حين لا تضع بعض المؤسّسات والشّركات "الشّخص المناسب في المكان المناسب"، تنعكس النّتيجة على جميع المنظومة العاملة وعلى جميع العمّال فيكون الضّرر نفسيًّا أكثر منه ماديًّا. كما أنّ الخسارة المادّيّة ستكون أضعافًا مُضعّفة على الشّركة؛ وبحسب البحوث والإحصاءات والدّراسات الموجودة في باب الصّحّة والسّلامة النّفسيّة للموظّفين ستزداد، مع الخسارة المادّيّة، نسبة كلّ من الأمراض النّفسيّة والاحتراق الوظيفيّ والأمراض العضويّة شيئًا فشيئًا.
وهذا يرجع إلى أنّ معظم الشّركات تُسلّم المهمّة إلى مدير لا تجتمع فيه المواصفات المطلوبة لتلك المهنة ولا يمتلك الخبرة الكافية ولا الرّؤية الواضحة لتنمية الأفراد والمؤسّسات. فيكون مديرًا مُفتقدًا مُقوّمات التّنمية، وفاقد الشّيء حتمًا لا يستطيع أن يعطيه. ومهنة المدير في بيئة العمل تتطلّب اليوم تعمّقًا في علوم النّفس وتخصّصًا إداريًّا، وإنْ لم يتوفّرا ستكون العمليّة مكلفة جدًّا على الشّركات والمؤسّسات. تخيّل أن تجعل مهندسًا ميكانيكيًّا يصف علاجًا لمريض يُعاني ألمًا في مَعِدَته جرّاء طعامٍ مسموم. تخيّل!!! هل تخيّلت خطورة الموقف؟! هذا هو حال أيّ مدير لا يملك أبجديّات علوم الإنسان النّفسيّة وهندستها المتنوّعة. والسّؤال هنا: كيف تمّ تولّيه منصب مدير وهو لا يعرف غير إصلاح السّيّارات؟؟ وهذا، طبعًا، ليس انتقاصًا للمهندسين الميكانيكيّين، الّذين أحترمهم كلّ الاحترام، إنّما لوضع النّقط على الحروف. ولا يجب أن ننسى أنّ المدير لا بدّ له أن يمتلك ضميرًا قبل امتلاكه الشّهادات والخبرات. ولمَ لا تطلب الشّركات، الّتي تريد أن تُنَصِّب المدير، تقديم مشروع سعادة يضمن له منصبه؟ فالمطلوب مديرٌ يُعينُ موظّفيه ويتعاون معهم لزيادة إنتاجيّتهم بما فيه مصلحة الشّركة، لا مدير يتعامل بفوقيّة وعنصريّة اللّون والجنس والجنسيّة و... . وما يجب أن يعرفه القرّاء هو أنّه ليس كلّ من حمل شهادة جامعيّة أو كلّ من تكلّم اللّغة الإنجليزيّة يكون شخصًا ميدانيًّا مدرِكًا شروط العمل، إذ بإمكان مدير الموارد البشريّة أن يستفيد من منظّف مكتبه بفكرة قد تكون خلّاقة، وهذا أيضًا ليس انتقاصًا لعمّال النّظافة أو عدم تقدير عملهم المُضنيّ، إنّما للفت النّظر إلى أهمّيّة التّربية على السّلوك التّنمويّ منذ نشأة الإنسان في منزله. وما زلنا نؤكّد للأحبّة أنّ الفراعنة رغم أنّ كتاباتهم كانت برموز ورسوم إلّا أنّهم صنعوا أعظم عجائب الدّنيا السّبع وما زال العلم، حتّى الآن، متحيّرًا يبحث عن كيفيّة بناء الأهرامات. عقدة اللّغة الإنجليزيّة والنّقص الذّاتيّ يستخدمهما بعض المنتفعين حتّى يكسروا مهارات بعض الأفراد وقدراتهم على التّنمية في بعض الشّركات والمؤسّسات. إنّ مدير الموارد البشريّة، على سبيل المثال، في الشّركة إنْ لم يمارس التّجوال الدّوريّ في مكان العمل لِتَفقّد حاجات موظّفيه الجسديّة والنّفسيّة والعمليّة والمادّيّة فهو مدير موارد بشرية غير مناسب لهذه المسؤوليّة.
ونلخّص قائلين أنّ المعايير المعتمدة لاختيار المدير يجب اليوم أن تختلف، في ظلّ المتغيّرات والأزمات التي تعصف بالبشر على جميع الأصعدة وحتّى على مستوى الاختصاصات. وهي المعايير نفسها الّتي يجب اعتمادها لتوظيف مدير قسم الهندسة الميكانيكيّة أو أيّ منصب آخر. ومن الممكن أن تختلط على المدير الأمور فيمارس ضغوطات الإنتاج ظنًّا منه أنّ الموظّفين عبارة عن آلة فيتمّ الضغط عليهم بضرب من الكلام في الاجتماعات أو بحفنة من التّنمّر المتكرّر على جميع الأفراد دون استثناء. وهكذا تبحث الشّركات عن شخص يملأ مكانًا فارغًا فيها، فلا هو يكون مناسبًا ولا المكان الفارغ يمتلئ بالإنتاجيّة والصّلاحيّة. وهذا ما يرفع من مقام الوضيع، وينقص من مقام الفاضل. فعندما يدير الشّخص غير المناسب أيّ منصب إداريّ فإنّه يحارب الكفاءات حتّى لا يظهر أحد بجواره ويخطف منه الأضواء، يحاربه بالتهميش تارّةً وبالإقصاء تارّة وبالكذب والافتراء والكيديّة تارة أخرى.
والنتيجة تكون أن يعيش العامل في جوّ سيّئ بسبب قرارات ظالمة ونظام يقتل الابتكار، وحقوق ضائعة في المجهول. ولكي يحصل العامل على أبسط حقوقه نراه يتوسّل هذا ويبكي أمام ذاك حتّى يُسمع صياحه، ورغم ذلك نراه لا يحصل إلّا على فتات حقوقه. وهذا الضّرر النّفسيّ الثّاني الّذي يُعاني منه الموظّفون في جميع المؤسّسات والشّركات، وهنا يأتي دور تعزيز الكيانات النقابيّة الّتي من شأنها أن ترتقي بمؤسّسها إذا كانت تملك قادة من المختصّين في تنمية الأفراد.
وهنا نطرح بعض الأمور الّتي تساهم في تعزيز هذا الموضوع:
لا شكّ أنّ حماية الموظّفين من المديرين غير النّاجحين أصبح مهمًّا للعمّال، حيث يمكن أن يؤثّر وجود مدير غير فعّال أو سيّئ السّمعة على الأداء العامّ للشّركة ويؤدّي إلى توتّرات وتدهور في بيئة العمل.
نذكر هنا أوّلًا بعض الطّرق الّتي يمكن اتّباعها لحماية الموظّفين من المديرين غير النّاجحين:
1. تدريب المديرين: يمكن تقديم دورات تدريبيّة للمديرين بهدف تعزيز الممارسات الجيّدة في الإدارة والتّواصل الفعّال، كما يمكن أن يتضمّن ذلك تدريبهم على تقييم أداء الموظّفين وتقديم الملاحظات البنّاءة والإيجابيّة والمنتجة.
2. صندوق شكاوى الموظّفين: يجب إنشاء آليّات فعّالة لتلقّي شكاوى الموظّفين حول سلوك المدير، شرط أن يكون للموظّفين الثّقة الكاملة بتلك الآليّة وبأنّهم لن يتعرّضوا لأيّ عقاب أو انتقام جرّاء تقديمهم أيّ شكوى.
3. تقييم أداء المديرين: يمكن إجراء تقييم دوريّ لأداء المديرين والتّحقّق من تفاعلهم مع الموظّفين وتحليل النّتائج واتّخاذ الإجراءات الضروريّة بشأن المدير الّذي يسيء إلى موظّفيه ويؤثّر على سير العمل وإنتاجيّتهم المهنيّة.
4. ثقافة الشفافيّة والمساءلة: يجب تطوير ثقافة الشّفافيّة والمساءلة داخل الشّركة وتعزيزها والالتزام بتحقيقها، شرط أن تكون مدعومة بالمبادئ والقيم المشتركة.
5. توظيف مديرين مؤهّلين: العمل على توظيف مديرين مؤهّلين وذوي خبرة وافية وتاريخ ناجح في الإدارة والتّواصل، شرط أن يكونوا قادرين على التّعامل مع العاملين بأسلوب مهنيّ ومتجاوب وبدون أيّ تمييز مهما كان نوعه.
باختصار، إنّ حماية الموظّفين من المديرين يتطلّب تبنّي نهج شامل ومتعدّد الأوجه، يركّز على تطوير الثّقافة والممارسات الإداريّة الجيّدة وتوفير الآليّات الفعّالة لتحسين العلاقات بين الطّرفَيْن.
ثانيًا، تطبيق معيار "الأيزو" ISO 10018:2020 وهو معيارًا دوليًّا يهتمّ بنظم قوانين إدارة الجودة المتعلّقة بتحفيز الموارد البشريّة وإدارتها في المؤسّسات. ويساعد هذا المعيار على تحقيق ثلاثة من أهداف التّنمية المستدامة وهي:
1. الهدف رقم 8: العمل اللّائق والنّمو الاقتصاديّ - يعمل هذا الهدف على تعزيز فرص العمل اللّائقة والمستدامة، وتحسين بيئة العمل، وضمان الحماية الاجتماعيّة للعمّال.
2. الهدف رقم 9: الابتكار والبنية التّحتيّة والصّناعة - يهدف إلى بناء بنى تحتيّة مستدامة وموثوقة، وتعزيز الابتكار والتّطوّر التّكنولوجيّ المستدام.
3. الهدف رقم 10: تقليل الفوارق داخل الدّول وبينها - يتعلّق بتقليل الفوارق الاقتصاديّة بين الأفراد والدّول، وضمان المساواة في فرص الحصول على التّعليم والرّعاية الصّحّيّة والخدمات الأساسيّة.
في الختام يجب على الإدارة العُليا في جميع المنظّمات والمؤسّسات الاهتمام بمن يتولّى منصب المدير وتحديد متطلّبات هذا المنصب بعناية؛ وعلى الوزارات المعنيّة بالعمل القيام بتفتيش دوريّ وتحقيق مفاجئ للتّأكّد من أنّ المؤسّسات تلتزم بأفضل الممارسات في تعيين المديرين مع متابعة التّقييمات الدّوريّة من العمّال بما يتعلّق بسلوكيّات المديرين ومهنيّتهم.
ويمكن أيضًا الاستفادة من خدمات شركات التّوظيف المتخصّصة في اختيار الموظّفين وتدريبهم لمساعدة المؤسّسات على اختيار المرشّح المناسب لهذا المنصب المهمّ.
وفي النهاية، يجب أن يكون هدف الإدارة العليا تحقيق التّميّز للأفراد والمؤسّسات عن طريق اختيار المدير المناسب وتوفير بيئة عمل صحّيّة وداعمة للإنتاجيّة المرتفعة والرّفاهية العامّة للموظّفين ووضع رؤية مستقبليّة لمشروع سعادة محفّز
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |