+A
A-

المحرق.. عراقة وطيبة وتراث غني

لم تكن جولتي في مشروع إحياء منطقة المحرق في البحرين - الذي تم اختياره مؤخرا من بين المشاريع الستة الفائزة بجائزة الآغا خان للعمارة في دورتها الأخيرة 2019 - كما توقعت، بل للأمانة تجاوز هذا المشروع إلى حد كبير أقصى توقعاتي. كيف لا، وقد وضع فريق رائع متنوع من المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين والخبراء المختصين في مجالات مختلفة (من ترميم المواقع الأثرية والتراث إلى الزراعة) بصماته الرائعة ورؤيته المتميزة في كل زاوية من زوايا هذا المشروع المتكامل.

إلى جانب الاتقان في العمل والدور المهم والرائع الذي يقوم به هذا المشروع من خلال ترميم المواقع التراثية المعرضة للخطر، والحفاظ على الهوية الثقافية للمكان، والاستفادة من كل التفاصيل الدقيقة الموجودة في الموقع، والتعريف بتاريخ وعراقة هذه المدينة الطيبة وتراثها الغني، كانت هنالك عدة نقاط أخرى لا تقل أهمية وحضورا لفتت انتباهي في هذا المشروع.

أولى هذه النقاط الشعور بالانتماء والفخر الذي بدا واضحا على وجوه كل أعضاء الفريق الذي عمل وما زال يعمل في هذا المشروع، النقطة الثانية كانت هذا التناغم الرئع بين الفريق الإداري والتنفيذي للمشروع، والقيادة الرشيدة التي بدت لمساتها واضحة في كل تفصيل من تفصيلات العمل، وبشكل خاص الجهد الكبير للشيخة مي بنت محمد آل خليفة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار في قيادة هذا المشروع.

أما النقطة الثالثة والأكثر أهمية، والتي كانت محط إعجابي وتقديري، فكانت تتعلق بالتفاعل الرائع بين المجتمع المحيط بالمشروع ومشاركة القطاعين العام والخاص إلى جانب المجتمع الأهلي والمنظمات الدولية في تمويل وتنفيذ والإشراف على العديد من مرافق هذا المشروع. كان من الملفت بالنسبة لي أن تقوم منظمات عربية ودولية مختلفة بالمشاركة في تمويل عدة مواقع من هذا المشروع المتكامل، الأمر الذي يمكن اعتباره نموذجا رائعا يحتذى به لتنفيذ مشاريع مماثلة في مناطق أخرى مماثلة من العالم العربي.

زيارتي مشروع إحياء منطقة المحرق كانت جزءا من مشاركتي في الاحتفالية الرائعة التي استضافها مركز زوار مسار اللؤلؤ في المحرق (البحرين) للاحتفاء بمشروع “إعادة إحياء منطقة المحرق”، الفائز بجائزة الآغا خان للعمارة، وتكريم فريق العمل الذي شارك في تخطيط وتنفيذ هذا المشروع الفريد. هذه الاختفالية التي نظمتها هيئة البحرين للثقافة والآثار بالتعاون مع جائزة الآغا خان للعمارة، وهي الثانية ضمن سلسلة من النشاطات التي تعنى بتسليط الضوء على المشاريع الفائزة بجائزة الآغا خان للعمارة، والتي ستقوم إدارة الجائزة بتنفيذها خلال العام الجاري بالتعاون مع عدد من الشركاء المحليين.

على هامش هذه المناسبة أيضا تم تنظيم ندوة خاصة حول جائزة الآغا خان للعمارة والمعايير التي تم الاعتماد عليها لاختيار المشاريع الفائزة بالجائزة، وبشكل خاص مشروع إعادة إحياء المحرق، حيث ناقش المحاضرون الجوانب الأكثر أهمية التي يتميز بها هذا المشروع، والتي كانت سببا في اختياره للفوز بالجائزة، كما ناقشوا السبل التي من شأنها أن تحفز المشاريع التنموية والاستثمارية في مثل هذا النوع من المشاريع الحضرية. وشارك في هذه الندوة إلى جانب فرخ درخشاني، مدير جائزة الآغا خان للعمارة، كل من محمد الأسد عضو اللجنة التوجيهية للجائزة، وكريم إبراهيم وميساء بطاينة من لجنة التحكيم العليا إضافة لشادية طوقان من اليونسكو.

مقاربة فريدة للحفاظ على التراث

تقع جزيرة المحرق على مقربةٍ من العاصمة المنامة، وقد كانت في وقت مضى العاصمة والمركز السياسي القديم للبحرين. ولإعادة إحياء هذا الموقع التاريخي المهم، وتسليط الضوء على أهميته الاقتصادية والاجتماعية ودوره التاريخي في مهنة قديمة لطالما اشتهرت بها البحرين، تم تنفيذ مشروع طموح في المنطقة من قبل هيئة البحرين للحفاظ على الثقافة والآثار على مساحة شاسعة تزيد عن 330 ألف متر مربع.

ورغم أن المشروع تم تدشينه في العام 2013، إلا أن العمل في الموقع لم يتوقف منذ ذلك التاريخ، بل استمر بوتيرة متصاعدة. وفي الوقت الذي كان فيه هذا المشروع يهدف إلى الحفاظ على البنى القديمة والتاريخية في المنطقة، تم التركيز أيضا على إنشاء مبان جديدة بطريقة عصرية مدروسة تندمج بشكل رائع ومتناغم ضمن الموقع، ضمن مقاربة فريدة للحفاظ على التراث وتخطيط المساحات العامة المعاصرة.

ضمن هذا الإطار تتحدث نورة السايح، رئيس الشؤون المعمارية في هيئة البحرين للثقافة والآثار، عن هذا المشروع بالقول: “المشروع هو عبارة عن مشروع تجديد حضري كبير، وهو جزء من مشروع لترميم المباني التاريخية التي نسعى للحفاظ عليها ونقوم بإعادة تأهيلها أيضًا من جديد. في البداية، قمنا بتنفيذ أشياء أساسية، حيث حافظنا على الساحات العامة في المدينة، والشوارع، والمستديرات العامة، وواجهات الأبنية التي تحتاج حقًا للاستثمار، وفي المقابل، قمنا بإعادة تقديم البرامج المعاصرة التي ربما لم يعد يجري تنفيذها وإعادة استثمارها في المدينة”.

وتضيف نورة السايح: “في الواقع، واجهنا بعض التحديات في البداية؛ لأن ما تم القيام به كان جديدا إلى حد ما بالنسبة للمدينة، وكان المفهوم الشائع أن هذه المباني القديمة هي مباني حساسة وهشة، وكان يعتقد أن إعادة الاستثمار فيها هي ضياع للأموال والجهد. ولكن، من الواضح أنه بمجرد أن بدأنا بإعادة استخدام هذه المباني وعادت الحياة إليها من جديد، بدأت في جذب الناس من مناطق أخرى في البحرين، بل ومن مناطق أخرى في المنطقة، كان تأثير هذا المشروع إيجابيا للغاية”.

طريق اللؤلؤ

بالإضافة إلى دوره الأساسي في ترميم عدد من المباني القديمة التي كانت تعاني ضررا كبيرا وإعادة إحياء هذه المنطقة المهمة عموما، يركز هذا المشروع بشكل أساس على تجارة اللؤلؤ في شبه الجزيرة العربية، وهي التجارة التي ازدهرت بها البحرين خلال القرن التاسع عشر. ضمن هذا الإطار يتضمن جزءا مهما من المشروع، يحمل عنوان “طريق اللؤلؤ”، العمل في مجموعة من الأبنية ومراقد المحار وأجزاء من شاطئ البحر، ويغطي كل جانب من جوانب اقتصاد صيد وتجارة اللؤلؤ.

كما يقدم “طريق اللؤلؤ” الذي يمتد على مسافة 3.5 كيلومتر بدءًا من هيرات (مغاصات) اللؤلؤ بالقرب من ساحل قلعة بوماهر وصولا إلى قلب جزيرة المحرّق، رحلة رائعة للزوار لاستكشاف حقبة زمنية في البحرين ومنطقة الخليج العربي كان اقتصادها يعتمد على اللؤلؤ، إلى جانب مركز للزوار تم بناؤه حديثا وساحتين عامتين.

وقد تم إدراج هذا الموقع المهم ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو كثاني موقع يتم اختياره ضمن القائمة في المملكة (بعد قلعة البحرين التي تمّ تسجيلها ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو في العام 2005). وفي محاولة رشيدة للحفاظ على روح هذه المدينة التاريخية، تم تنفيذ عدد من مشاريع الحفاظ على البيئة، إضافة إلى بعض المباني والمخططات الجديدة للأماكن العامة من جانب منظمة غير حكومية بالتعاون مع منظمة حكومية. وحول أهمية هذا الموضوع تقول شادية طوقان من منظمة اليونسكو: “يوجد الآن نوع من التعاون بين القطاعين الرسمي وغير الرسمي وكذلك القطاع الخاص، وهم جميعا متحدون اليوم للقيام بشيء ما للحفاظ على تراثهم وتقديمه، مما يدل حقًا على أن إدراج المشروع ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو كان له أثر إيجابي للغاية على المجتمع”.

بالمحصلة، يتجاوزهذا المشروع أهميته المعمارية ودوره التاريخي ليشمل جوانب أخرى لا تقل أهمية وحضورا مثل الجانب الاجتماعي والاقتصادي، فهو لم يكتف بإعادة إحياء منطقة كانت تعاني الكثير من التحديات، بل عمل أيضا على الحفاظ على التراث الجميل وإعادة إحياء عدد من الحرف القديمة والتراثية التي تتميز بها مملكة البحرين، وخلق فرص جديدة للعمل والنمو في المنطقة.

وهذا ما تؤكده الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار، بالقول: “هنالك أهمية كبيرة لاستثمار هذا النوع من الحرف المحلية وتوظيف الأماكن الأصلية؛ لكي تكون أيضا مصدرا للاستدامة ولضرب أبواب جديدة للعمل. كذلك الحرف القديمة، والتي يكاد البعض منها أن يندثر، مثل حياكة الكورار، وهي مهنة أصيلة كادت أن تندثر، يمكن تحقيق الاستفادة اليوم عبر تقديم الجيل الجديد لممارسة هذه المهنة وتوظيفها أيضا للحصول على مدخول ومردود مناسب”.

أما فرخ درخشاني مدير جائزة الآغا خان للعمارة، فيقول عن اختيار مشروع إعادة إحياء منطقة المحرق ضمن المشاريع الفائزة بالجائزة: “إن الجهد المبذول لإعادة إحياء منطقة المحرق يتميز برؤية واضحة للحفاظ على روح هذه المدينة التاريخية”. ويضيف فرخ درخشاني قائلا: “يوضح المشروع مقاربة حساسة للحفاظ على التراث وتخطيط المساحات العامة المعاصرة”

ورغم أن هذا المشروع قد بدأ كسلسلة من أعمال الترميم وإعادة الاستخدام التكيفي لعدد من المواقع، إلا أنه تطوَّر فيما بعد ليصبح برنامجا شاملا يهدف إلى إعادة التوازن بين التركيبة الديموغرافية للمدينة من خلال إنشاء أماكن عامة، وإدخال تحسينات على البيئة بشكل عام وتوفير أماكن مجتمعية وثقافية. في نهاية المطاف، كان مشروع “مسار صيد اللؤلؤ”، يسعى إلى حث العائلات المحلية على العودة من خلال إدخال التحسينات على البيئة وتوفير الأماكن المجتمعية والثقافية.

جائزة الآغا خان للعمارة

جائزة الآغا خان للعمارة هي واحدة من أهم وأقدم الجوائز المرموقة في مجال العمارة على الصعيد العالمي، تأسست في العام 1977 من قبل صاحب السمو الآغا خان؛ بهدف تحديد وتشجيع الأفكار الرائدة في مجالات العمارة والبناء التي تنجح في التصدي لاحتياجات وطموحات المجتمعات التي يكون للمسلمين وجود معتبر فيها. وتختلف جائزة الآغا خان للعمارة برسالتها عن غيرها من جوائز العمارة؛ كونها تختار مشاريع تتراوح من الارتقاء بالأحياء الفقيرة لتصل إلى المباني الخضراء الشاهقة الارتفاع- والتي لا تقدم نموذجا في التميّز المعماري فحسب، بل وتساهم نحو جودة حياة أفضل.

كما يختلف تفويض جائزة الآغا خان للعمارة عن العديد من جوائز العمارة الأخرى: فهي لا تقوم فقط بتكريم مهندسي العمارة، بل يمتد تكريمها ليشمل أطرافا أخرى شاركوا في المشاريع مثل البلديات، عمال البناء، أرباب العمل، العملاء، الحرفيين المهرة، والمهندسين، حيث تعتبر أنهم لعبوا جميعا أدوارا مهمة في إنجاز المشاريع. ومنذ انطلاقتها منذ 42 سنة مضت تلقى 116 مشروعا الجائزة كما تم توثيق أكثر من 9000 مشروع بناء.

في الدورة الأخيرة من الجائزة، تم اختيار ستة مشاريع للفوز بالجائزة التي تبلغ قيمتها المالية مليون دولار أمريكي. وهذه المشاريع، إضافة لمشروع “إعادة إحياء منطقة المحرق” في البحرين، هي: مشروع أركاديا التعليمي، في جنوب كنارشور (بنغلاديش)، والمتحف الفلسطيني في بيرزيت (فلسطين)، وبرنامج تنمية الأماكن العامة في جمهورية تتارستان (الاتحاد الروسي)، ومبنى محاضرات جامعة علیون دیوب في بامبي (السنغال)؛ وأخيرا مركز واسط للأراضي الرطبة في الشارقة (الإمارات العربية المتحدة).

 

 

كتب: محمد أدهم السيد

“غلوبال نيوز برس”