في عصر يقاس فيه النجاح بمعايير الكفاءة السوقية وسرعة الاستهلاك، يطرح الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة" تحليلاً ثاقبا لكيفية هيمنة المتوسطية "Mediocrity”على مجالات الحياة الثقافية والتعليمية والسياسية.
المتوسطية هي مفهوم يشير إلى القبول بالمستويات العادية أو المتوسطة في مختلف جوانب الحياة بدلاً من السعي للتميز والتفوق. في السياق الذي يتحدث عنه آلان دونو، تعني المتوسطية أن المجتمع يقدر الأداء الذي لا يتجاوز الحدود العامة للكفاءة ولا يسعى لتحقيق إنجازات استثنائية، وبالتالي يصبح هذا المعيار هو السائد.
يدعو دونو إلى مقاومة هذه الميديوقراطية السائدة ويشدد على ضرورة إعادة تقييم القيم التي يجب أن تسود في المجتمعات.
يتبنى كتاب "نظام التفاهة" رؤية نقدية للمؤسسات الحديثة، مشيرًا إلى أن البحث عن الإنتاجية والكفاءة قد طغى على الجودة والتميز. يتجلى ذلك في التعليم، حيث يُنظر إلى الطلاب كمستهلكين ويقيم النجاح بمقدار ملاءمتهم لسوق العمل، بدلاً من تنمية قدراتهم الفكرية والإبداعية. وفي السياسة، يُؤخذ على القادة فشلهم في تبني رؤى جريئة وعدم قدرتهم على التصدي للتحديات الراهنة بحلول مبتكرة.
ومن الجانب الاجتماعي والثقافي
يناقش آلان دونو مسألة التأثير الاجتماعي والثقافي بعمق، مشيرًا إلى أن الأنماط الثقافية المهيمنة تعمل على تقويض القيم الأساسية للديمقراطية، مثل المشاركة الفعالة، التدقيق العام، والمبادرة الفردية. وفقا لدونو، فإن ترويج الثقافة الشعبية الذي تعتمده الشركات الكبرى ووسائل الإعلام يؤدي إلى ترسيخ نموذج استهلاكي يفضل السطحية على العمق، والفورية على التأمل الطويل الأمد.
ينتقد الكاتب كيف تصبح القيم السوقية مثل الكفاءة والفعالية معايير تُحكم بها جودة الأعمال الثقافية والفنية، بدلا من القيمة الجمالية أو الفكرية. يشدد على أن هذا النهج يؤدي إلى إنتاج أعمال رديئة تفتقر إلى التحدي الفكري والإبداعي، بحيث تصبح الثقافة أداة للتسلية بدلاً من كونها مصدر إلهام وتغيير اجتماعي.
بالإضافة إلى ذلك، يتطرق إلى كيفية تأثير الإعلانات والبرامج التلفزيونية في تشكيل الوعي الجماعي والسلوك الاستهلاكي. يُلاحظ أن وسائل الإعلام تميل إلى تعزيز الرضا عن الوضع الراهن وتضخيم الرغبة في الاستهلاك الدائم، مما يؤدي إلى تراجع في القدرة على التفكير النقدي واستقلالية الفكر.
ويُؤكد على أن هذا الوضع يخلق بيئة ثقافية تُهمش الأصوات النقدية والمبدعة التي تدعو إلى التغيير والتحول الاجتماعي. يُشير إلى أن الديمقراطية تعتمد بشكل جوهري على المواطنين النشطين الذين يمتلكون القدرة والرغبة في المشاركة في الحوار العام والتفاعل مع القضايا المعقدة، لكن "نظام التفاهة" يساهم في إضعاف هذه العناصر الأساسية.
"نظام التفاهة" ليس مجرد نقد للواقع الراهن، بل هو دعوة للفرد والمجتمع للتحرك نحو تبني معايير جديدة للتفكير والتقييم. يشدد دونو على أهمية الثقافة والتعليم كركائز أساسية لإحداث تغيير إيجابي يتجاوز معايير السوق.
ويدعو إلى استعادة الثقافة العامة التي تحتضن التنوع وتشجع على النقاش والمشاركة الديمقراطية.
يقف كتاب "نظام التفاهة" كمنارة تحذيرية في وجه الأمواج المتلاطمة للتوسط والسطحية، والتي تهدد بتحويل مجتمعاتنا إلى بيئات خالية من الحيوية والإبداع. إنه دعوة صادقة للانخراط في عملية تأمل ذاتي جماعية، للتساؤل بجدية عن القيم التي نختار أن توجهنا وتشكل مستقبلنا.
في هذه الختامية، يمكننا تقديم رؤية إيجابية تُمكّن الفرد والمجتمع وصانع القرار من استخلاص دروس عملية من هذا العمل.
على الأفراد التمسك بأهمية الفضول الفكري واحتضان الفكر المستقل، والإقدام على التعلم المستمر الذي يوسع الأفق ويغذي الروح.
اما المجتمعات فعليها تعزيز الحوار الثقافي والفني المتنوع وتنمية بيئة تشجع على التبادل الفكري وتشرب القيم الديمقراطية التي تسمح بالتطور والتقدم.
بالنسبة لصانعي القرار، تكمن المسؤولية في رعاية السياسات التي تدعم حرية الفكر والإبداع، وتخصيص الموارد لبناء مؤسسات تعليمية وثقافية قوية تسهم في تنشئة مواطنين قادرين على المساهمة الفعالة والمشاركة الواعية.
"نظام التفاهة" هو بالتالي ليس فقط تشخيصًا لمشكلاتنا، بل هو نداء للعمل يستدعي الجميع للمشاركة في رفع مستوى المجتمعات. إنه دعوة للعمل بوعي وتصميم لبناء مستقبل نابض بالحياة، غني بالمعنى، ومفعم بالإبداع. الخيارات أمامنا واضحة: إما الاستسلام للواقع الذي نرفضه، أو العمل على تشكيل واقع جديد يستحق أن نحيا فيه ونفتخر به.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |