انتعاشًا اقتصاديًا ملحوظًا، حيث ازدهرت الأسواق المحيطة بالكعبة، وازداد الطلب على المنتجات والخدمات المرتبطة بالسياحة الدينية، مثل الإقامة، والطعام، والصناعات اليدوية، والنقل. وهكذا، لم يكن تأثير دار الندوة مقتصرًا على الشؤون السياسية، بل امتد ليعزز مكانة مكة كمركز اقتصادي حيوي، يربط بين طرق التجارة ويستقطب رؤوس الأموال من مختلف القبائل والمناطق.

دار الندوة وتعزيز هرمية السلطة في مكة: لم تكن دار الندوة مجرد قاعة اجتماع، بل كانت أداة لإعادة هيكلة المجتمع المكي وفق رؤية قُصي بن كلاب، حيث سعى إلى ترسيخ ثقافة الطبقية وتعزيز السلطة بيد زعماء العشائر، متجاهلًا أي مفهوم لمشاركة أوسع من بقية أفراد المجتمع. لقد صُمِّم هذا المجلس ليحافظ على علاقة حادة بين الرئيس والمرؤوس، حيث يُمنح الزعماء وحدهم حق التشاور واتخاذ القرارات، بينما يُترك عامة الناس للالتفاف حول قياداتهم دون فرصة حقيقية للمشاركة الفعلية في الحكم.

وبذلك، لم يكن البعد الأساسي لدار الندوة هو بناء منظومة تشاورية حقيقية، بل كان هدفها ضمان استمرار هيمنة النخبة القرشية وإبقاء السلطة محتكرة داخل طبقة محددة. هذه الهيمنة حالت دون تحقيق انضباط موحد في مكة، حيث بقيت القرارات حكرًا على مجموعة ضيقة، فيما لم يُتح لعامة المجتمع سوى دور المتفرج أو المنفّذ. وهكذا، فإن إرث دار الندوة لم يكن إرثًا ديمقراطيًا بقدر ما كان ترسيخًا لنظام اجتماعي يُبقي السلطة بيد القلة، ويحدد بوضوح من يُسمح له بصناعة القرار ومن يكتفي بتلقيه.

هل نجحت دار الندوة في تحقيق الانضباط المجتمعي؟: رغم دورها الريادي في إنشاء أول مجلس تشاوري عربي، إلا أن دار الندوة لم تستطع أن تتحول إلى فضاء شامل لمشاركة جميع سكان مكة في النقاشات العامة. فقد بقيت مؤسسة نخبوية، لم تؤسس لسلوكيات موحدة تسود المجتمع بأسره. وهكذا، يمكن القول إنها فشلت في تحقيق انضباط شامل لكل أفراد مجتمع قريش، لكنها مع ذلك مهدت الطريق لتطور مفهوم المجالس التشاورية في تاريخ العرب.

ختاما يجب أن يدرك القارئ العربي والبحريني أن مبدأ الشورى والحوار ليس مفهوماً حديثاً أو مستورداً، بل هو جزء أصيل من تاريخنا العريق. كانت دار الندوة التي أسسها قُصي بن كلاب في مكة أول نموذج لمجلس تشاوري عربي، يلتقي فيه زعماء قريش للتباحث واتخاذ القرارات بشأن إدارة شؤون القبيلة وشؤون الكعبة، الأمر الذي يعكس عراقة التقاليد الشورية في ثقافتنا العربية البحرينية.

د. محمد الزكري

أخصائي تراث وسياحة

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية